الترويج للعلامات التجارية في عصر شبكات التواصل الاجتماعي

23 دقيقة
التسويق للعلامة التجارية عبر وسائل التواصل الاجتماعي
في عصر فيسبوك ويوتيوب، أصبح بناء العلامة التجارية يشكّلُ تحدّياً مُضنياً ومُربكاً. ولم يكن من المفترض أن تصل الأمور إلى هذا الحد. فقبل عقد من الزمن، كانت معظم الشركات ترحّب بقدوم عصر ذهبي جديد لعملية الترويج للعلامة التجارية (Branding). فقد استعانت هذه الشركات بوكالات إعلانية متخصّصة بالأنشطة الإبداعية وبجيوش من المختصّين بالتكنولوجيا لنشر علامات تجارية جديدة في العالم الرقمي الواسع الأرجاء. وأخذت تنتشر في عالم العلامات التجارية كلمات ومصطلحات ولغة جديدة مشتركة لم تكن مألوفة من قبل تصف الانتشار السريع لهذه المواد الترويجية، وأشكال تداولها. ولكن على الرغم من كلّ هذا الهرج والمرج، إلا أنّ هذه الجهود لم تقدّم إلا القليل من النتائج المرجوّة.

راهنت الشركات رهاناً كبيراً على ما يسمّى غالباً "المحتوى الموسوم بعلامة تجارية" (Branded Content) معتبرة إيّاها واحدة من المزايا الأساسية لاستراتيجياتها الرقمية عند الحديث عن التسويق للعلامة التجارية عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تمتلكها. وكان المنطق السائد هو التالي: سوف تسمح شبكاتالتواصلالاجتماعي لشركتك بتحقيق قفزة نوعية بالمقارنة مع وسائل الإعلام التقليدية، وبإقامة علاقات مباشرة مع المستهلكين. فإذا ما رويت لهؤلاء المستهلكين قصصاً عظيمة وتواصلت معهم بشكل آني، فإنّ علامتك التجارية ستصبح مركزاً يستقطب مجموعة كبيرة من المستهلكين. وقد استثمرت الشركات مليارات الدولارات سعياً وراء تحقيق هذه الرؤية. لكن قلّة فقط من العلامات التجارية نجحت في استقطاب اهتمام يُذكر من قبل المستهلكين على الإنترنت. لا بل يبدو فعلياً بأنّ شبكاتالتواصلالاجتماعي قد جعلت العلامات التجارية "أقلّ" أهمية. فما هو الخطأ الذي حصل؟

عندما أصبحت الجماهير قادرة على اختيار عدم الحصول على الإعلانات، بات من الصعب على العلامات التجارية أن تشتري الشهرة بالمال.

إذا اردنا حلّ هذه الأحجية، يجب أن نتذكّر بأنّ العلامات التجارية تنجح عندما تحقق تقدماً خارقاً ثقاقياً. والترويج للعلامة التجارية هو عبارة عن مجموعة من التقنيات المصمّمة لجعل العلامات التجارية مهمّة بالنسبة لتلك الثقافة. وبالنسبة للتكنولوجيات الرقمية فهي لم تسهم فقط في خلق شبكات اجتماعية كامنة جديدة، وإنّما قادت أيضاً إلى حصول تغيّر في طريقة عمل الثقافة. فالجماهير الرقمية باتت الآن بمثابة ثقافة فعّالة ونشطة جدّاً من المبتكرين – وهي ظاهرة اسميها أنا "الثقافة الجماهيرية" (Crowdculture). تغيّر الثقافة الجماهيرية قواعد الترويج للعلامات التجارية، محدّدة التقنيات التي تنجح والتقنيات التي لا تنجح. فإذا ما فهمنا الثقافة الجماهيرية جيّداً، فإنّنا سنكون قادرين عندها على أن نعرف لماذا لم تنجح استراتيجيات "المحتوى الموسوم بعلامة تجارية" في تحقيق المراد منها، وما هي الطرق البديلة للترويج للعلامات التجارية والتي يمكن لشبكات التواصل الاجتماعية أن تدعمها.

لماذا نجحت المواد الإعلانية والإعلامية المروّجة للعلامة التجارية وعمليات الرعاية في الماضي؟

على الرغم من أنّ المروّجين يصرّون على أن المواد الإعلانية والإعلامية المروّجة للعلامة التجارية هي شيء جديد جذّاب، إلا أنّها من بقايا حقبة وسائل الإعلام الجماهيري القديمة التي أعيد تسويقها من جديد بشكل رقمي وإلكتروني. ففي الأيّام الأولى لتلك الحقبة، كانت الشركات تستعير المقاربات من وسائل الترفيه الشعبي لتجعل علاماتها التجارية مشهورة، معتمدة على رواية الحكايات القصيرة، والخدع السينمائية، والأغاني، والشخصيات التي تحظى بالتعاطف لكسب ودّ جماهيرها. فالإعلانات الكلاسيكية مثل إعلان آلكا سيلتزر (Alka-Seltzer) "لا أستطيع أن أصدّق أنني التهمته كلّه"، وإعلان فريتو لاي (Frito-Lay) الذي يلخص بكلمتي "فريتو برانديتو"، والإعلان الذي تقوم فيه فرح فاوست بدهن وجه جو ناماث بكريم نوكسيما للحلاقة (Noxema)، هي كلّها إعلانات علقت في ذاكرة الثقافة الشعبية كونها أدخلت المتعة إلى قلوب الجماهير.

لقد حقّق هذا الشكل من المواد الإعلانية والإعلامية المروّجة للعلامة التجارية نجاحاً كبيراً، لأنّ وسائل الإعلام الترفيهية كانت حكراً على فئة قليلة، وبالتالي فإنّ المنافسة الثقافية كانت محدودة. ففي الولايات المتّحدة الأمريكية، كان هناك ثلاثة شبكات تنتج برامج تلفزيونية لمدّة 30 أسبوعاً تقريباً كلّ عام ثمّ كانت تعيد بثّها مجدّداً. ولم تكن الأفلام توزّع إلا عبر صالات السينما المحلية؛ وبصورة مشابهة، كانت المنافسة بين المجلات تقتصر على ما هو مناسب للعرض على رفوف الصيدليات. وبالتالي فإنّ شركات التسويق الاستهلاكي كانت تشق دربها نحو الشهرة من خلال دفع المال مقابل عرض علاماتها التجارية ضمن هذه الساحة الثقافية المضبوطة بإحكام.

كما اقتحمت العلامات التجارية الحيّز الثقافي من خلال رعاية العروض والمناسبات التلفزيونية، حيث كانت تقرن نفسها بالبرامج الناجحة. وبما أنّ المعجبين لم يكونوا قادرين على الوصول إلى وسائل إعلامهم الترفيهية المفضّلة إلا بطريقة محدودة، فقد كانت العلامات التجارية بمثابة الوسطاء. فلعقود طويلة، كنّا معتادين على رعاية سلاسل الوجبات السريعة للأفلام الناجحة بقوّة، في حين كانت شركات السيّارات الفارهة ترعى بطولات الغولف وكرة المضرب، بينما كانت العلامات التجارية الخاصّة بالشباب هي من يرعى المهرجانات.

لكنّ ظهور التكنولوجيات الجديدة التي سمحت للجماهير باختيار عدم الحصول على الإعلانات – من شبكات الأقنية التلفزيونية (الكيبل) إلى أجهزة تسجيل الفيديو الرقمية (DVRs) وبعد ذلك الإنترنت – جعلت من الصعب على العلامات التجارية أن تشتري الشهرة بالمال. وبالتالي أصبحت الشركات مضطرّة الآن إلى المنافسة مباشرة مع الترفيه الحقيقي، فزادت من انخراطها المباشر. وكانت بي إم دبليو (BMW) الشركة الرائدة في صنع أفلام قصيرة للإنترنت. وسرعان ما أخذت الشركات تستعين بكبار مخرجي الأفلام من أمثال مايكل باي، وسبايك جونز، ومايكل غوندري، وويس آندرسون، وديفيد لينش، واندفعت نحو استعمال المزيد من المؤثرات الخاصّة المذهلة، ورفعت موازنات الإنتاج بشكل كبير.

قادت هذه الجهود الرقمية المبكّرة (التي سبقت عصر شبكات التواصل الاجتماعي) الشركات إلى الاعتقاد بأنّها إذا قدّمت أعمالاً إبداعية بمستوى هوليوودي وبسرعة الإنترنت، فإنّها ستكون قادرة على جمع جماهير غفيرة لتتحلّق متفاعلة مع علاماتها التجارية. ومن هنا ولد الضغط باتجاه المواد الإعلانية والإعلامية المروّجة للعلامة التجارية. لكنّ أبطال هذه الفكرة لم يكونوا يعوّلون على وجود منافس جديد، ففي هذه المرّة، لم تأتِ المنافسة من الشركات الإعلامية الكبيرة، وإنّما من الجماهير.

صعود الثقافة الجماهيرية

لطالما كان الابتكار الثقافي يأتي عبر التاريخ من هوامش المجتمع، مثل المجموعات المهمّشة، والحركات الاجتماعية، والدوائر الفنّية التي كانت تتحدّى المعايير والتقاليد السائدة عموماً. وكانت الشركات ووسائل الإعلام تتصرّف بمثابة الوسطاء، حيث كانت تنشر هذه الأفكار الجديدة ضمن السوق بأكمله. لكنّ شبكات التواصل الاجتماعي غيّرت كلّ شيء.

فكرة مقالة التسويق للعلامة التجارية عبر وسائل التواصل الاجتماعي

فقد باتت شبكات التواصل الاجتماعي تربط مجتمعات كانت يوماً ما منعزلة جغرافياً، ممّا زاد وبشكل كبير من وتيرة التعاون وكثافته. الآن، وبما أنّ هذه المجتمعات التي كانت متنائية يوماً ما أصبحت مرتبطة بشبكات كثيفة، فقد أصبح تأثيرها الثقافي مباشراً وجوهرياً. وتتّخذ هذه الثقافات الجماهيرية شكلين مميّزين: الأوّل هو الثقافات الفرعية التي تحتضن الإيديولوجيات والممارسات الجديدة، والثاني هو العوالم الفنيّة التي تخوض آفاقاً جديدة في الترفيه.

الثقافات الفرعية المضخّمة (Amplified subcultures)

يمكننا أن نجد اليوم ثقافة جماهيرية ناشطة حول أيّ موضوع تقريباً: من قهوة الإسبرسو، إلى موت ظاهرة الحلم الأمريكي، وروايات العصر الفيكتوري، والمفروشات المصنوعة بفن وحرفية، والليبرالية، وظاهرة التوسّع الحضري الجديد، والطباعة الثلاثية الأبعاد، والرسوم المتحرّكة اليابانية، ومراقبة الطيور، وتدريس الأطفال في المنازل عوضاً عن المدرسة، وحفلات الشواء. ففي الأيّام الخوالي، كان أعضاء هذه الثقافات الفرعية مضطرّين إلى الاجتماع شخصياً، ولم يكن لديهم سوى وسائل محدودة للتواصل بصورة جماعية عبر المجلات، وفي مرحلة لاحقة، عبر التقنيات البدائية مثل مجموعات يوسينت (Usenet groups) وكذلك (Meetups) لتشكيل مجموعات تتمحور حول الاهتمامات.

وسّعت شبكات التواصل الاجتماعي هذه الثقافات الفرعية وأضفت عليها بعداً ديمقراطياً. فمن خلال بضع نقرات على فأرة الكمبيوتر، بوسعك أن تقفز إلى مركز أي ثقافة فرعية، وستجد بأنّ التفاعلات المكثّفة للمشاركين تتحرّك بسلاسة ضمن الإنترنت، وفي الفضاءات المكانية، وفي وسائل الإعلام التقليدية. وها هم أعضاؤها يعملون معاً على دفع الأفكار والمنتجات والممارسات والجماليات الجديدة قدماً – متجاوزين حرّاس بوّابات الثقافة الجماهيرية. فمع صعود الثقافات الجماهيرية، أصبح المبتكرون الثقافيون والأسواق التي تتبنّى أفكارهم في مرحلة باكرة شيئاً واحداً.

العوالم الفنّية ذات المحرّكات الدافعة القويّة. يحتاج إنتاج الترفيه الشعبي المُبتكر إلى نمط مميّز من التنظيم، وهو ما يطلق عليه علماء الاجتماع اسم "العالم الفنّي". وفي العوالم الفنّية، يجتمع الفنانون (الموسيقيون، وصنّاع الأفلام، والكتّاب، والمصمّمون، ورسّامو الكاريكاتور، وغيرهم) في إطار منافسة تعاونية قائمة على الإلهام. وهم يعملون معاً، ويتعلّمون من بعضهم البعض، ويجرّبون الأفكار، ويدعمون بعضهم البعض. وغالباً ما تقود الجهود التعاونية للمشاركين في هذه "المشهديات" إلى تحقيق اختراقات إبداعية. فقبل صعود شبكات التواصل الاجتماعي، كانت الصناعات المعنيّة بالثقافة الجماهيرية (الأفلام، والتلفزيون، ووسائل الإعلام المطبوعة، والأزياء) تزدهر من خلال سرقة ابتكاراتها الصغيرة من هنا وهناك، وتعديلها لتناسب أغراضها.

لكنّ الثقافة الجماهيرية أصبحت المحرّك الدافع للعوالم الفنّيّة، الأمر الذي قاد إلى زيادة هائلة في أعداد المشاركين، وفي سرعة التفاعلات بينهم، وفي جودة هذه التفاعلات. فأنت لم تعد بحاجة لأن تكون جزءاً من المشهد المحلي؛ ولم تعد بحاجة إلى العمل لمدّة عام كامل للحصول على التمويل لفيلمك القصير وحقوق توزيعه. فقد بات ملايين روّاد الأعمال الثقافيين النجباء، يجتمعون الآن معاً على الإنترنت لصقل مواهبهم، وتبادل الأفكار، وتنقيح محتوى أعمالهم، والتنافس على إنتاج الأعمال التي تحقق الخبطات والنجاحات. والمحصّلة النهائية لذلك هي نمط جديد يقوم على صناعة نماذج ثقافية سريعة تسمح لك بالحصول على بيانات فورية حول حجم استقبال السوق لهذه الأعمال، وبالحصول على الأفكار الناقدة لهذه الأعمال، ومن ثمّ إعادة العمل عليها بحيث يمكنك صنع المحتوى الذي يلاقي أكبر صدى إيجابي بسرعة. وفي خضمّ هذه العملية، تظهر مواهب جديدة وأشكال فنّية جديدة. وبما أنّ هذا المحتوى الجديد يخترق كلّ زاوية وموضع في الثقافة الشعبية، فإنّه يأتي متجاوباً تماماً مع أذواق الجماهير، كما أنّ إنتاجه يأتي بتكلفة رخيصة. وبالتالي، فإنّ وجود هذه الثقافات الجماهيرية في عالم الفن هو السبب الرئيس الذي قاد إلى فشل "المواد الإعلانية والإعلامية المروّجة للعلامة التجارية".

ما بعد "المحتوى الموسوم بعلامة تجارية"

رغم أنّ الشركات كانت قد وضعت كل ثقتها في "المواد الإعلانية والإعلامية المروّجة للعلامة التجارية" خلال العقد الماضي، إلا أن البراهين العلمية والتجريبية الدامغة باتت تجبرهم على إعادة النظر في هذا الأسلوب. ففي ترتيبات الأقنية على يوتيوب أو انستغرام بحسب أعداد المشتركين، نادراً ما نرى أي أثر للعلامات التجارية للشركات الكبرى، حيث تمكّنت ثلاث منها فقط أن تخترق قائمة أكبر 500 قناة على يوتيوب. وعوضاً عنها، ستجد فنانين لم تسمع بهم من قبل قط، يظهرون وكأنّهم جاؤوا من العدم.

تُعتبرُ (PewDiePie) أنجح قناة على يوتيوب من حيث عدد المشاهدات حيث تتفوّق على أقرب المنافسين، وهي قناة يملكها شاب سويدي ينشر أفلاماً لم تتعرّض لأي مونتاج تقريباً مع تعليق صوتي بنبرة مزعجة على ألعاب الفيديو التي يلعبها. وبحلول يناير (كانون الثاني) 2016، كانت القناة قد حقّقت أكثر من 11 مليار مشاهدة، في حين زاد عدد المشتركين فيها عن 41 مليون مشترك.

فكيف حصل ذلك؟ تبدأ القصّة من الثقافات الفرعية الشبابية التي تشكّلت حول ألعاب الفيديو. فعندما وصلت إلى شبكات التواصل الاجتماعي، أصبحت قوّة قائمة بذاتها. فالثقافة الفرعية الكورية الجنوبية لألعاب الفيديو لأغراض الترفيه والتي كانت يوماً ما ظاهرة غريبة تحوّلت إلى ظاهرة عالمية وأنتجت رياضة لها جمهور واسع جداً، وتُعرفُ حالياً باسم الرياضات الإلكترونية (E‑Sports)، حيث وصل عدد مشجّعيها إلى أكثر من 100 مليون شخص. (وقد اشترى موقع أمازون مؤخراً شبكة الرياضات الإلكترونية تويتش (Twitch) مقابل 970 مليون دولار).

في الرياضات الإلكترونية، يقوم المذيعون بالتعليق على كلّ لعبة من ألعاب الفيديو. وقد اقتحم (PewDiePie) ورفاقه عالم التعليقات الرياضية هذه، محوّلين إيّاها إلى شكل جديد من من الكوميديا الشبابية. ويُعتبرُ اللاعبون الآخرون الذين يصوّرون أنفسهم مثل (VanossGaming) (الذي يحل في المرتبة 19 على يوتيوب ولديه 15.6 مليون مشترك)، و(elrubiusOMG) (في المرتبة 20 ولديه 15.6 مليون مشترك)، و(CaptainSparklez) (في المرتبة 60 ولديه 9 ملايين مشترك)، و(Ali-A) (في المرتبة 94 ولديه 7.4 ملايين مشترك)، من الأعضاء النافذين في هذه المجموعة. وكان تنظيم هذه الثقافة الجماهيرية قد جرى في بادئ الأمر من قبل منصّات إعلامية متخصّصة نشرت هذا المحتوى ومن قبل مُعجبين داخليين تجمّعوا حولها ووجّهوا إليها النقد البنّاء حيث أثنوا على بعض الجهود وسخطوا على جهود أخرى. وقد أصبح (PewDiePie) هو النجم في عالم الفن الرقمي هذا – تماماً كما كان جان ميشيل باسكيا (Jean-Michel Basquiat) وباتي سميث (Patti Smith) هما النجوم في عوالم الفن الحضري في الأيّام التي سبقت العصر الرقمي. لكنّ الفرق الرئيس يكمن في أنّ الثقافة الجماهيرية قد دفعت (PewDiePie) ليحظى بالشهرة والنفوذ العالميين خلال زمن قياسي.

يُعتبرُ هذا النوع من كوميديا الألعاب مجرّد نوع واحد من مئات الأنواع الجديدة التي أوجدتها الثقافات الجماهيرية. وتملأ هذه الأنواع كلّ ثغرة تخطر في البال في عالم الترفيه في الثقافة الشعبية، من النصائح الخاصّة بالأزياء النسائية والوجبات الدسمة المحبوبة، إلى المجموعات الجماهيرية المعنيّة بالنقد الرياضي. وليس بوسع العلامات التجارية أن تنافسها، على الرغم من الاستثمارات التي تضخّها. ولنقارن بين (PewDiePie)، الذي يرتجل أفلاماً رخيصة في بيته، وماكدونالدز، التي تُعتبرُ واحدة من أكثر الجهات إنفاقاً على شبكات التواصل الاجتماعي. فقناة ماكدونالدز على يوتيوب تحتل المرتبة 9.414 ولديها 204 آلاف مشترك. أمّا شعبية (PewDiePie) فتبلغ 200 ضعف شعبية ماكدونالدز ومقابل جزء صغير جدّاً من التكلفة.

أو لنأخذ مثالاً ثانياً هو شركة ريد بول (Red Bull)، والتي تُعتبر صاحبة أشهر قصّة نجاح في مجال "المواد الإعلانية والإعلامية المروّجة للعلامة التجارية". فقد أصبحت مركزاً أساسياً لشبكات التواصل الاجتماعي ينتج مواداً رياضية بديلة تتّصف بالقوّة الشديدة. ورغم أنّ ريد بل تنفق معظم موازنتها التسويقية السنوية البالغة ملياري دولار على المواد الإعلانية والإعلامية المروّجة لعلامتها التجارية، إلا أنّ قناتها على يوتيوب، والتي تقع في المرتبة 184، وتضمّ 4.9 ملايين مشترك، تأتي خلف عشرات الشركات الناشئة التي تنتمي إلى الثقافة الجماهيرية والتي تقلّ موازناتها الإنتاجية عن 100 ألف دولار أمريكي. حتّى أنّ قناة (Dude Perfect) (التي تحتل المرتبة 81 مع 8 ملايين مشترك)، والتي أسّسها خمسة من طلاب الجامعة في تكساس ويعرضون فيها بعض الرميات الساحرة للكرات وبعض الأنشطة الرياضية المرتجلة، يُعتبرُ أداؤها أفضل من أداء ريد بل.

تُعتبرُ كوكا كولا قصّة أخرى تستحقّ التأمّل. ففي العام 2011، أعلنت الشركة عن استراتيجية تسويقية جديدة - أطلقت عليها اسم "ليكويد آند لينكد" (Liquid & Linked) – بكثير من الحفاوة والضجيج. وقد حوّلت الشركة تركيزها من "التميّز الإبداعي" (وهي المقاربة التي كانت متّبعة في وسائل الإعلام الجماهيري القديمة) إلى "التميّز في المواد الترويجية التي تناسب شبكات التواصل الاجتماعي". وقد زعم جوناثان ميلدناهول من كوكا كولا بأنّ الشركة ستظل تنتج "أفضل المواد الترويجية جاذبية في العالم"، الأمر الذي سيجعلها تحصل على اهتمام "نسبة أكبر بكثير من الثقافة الشعبية"، وتضاعف مبيعاتها بحلول العام 2020.

في العام التالي، أطلقت كوكا كولا رهانها الكبير الأوّل، حيث حوّلت الموقع الإلكتروني للشركة والذي يتّسم بشيء من الجمود إلى مجلّة إلكترونية بعنوان "كوكا كولا جورني" أي "رحلة كوكا كولا"، تعرض قصصاً حول كلّ موضوع تقريباً من مواضيع الثقافة الشعبية – من الرياضات والغذاء إلى الاستدامة والرحلات. وهي تُعتبرُ مثالاً نموذجياً عن استراتيجية المواد الإعلانية والإعلامية الترويجية لعلامة تجارية.

مرّ على نشر هذه المجلّة أكثر من ثلاث سنوات، وهي بالكاد تحظى بأيّ مشاهدات، حيث أنّها لم تخترق قائمة أهم 10 آلاف موقع في الولايات المتّحدة الأمريكية، أو قائمة أهم 20 ألف موقع على مستوى العالم. وكذلك الحال فإنّ قناة كوكا كولا على يوتيوب (التي تقع في المرتبة 2.749) تضمّ 676 ألف مشترك فقط.

وكما يتّضح، فإنّ المستهلكين لا يعيرون اهتماماً كبيراً للمواد الترويجية التي تضعها العلامات التجارية. وقلّة من الناس فقط ترغب برؤية هذه المواد الترويجية على شاشات هواتفها الذكية وحواسبها. ومعظمهم ينظر إليها بوصفها مواداً زائدة لا لزوم لها، أو بمثابة مواد غير مرغوبة تروّج للعلامة التجارية. وعندما أدرك فيسبوك ذلك، بدأ يتقاضى المال من الشركات مقابل حشر هذه المواد الترويجية بين منشورات الأصدقاء بعد أن وضع عليها عبارة "إعلان مدعوم مالياً" (Sponsored)، بحيث يظهر هذا الإعلان لدى الناس الذين يُفترض بهم أن يكونوا من مشجّعي تلك الشركات.

الشيء الذي ينجح في حالة المطربة شاكيرا على شبكات التواصل الاجتماعي قد يرتدّ سلباً على كرست وكلوركس.

لكنّ المشكلة التي تواجهها الشركات هي مشكلة بنيوية، ولا علاقة لها بالجانب الإبداعي. فالشركات الكبيرة تنظّم جهودها التسويقية بطريقة مناقضة لما تسير عليه الأمور في عوالم الفن، وفق أسلوب أطلقت عليه أنا مصطلح "بيروقراطيات العلامات التجارية" (Brand Bureaucracies). فهم يتفوّقون في تنسيق وتنفيذ البرامج التسويقية المعقّدة ضمن عدّة أسواق في جميع أنحاء العالم. لكنّ هذا النموذج المؤسسي يقود إلى نوع من الأداء الباهت عندما يتعلّق الأمر بالابتكار الثقافي.

رعاة العلامات التجارية يفقدون دورهم كوسطاء

تحظى الأدوات الترفيهية – أي الفنّانين، والرياضيين، والفرق الرياضية، والأفلام، والبرامج التلفزيونية، وألعاب الفيديو – بشعبية هائلة أيضاً على شبكات التواصل الاجتماعي. ففي جميع هذه الشبكات الكبيرة، نجد المشاهير يهيمنون على القائمة المعتادة لأشهر الصفحات. فعلى موقع يوتيوب، نجد بأنّ الموسيقيين ريهانا (Rihanna)، ووان دايريكشن (One Direction)، وكاتي بيري (Katy Perry)، وإمينيم (Eminem)، وجاستن بيبر (Justin Bieber)، وتايلور سويفت (Taylor Swift) قد تمكّنوا من استقطاب جماهير ضخمة. وعلى تويتر، هناك مجموعة مشابهة من المطربين، إضافة إلى النجوم الإعلاميين مثل إيلين دي جينيريس (Ellen DeGeneres)، وجيمي فالون (Jimmy Fallon)، وأوبرا (Oprah)، وبيل غيتس (Bill Gates)، وبابا الفاتيكان. كما يتجمّع المشجّعون أيضاً حول تغريدات النجوم الرياضيين مثل كريستيانو رونالدو، وليبرون جميس (LeBron James)، ونايمار، وفرق مثل برشلونة وريال مدريد (اللذين يحظيان بشعبية تفوق وبأشواط شعبية العلامتين التجاريتين الرياضيتين المهيمنتين نايكي وأديداس). ولا يختلف الوضع كثيراً على انستغرام. ويعمل هؤلاء المشاهير جميعهم على مضاعفة أعداد مشجّعيهم الذين يُظْهِرونَ قدراً كبيراً من الحماسة والتفاعل، والذين كان الخبراء ومنذ فترة طويلة قد وعدوا بأن تقود شبكات التواصل الاجتماعي إلى زيادة أعدادهم. لكنّ ذلك غير متاح للشركات ولسلعها وخدماتها التي تحمل علاماتها التجارية. وإذا ما استعدنا الأحداث، فلا يجب أن تكون هذه النتيجة مفاجئة: فالتفاعل مع نجم مفضّل في عالم الترفيه يختلف عن التفاعل مع علامة تجارية، أو سيّارة مستأجرة، أو عصير البرتقال. فالشيء الذي ينجح في حالة المطربة شاكيرا قد يرتدّ سلباً على كرست وكلوركس. فالفكرة القائلة بأنّ المستهلكين قد يرغبون بالحديث عن مشروب غازي بذات الطريقة التي يناقشون بها مواهب رونالدو وميسي هي فكرة سخيفة.

حملة شركة "اندر ارمور"

تسمح شبكات التواصل الاجتماعي للمعجبين بإنشاء تجمّعات غنيّة حول النجوم والفنّانين ومشاهير عالم الترفيه يتفاعل أعضاؤها مباشرة معهم بواسطة عدد هائل من التغريدات والمنشورات. كما باتت الفرق الرياضية الآن تستعين بالسفراء على شبكات التواصل الاجتماعي للوصول إلى المعجبين بشكل آني خلال المباريات، وحالما تنتهي المباراة، يرسل اللاعبون بعض الصور الخاصّة ويقومون بالدردشة من داخل غرف تغيير الملابس. وإضافة إلى الشبكات الاجتماعية الرئيسة، فإن هناك منصّات اجتماعية جديدة مثل فيفو (Vevo)، وساوند كلاود (SoundCloud)، وآبل ميوزيك (Apple Music) تمنح المزيد من الفرص للتواصل الإلكتروني المباشر.

بطبيعة الحال، يظلّ المشاهير والنجوم في عالم الترفيه أكثر من سعداء بأخذ أموال الجهات الراعية، لكنّ القيمة الثقافية التي يُفترض أن ينتقل تأثيرها إلى العلامة التجارية في تراجع.

الترويج للعلامة التجارية من خلال الثقافة (Cultural Branding)

رغم أنّ صعود الثقافة الجماهيرية يؤدّي إلى تراجع تأثير "المحتوى الموسوم بعلامة تجارية" وعمليات الرعاية، إلا أنّه عزّز ظهور مقاربة بديلة أدعوها أنا "الترويج الثقافي للعلامة التجارية" (Cultural Branding). وتظهرُ قوّة هذه المقاربة من المثال الدراماتيكي لسلسلة مطاعم الوجبات المكسيكية السريعة تشيبوتلى (Chipotle) بين 2011 و2013 (قبل ظهور الحالات المرضية التي تنتقل عبر الطعام مؤخراً والتي أضرّت بسمعة هذه الشركة).

اغتنمت تشيبوتلى فرصة ثقافية هائلة سنحت عندما تحوّلت الحركات، التي تتحدّى ثقافة الأغذية الصناعية المهيمنة على أمريكا، والتي كانت يوماً ما حركات هامشية، إلى قوّة يُحسب لها حساب على شبكات التواصل الاجتماعي. وقد قفزت سلسلة المطاعم هذه إلى مركز الأحداث بوصفها بطلة لإيديولوجيا الثقافة الجماهيرية هذه. ومن خلال تطبيقها لمقاربة الترويج الثقافي للعلامة التجارية، أصبحت تشيبوتلى واحدة من أكثر العلامات التجارية جاذبية في أمريكا، حيث بات ذكرها يجري على كلّ لسان (وإن كانت المشكلات التي طالتها مؤخراً بخصوص سلامة الغذاء قد أثّرت على صورتها). وبالتحديد، نجحت تشيبوتلى من خلال اتّباعها للمبادئ الخمسة التالية:

1- رسم خارطة للثقافة التقليدية المهيمنة

في مقاربة الترويج الثقافي للعلامة التجارية، تقوم هذه العلامة التجارية بالتسويق لإيديولوجيا مُبتكرة تشكّل قطيعة مع التقاليد السائدة. ولكي تنجح العلامة التجارية في فعل ذلك، فإنّها بحاجة في بادئ الأمر إلى تحديد التقاليد التي يجب تجاوزها، وأنا أطلق عليها اسم "التقليد الثقافي" (Cultural Orthodoxy). كانت إيديولوجيا الأغذية الصناعية في أمريكا قد ابتكرت في مطلع القرن العشرين على يد شركات تسويق الأغذية. فقد وصل الأمريكيون إلى الاعتقاد بأنّ الشركات الكبرى قادرة على الاستفادة من الاكتشافات العلمية المذهلة (مثل الزبدة الصناعية (المارغرين)، والقهوة السريعة الذوبان، وعصير البرتقال الذي يمكن تحويله إلى بودرة سريعة الذوبان) وكذلك من عمليات التصنيع القياسية، ويمكنها وتحت إشراف وزارة الأغذية والزراعة الأمريكية، ضمان إنتاج أغذية وفيرة، وصحية، ولذيذة. وقد شكّلت هذه الافتراضات أساساً لقطاع الوجبات السريعة منذ انطلاقة ماكدونالدز في ستينيات القرن الماضي.

2- البحث عن الفرصة الثقافية المتاحة

مع مرور الوقت، تحصل بعض الأحداث المُزعزعة في المجتمع والتي تُفْقِدُ التقاليد المهيمنة جاذبيتها، حيث يبدأ المستهلكون بالبحث عن البدائل، ممّا يعطي فرصة للعلامات التجارية المُبتكرة لكي تدفع بإيديولوجيا جديدة ضمن القطاعات التي تعمل فيها.

بالنسبة للأغذية الصناعية، جاءت لحظة التحوّل عام 2001، عندما صدر كتاب إيريك شواسر الذي حمل عنوان "أمّة الوجبات السريعة" (Fast Food Nation )، حيث شكّل تحدّياً قوياً لهذا القطاع. وقد تبعه في العام 2004 فيلم مورغان سبورلوك (Morgan Spurlock) بعنوان "أنا ذو الحجم الضخم جدّاً" (Super Size Me)، وفي العام 2006 كتاب مايكل بولان (Michael Pollan) بعنوان "معضلة الأشخاص اللاحمين والنباتيين" (The Omnivore’s Dilemma) الذي ترك نفوذاً كبيراً. لقد أثّرت هذه الأعمال الناقدة بطريقة دراماتيكية على الشريحة العليا من الطبقة الوسطى، وسرعان ما أدّت إلى انتشار المخاوف بخصوص الأغذية الصناعية وأعطت زخماً قوياً لسوق الأغذية الكاملة، ومتاجر تريدر جوز (Trader Joe’s)، ومجموعة من المورّدين الآخرين في أسواق الأطعمة الفاخرة. ونرى التحوّل ذاته يحصل الآن في دول أخرى تهيمن عليها إيديولوجيا الأغذية الصناعية. فعلى سبيل المثال، لعب الطاهيان المشهوران جيمي أوليفر (Jamie Oliver) وهيو فيرنلي-وينينغستال (Hugh Fearnley-Whittingstall) في المملكة المتّحدة دوراً مشابهاً.

أسهمت الثقافة الجماهيرية في تحويل أحد الهموم النخبوية إلى مأساة اجتماعية وطنية.

قبل ظهور شبكات التواصل الاجتماعي، كان نفوذ هذه الأعمال سيظلّ مقتصراً على هذا الجزء الصغير من المجتمع. ولكن عوضاً عن ذلك، تلقّفت الثقافات الجماهيرية هذه الانتقادات ونشرتها على أوسع نطاق ممكن، ممّا أسهم بانتشار حالة من القلق من الأغذية الصناعية بين صفوف عموم أفراد المجتمع. وبدأت الأخبار المتعلّقة بكلّ مشكلة كبيرة مرتبطة بإنتاج الأغذية الصناعية – مثل الأغذية المعالجة المليئة بالسكّر، والمواد الحافظة المسرطنة، وهرمون النمو البقري التخليقي (rBGH) في الحليب، وتسرّب بيسفينول (A) من البلاستيك، والكائنات المعدّلة وراثياً (GMOs) وغيرها الكثير – تنتشر بسرعة على الإنترنت. كما انتشرت على الشبكة العنكبوتية، وكالنار في الهشيم، أفلام الفيديو التي تبيّن كيفية صنع ما يشبه اللحم من مواد مطحونة مأخوذة من بقايا الأبقار. وشعر الأهل بقلق كبير تجاه الأطعمة التي كانوا يقدّمونها إلى أولادهم. وأسهمت الثقافة الجماهيرية في تحويل أحد الهموم النخبوية إلى مأساة اجتماعية وطنية شكّلت تحدّياً عامّاً واسع النطاق.

3- استهداف الثقافة الجماهيرية

لطالما كان مناهضو إيديولوجيا الأغذية الصناعية ينشطون على هامش المجتمع لأكثر من 40 عاماً، ولكنّهم لطالما عانوا أيضاً من التهميش بسهولة حيث كانوا يوصفون بأنّهم مجانين. وكانت هناك ثقافات فرعية صغيرة نشأت وتطوّرت حول الزراعة العضوية، والمواشي التي تربّى في المراعي الطبيعية، حيث كان أعضاء هذه الثقافات الفرعية يكسبون عيشهم على هامش السوق، وتحديداً ضمن الأسواق المدعومة من المجتمع المحلي وأسواق المزارعين. ولكن مع انطلاقة شبكات التواصل الاجتماعي، دفعت مجموعة نافذة ومتنوّعة من الثقافات الفرعية المتقاطعة بقوّة باتّجاه إدخال الابتكارات في مجال الغذاء. وقد شملت هذه المجموعات الفرعية كلّاً من المدافعين عن مفهوم التغذية الارتقائية (Evolutionary Nutrition) والحميات الغذائية بأسلوب (Paleo) التي تتجنب الحبوب والألبان والأجبان والأغذية المعالجة، ومربي المواشي الذين يتّبعون أسلوب الرعي المستدام، والجيل الجديد من الناشطين البيئيين، وأصحاب الحدائق المقامة داخل الأبنية في المدن، والمطاعم التي تقدّم وجباتها بناءً على مكوّنات أحضرت من المزرعة إلى المائدة مباشرة. وخلال وقت قصير للغاية، تكوّنت حركة ثقافية هائلة أخذت تنظّم صفوفها حول فكرة إحياء ثقافة إعادة الأغذية إلى الحقبة ما قبل الصناعية. وقد نجحت سلسلة تشيبوتلى لأنّها قفزت إلى صفوف هذه الثقافة الجماهيرية وتبنّت قضيتها.

4- نشر الإيديولوجيا الجديدة

روّجت سلسة مطاعم تشيبوتلى لإيديولوجيا إعادة الأغذية إلى الحقبة ما قبل الصناعية باستعمال فيلمين. ففي العام 2011، أطلقت الشركة فيلم "العودة إلى البداية" (Back to the Start)، وهو عبارة عن فيلم للرسوم المتحرّكة مؤلّف من شخصيات كرتونية بسيطة. ويعرض الفيلم مزرعة قديمة الطراز تتحوّل إلى نموذج ساخر عن مزرعة صناعية مفرطة في آلياتها، حيث نرى الخنازير وقد حُشرت معاً ضمن حظيرة اسمنتية، ثم تدخل ضمن خطّ للتجميع يجري فيه حقنها بمواد كيماوية تؤدّي إلى تسمينها لتتحوّل وتأخذ شكلاً بيضوياً، ثمّ تضغط لتصبح على شكل مكعّبات توضع في أسطول من الشاحنات الكبيرة. يشعر المزارع الذي يظهر في الفيلم بالأسى من هذا التحوّل ويقرّر إعادة مزرعته مجدّداً إلى شكلها الأصلي كمرعى طبيعي واسع.

أمّا الفيلم الثاني الذي يحمل عنوان "الرجل النحيل" (The Scarecrow)، فقد كان بمثابة سخرية من شركة أغذية صناعية حاولت تسويق منتجاتها من خلال وضع صور لمزارع طبيعية عليها. والشركة فعليّاً هي عبارة عن مصنع يجري فيه حقن الحيوانات بالأدوية ومعاملتها بطريقة غير إنسانية. وهي تنتج وجبات مسبقة الصنع دمغت بعبارة "لحم بقري صافٍ 100%"، يتناولها بكلّ شغف أطفال يجهلون كيف يجري تصنيعها حقيقة. يعرض الفيلم شخصاً نحيل الجسد هو أحد عمّال المصنع، والذي يشعر بالاكتئاب نتيجة لما يراه بأمّ عينه حتّى خطرت له فكرة. حيث يقطف مجموعة من منتجات حديقته الخاصّة من الخضار والفاكهة، ويأخذها إلى المدينة ويفتتح بسطة صغيرة لبيع الطعام، تشير ضمناً إلى سلسة مطاعم تشيبوتلى.

عندما أُطلقَ الفيلمان، لم يحظيا باهتمام كبير في وسائل الإعلام، لكنّهما سرعان ما حققا انتشاراً واسعاً على شبكات التواصل الاجتماعي. وقد كان الفيلمان مؤثرين جدّاً، حيث شاهدهما عشرات الملايين، وولدا الكثير من الاهتمام في وسائل الإعلام، وساعدا في تحقيق مكاسب ملفتة للنظر في المبيعات والأرباح. فقد فاز كّل واحد منهما بالجائزة الكبرى في مهرجان كان للإعلان.

إنّ فهم فيلمي تشيبوتلى ببساطة بوصفهما مثالين عظيمين على نجاح المواد الإعلانية والإعلامية المروّجة للعلامة التجارية هو فهم خاطئ تماماً. فهذان الفيلمان نجحا لأنّهما تجاوزا مجرّد تقديم وجبة ترفيهية عاديّة. نعم، لقد كانا مليئين بالفن الجميل، لكنّ هناك آلاف الأفلام المشابهة في جمالها الفنّي والتي لا تنال النصيب ذاته من النجاح. كما أنّ قصّتيهما لم تكونان بالضرورة حكايتين أصيلتين وغير مسبوقتين؛ بل كانتا قصّتين متكرّرتين جدّاً، وبإبداع قوي خلال العقد الماضي تقريباً. لكنّ هذا النجاح الباهر الذي حققاه على شبكات التواصل الاجتماعي، جاء لأنّهما كانا بمثابة أسطورتين عبّرتا وبشغف كبير عن الثقافة الجماهيرية المهتمّة بإعادة الأغذية إلى الحقبة ما قبل الصناعية، والتي كانت آخذة بالتبرعم والنمو في ذلك الوقت. لقد عبّرت تشيبوتلى عن رؤية مُلهَمة لعودة أمريكا إلى تقاليد الإنتاج الزراعي الرعوي والغذائي، وعكسها لمسار العديد من المشاكل في النظام الغذائي المهيمن.

لقد كانت الوجبات السريعة هي الشيء المقيت بالنسبة للحركة المهتمّة بإعادة الأغذية إلى الحقبة ما قبل الصناعية، وبالتالي فإنّ فكرة قيام شركة رئيسة في مجال الوجبات السريعة بالترويج لتلك القصّة كانت حدثاً زاخراً بالكثير من المعاني بالنسبة لهذه الجماهير. لقد كانت تشيبوتلى بذلك تتفوّق على المطاعم التي تقدّم بقايا البقر المطحون لزبائنها على أنها لحوم! لا بل أكثر من ذلك، كانت الأغذية المنتجة محلياً وبشكل عضوي باهظة التكلفة، لكن في مطاعم تشيبوتلى، كان بوسع الناس الآن التخفيف من مخاوفهم من خلال تناول وجبة بوريتو مقابل 7 دولارات. وبما أنّ الفيلمين اللذين أنتجتهما تشيبوتلى كانا يتطرّقان إلى المخاوف الأساسية التي تقع في صلب الثقافة الجماهيرية، فلم يكونا مضطرين أصلاً إلى المنافسة في فئة المواد الترفيهية العظيمة.

5- الابتكار المتواصل، باستعمال الإضاءات الثقافية

يمكن لأيّ علامة تجارية أن تحافظ على ديمومة أهميتها ضمن ثقافة معيّنة من خلال اللعب على وتر القضايا المثيرة للاهتمام أو المثيرة للجدل والتي تهيمن على الخطاب الإعلامي المرتبط بإيديولوجيا معيّنة. وهذا ما أجادت شركة بن آند جيريز (Ben & Jerry’s) فعله من خلال تبنّيها لفلسفتها المستدامة في عملها. فقد لجأت الشركة إلى أسلوب طرح المنتجات الجديدة لكي تواجه باقتدار إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان بخصوص بعض القضايا التي كانت تشغل الناس في ذلك الوقت مثل الأسلحة النووية، وتدمير الغابات المطيرة، والحرب على المخدرات.

ولكي تتمكّن تشيبوتلى من البقاء والازدهار، يتعيّن عليها أن تواصل أداء دورها القيادي في القضايا التي تشكّل إضاءات ثقافية وذلك من خلال المنتجات والمواد الصحفية الصادرة عنها. وقد كانت الشركة أقلّ نجاحاً في هذا الصدد: فقد أتبعت عملها بسلسلة هولو (Hulu) التي لم تترك أثراً كبيراً على شبكات التواصل الاجتماعي لأنّها كانت ببساطة تقليداً للفيلمين السابقين، عوضاً عن أن تطرح إضافات ثقافية جديدة. ثمّ انتقلت تشيبوتلى إلى قضية جديدة، حيث تصدّت لموضوع تقديم الأغذية الخالية من الكائنات المعدّلة وراثياً. وإذا ما نحّينا جانباً حقيقة أنّ هذا الزعم شكّل تحدّياً لمصداقيتها (وخاصّة أن تشيبوتلى كانت لا تزال تبيع لحوم أبقار تغذّت على حبوب معدّلة وراثياً، كما كانت تقدّم مشروبات غازية محلّاة بمواد معدّلة وراثياً)، إلا أن تركيزها على الأغذية المعدّلة وراثياً كان بمثابة إضاءة ضعيفة نسبياً، ولا يُعتبرُ قضية إشكالية إلا بنظر الناشطين جدّاً فقط من زبائنها، وأمراً معلناً عنه في مئات المنتجات. وقد أخفقت هذه الجهود في تحقيق التعبئة المرجوّة وسط الثقافة الجماهيرية. وكان هناك عدد من الإضاءات الأخرى، مثل المشروبات السكّرية، والزيوت النباتية المصنّعة، التي كانت بمثابة إشكاليات أكبر وكان ينبغي على شركة غذائية كبيرة أن تتصدّى لها.

بطبيعة الحال، يمكن لتبنّي إيديولوجيا معيّنة بهدف تبوّء موقع القيادة في السوق الكبيرة أن يكون سيفاً ذا حدّين. فالعلامة التجارية يجب أن تفي بما تعد به، وإلا فإنّها ستواجه الكثير من التحدّيات. تُعتبرُ مطاعم تشيبوتلى شركة كبيرة ونامية ولديها العديد من العمليات التي ترقى إلى المستوى التصنيعي، وليست عبارة عن مطعم شعبي يقدّم الأغذية القادمة من المزرعة إلى المائدة مباشرة. وبالتالي فإنّ تقديم أطعمة طازجة قابلة للفساد، وهو ما التزمت الشركة به بوصفها شركة رائدة في مجال الأغذية التي تعود إلى الحقبة ما قبل الصناعية، يمثّل تحدّياً هائلاً على المستوى العملي والتشغيلي. وقد تلقّت سمعة تشيبوتلى ضربة أليمة نتيجة حالات التلوّث بجرثومة الإشريقية الكولونية والفيروس المعوي والتي حظيت بتغطية إعلامية واسعة النطاق. ولن تتمكن تشيبوتلى من استعادة ثقة الزبائن من خلال الإعلانات أو حملات العلاقات العامّة. وإنّما يتعيّن على هذه الشركة أن تقنع الثقافة الجماهيرية بأنّها سوف تضاعف التزامها بجهودها الرامية إلى إعادة الأغذية إلى الحقبة ما قبل الصناعية بالشكل الصحيح، وعندئذ سوف تدافع الجماهير عن علامتها التجارية مجدّداً.

التنافس على كسب الثقافات الجماهيرية

يفرض الترويج الفعّال للعلامة التجارية باستخدام شبكات التواصل الاجتماعي على الشركات استهداف الثقافات الجماهيرية. وبالتالي فقد باتت معظم العلامات التجارية هذه الأيام تحاول إثبات نفسها من خلال اتّباع التوجّهات السائدة. لكنّ هذه المقاربة المستخدمة في الترويج للعلامات التجارية هي المقاربة المنتهجة في مجال السلع، حيث أنّ هناك مئات الشركات التي تفعل الشيء ذاته متّبعة قائمة التوجّهات العامّة ذاتها. لذلك من غير المفاجئ ألا يهتمّ المستهلكون بكلّ هذه الجهود. لكنّ استهداف إيديولوجيات جديدة نابعة من الثقافات الجماهيرية يمكن أن يُبرز وجهة نظر معيّنة ويجعلها تتميّز وسط البيئة الإعلامية المُتخمة.

لنأخذ مثلاً فئة منتجات العناية الشخصية، حيث تمكّنت ثلاث علامات تجارية هي دوف (Dove)، وآكس (Axe)، وأولد سبايس (Old Spice)، من توليد قدر هائل من الاهتمام والتماهي في أوساط المستهلكين ضمن فئة لطالما كانت تتّصف تاريخياً بقدر ضئيل من التفاعل، وهي فئة لا يتوقّع المرء أن تحظى بالاهتمام أبداً على شبكات التواصل الاجتماعي. فقد نجحت هذه الشركات من خلال الطرح الرائد لإيديولوجيات مميّزة في مجال الفروق بين الرجال والنساء، وهي إيديولوجيات كانت قد تشكّلت حولها مجموعة من الثقافات الجماهيرية.

استهدفت شركة آكس جمهور الرجال، لتنهل المكاسب منه. ففي أواخر تسعينيات القرن الماضي، أسهمت الأكاديميات في الجامعات الأمريكية في انتشار الأفكار النسوية الناقدة للثقافة الأبوية. وقد أدّت هذه الهجمات التي شنّتها الحركة النسوية إلى ردّة فعل مضادّة من الجهات المحافظة التي سخرت من السياسات المطالبة بالمساواة بين الجنسين، وبضرورة استعمال عبارات مقبولة سياسياً في وصف الأمور. وقد زعم أصحاب هذا التوجّه بأنّ الرجال معرّضون للحصار وبأنّهم بحاجة إلى إعادة إذكاء ذكوريتهم التقليدية. وفي المملكة المتّحدة، ثمّ الولايات المتّحدة الأمريكية، قاد هذا التمرّد إلى ظهور شكل من التحيّز الجنسي الذي ينطوي على مفارقة يدعى "ثقافة الفتوة". وعادت المجلات الجديدة مثل ماكسيم (Maxim) وإف إتش إم (FHM)، ولوديد (Loaded) إلى تقليد حقبة مجلّة بلاي بوي (Playboy)، حيث أخذت تعرض قصصاً مليئة بالإثارة مع بعض الصور التي كانت لا تخلو من شيء من الإباحية. وقد نجحت هذه الإيديولوجيا في العزف على الوتر الحساس لدى العديد من الشباب الذكور. وبحلول أواسط العقد الأوّل من الألفية الجديدة، بدأت هذه الثقافة الرجولية تنتقل إلى عالم الإنترنت بوصفها ثقافة جماهيرية حيوية.

كانت آكس (التي تُباع في المملكة المتّحدة وإيرلندا باسم لينكس (Lynx)) تسوّق في أوروبا وأمريكا اللاتينية منذ ثمانينيات القرن العشرين، لكنّها كانت قد أصبحت علامة تجارية قديمة الطراز وخاسرة، واستمرّ ذلك الوضع حتّى انضمّت الشركة إلى جوقة ثقافة الفتوة عبر حملة "تأثير آكس" (The Axe Effect) التي حاولت تقديم إيحاءات جنسية متطرّفة وطنّانة وغير مقبولة سياسياً. وقد انتشرت كالنار في الهشيم على الانترنت ورسّخت موقع آكس فوراً بوصفها رائدة الثقافة الرجولية.

أمّا شركة دوف، فقد استهدفت الجماهير التي تنظر إلى أجسادها نظرة إيجابية والمتصالحة مع نفسها. وقد شكّل الموقف القوي لشركة آكس فرصة مثالية لعلامة تجارية أخرى لكي تتولّى الريادة في الجانب النسوي من هذه "الحرب بين الجنسين". وقد كانت دوف علامة تجارية متواضعة قديمة الطراز أيضاً ضمن فئة كان التسويق فيها عادة يقلّد التوجّهات السائدة في عالم الجمال والتي تفرضها بيوتات الأزياء ووسائل الإعلام. وبحلول العقد الأول من الألفية الثانية، كانت النظرة المثالية إلى جسد المرأة قد أخذت أبعاداً متطرّفة جدّاً. فقد بدأت الانتقادات الموجّهة من أتباع الفكر النسوي والتي انتقدت دفع النساء إلى تخفيض وزنهن واستعمال الملابس المخصّصة للأشخاص الشديدي النحول تلقى رواجاً في وسائل الإعلام التقليدية، وعلى شبكات التواصل الاجتماعي. ونتيجة لذلك، فإن التسويق في مجال الجمال، وعوضاً عن تقديم نموذج يمكن للنساء التطلّع إليه، أصبح ممقوتاً ومنفرّاً بالنسبة للكثير منهنّ.

إنّ استهداف العلامات التجارية لإيديولوجيات جديدة نابعة من الثقافات الجماهيرية يمكن أن يجعلها تتميز وتبرز.

حاولت دوف الاستفادة من هذه الثقافة الجماهيرية الناشئة من خلال إطلاق "حملة من أجل جمال حقيقي" (Campaign for Real Beauty)، والتي احتفت فيها بجسد المرأة بجميع أشكاله الطبيعية والمتنوّعة، سواء كانت المرأة كبيرة، أم صغيرة، أم بدينة، أم نحيفة، أم قصيرة، أم طويلة، أم ذات جلد مجعّد، أم ذات جلد ناعم. وقد شاركت نساء من جميع أنحاء العالم في إنتاج صور لأجساد لم تكن مطابقة للصورة الأسطورية للجمال، وفي توزيع هذه الصور والاحتفاء بها. وطوال العقد الماضي، استمرّت دوف في استهداف الإضاءات الثقافية – مثل استعمال الصور المعدّلة بشكل كبير باستخدام برامج حاسوبية مثل (فوتوشوب) في مجلات الأزياء – لإبقاء علامتها التجارية في قلب هذا النقاش الدائر حول الجنسين.

أمّا أولد سبايس فقد استهدفت فئة تدعى الهيبستر (Hipsters)، وهي فئة من الشباب البوهيمي من أبناء الطبقة الوسطى. فالمعركة الإيديولوجية بين النظرة الرجولية والنظرة النسوية التي تدعوا إلى التصالح مع الجسد والنظر إليه بإيجابية، تركت فرصة ثقافية إضافية خارج هذين الخيارين في سوق منتجات العناية الشخصية. ففي مطلع الألفية الجديدة، ظهرت إيديولوجيا جديدة خاصّة ببعض أبناء الطبقة الوسطى الجديدة الشباب في الثقافات الفرعية في المدن. وقد تبنّى هؤلاء الشباب النموذج البوهيمي التاريخي بشيء من الحيوية والتقدير ولكن أيضاً بشيء من المفارقة في الإشارة إلى ذواتهم. وهكذا انتشرت الخزائن المليئة بثياب غريبة تشمل القبعات الرخيصة، والثياب المستعملة البشعة، بينما امتلأت وجوههم بالشعر (سواء لحاهم الكثّة، أو شواربهم المفتولة). وامتلأت شوارع بروكلين بهؤلاء الشباب. وقد أسهت الثقافة الجماهيرية في تضخيم هذه الحالات التي سرعان ما انتشرت في عموم أنحاء البلاد.

حاولت أولد سبايس الاستفادة من هذه الحالة المنتشرة في أوساط هؤلاء الشباب البوهيميين (الهيبستر) في الترويج لعلامتها التجارية مع السخرية في الوقت ذاته من آكس والكليشيهات الذكورية. وقد عرضت حملة أولد سبايس لاعب كرة القدم الأمريكية السابق أيزيا مصطفى عاري الصدر وبمعالم جسدية واضحة كمروّج لعطر أولد سبايس "الرجل الذي يمكن لرائحة زوجك أن تكون مثل رائحته". وقد أصابت هذه الأفلام هدفها تماماً لدى الشباب البوهيميين هؤلاء، حيث أنّها عرضت رجلاً "مثيراً" جدّاً كان يسخر من الأفكار التقليدية بخصوص جاذبية الذكور.

حقّقت هذه العلامات التجارية الثلاث خرقاً كبيراً على شبكات التواصل الاجتماعي، لأنّها اعتمدت على الترويج الثقافي للعلامة التجارية – وهي استراتيجية تعمل وفق آليّة مختلفة عن آليّة عمل النموذج التقليدي للمواد الإعلانية والإعلامية المروّجة للعلامة التجارية. فكلّ واحدة منها استعانت بخطاب ثقافي واسع الانتشار على شبكات التواصل الاجتماعي حول المعنى الحقيقي للفروق بين الجنسين وحول الجنسانية – وهو إحدى الثقافات الجماهيرية السائدة. بينما ترافق هذه الخطاب بإيديولوجيا مميّزة، حيث لعبت كلّ علامة تجارية دور الواعظ الذي يحاول الترويج لأيديولوجيته وسط جمهور واسع. وهذه الفرص لا تظهر للعيان إلا إذا استعملنا عدسة الترويج الثقافي للعلامة التجارية – وهو أمر يقتضى إجراء الأبحاث لتحديد الإيديولوجيات التي تهمّ الفئة التي تعنينا، وتحظى باهتمام الثقافات الجماهيرية. أمّا الشركات التي تعتمد على النماذج التقليدية التي تقسّم السوق إلى شرائح وعلى التقارير الخاصّة بالتوجّهات السائدة، فستجد صعوبة على الدوام في تحديد هذه الفرص.

وبعد مرور عقد من الزمن، لا تزال الشركات تعاني من التسويق للعلامة التجارية عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتوصّل إلى نموذج للترويج للعلامة التجارية يكون قادراً على النجاح في هذا العالم الفوضوي لشبكات التواصل الاجتماعي. ويبدو بأنّ المنصّات الكبيرة والمشهورة مثل فيسبوك، ويوتيوب، وانستغرام وأشباهها من المنصّات، هي صاحبة الكلمة الفصل، في حين أنّ الغالبية العظمى من العلامات التجارية لا صوت لها، على الرغم من استثمارها للمليارات. وتحتاج الشركات إلى تحويل تركيزها بعيداً عن هذه المنصّات الإلكترونية، والتركيز عوضاً عن ذلك على المحرّك الأساسي للقوّة الرقمية، أي الثقافات الجماهيرية، حيث أنّ هذه الثقافات الجماهيرية باتت تخلق للعلامات التجارية عدداً كبيراً من الفرص التي لم يسبق أن كانت متاحة من قبل بهذا القدر. فنجاح أولد سبايس لم يكن مرتبطاً باستراتيجية اتّبعتها على فيسبوك، وإنّما باستراتيجية اعتمدت على المفارقة في العنصر الجمالي لدى أبناء الطبقة الوسطى البوهيميين. ومطاعم تشيبوتلى لم تنجح لأنّها طبقت استراتيجية معيّنة على يوتيوب، وإنّما عبر منتجات وسياسة تخاطب دغدغة مشاعر الحركة الداعية إلى العودة بالغذاء إلى الحقبة ما قبل الصناعية. ويمكن للشركات أن تفوز مجدّداً بمعركة إثبات نفسها ثقافياً من خلال التسويق للعلامة التجارية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والذي سيسمح لها بالاستفادة من قوّة الجماعة.

اقرأ أيضاً:

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي