ننظر دائماً للثورة الصناعية الرابعة على أنها المؤثر الأكبر في المستقبل على مستوى التعليم والتوظيف وقطاعات العمل والصناعة، وندرك حجم ما يفرضه النمو المذهل في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي من تغيير على الوظائف، إلا أن وباء "كوفيد-19" جعلنا نرى أنه قد تظهر لنا تحديات جديدة ستحدث تغييراً يفوق في سرعته الثورة الصناعية الرابعة، حتى أن البعض اعتبر هذا الوباء أقوى تحد يواجه العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وهنا بات تفكيرنا نحن الأكاديميين والباحثين يتخطى إعداد الشباب والخريجين لوظائف لم توجد بعد إلى إعدادهم لتحديات لم تظهر بعد.
إن كفاءة وجاهزية العنصر البشري هي الحلقة الأقوى في مواجهة التحديات والتعامل الناجح مع التغيير في ظل المتغيرات المتوقعة وغير المتوقعة، ويبقى الحراك والنقاش محلياً وعالمياً حول كيفية جعل إعداد العنصر البشري تعليمياً وتدريبياً عملية مستمرة لا تنتهي، لكي تزداد هذه العملية زخماً بتطور الفكر الإنساني وازدياد التحديات.
"البيرسونا ثلاثية الأبعاد"
إن مفهوم "بيرسونا ثلاثية الأبعاد" مصطلح جديد يقدم للمجتمع التعليمي تصوراً مستقبلياً للمهارات التي يجب أن تتمتع بها شخصية إنسان المستقبل، والتي ستكتسب أهمية كبيرة في المرحلة القادمة، فثلاثية البيرسونا تخاطب جيل الثورة الصناعية الرابعة، وتقدم نموذجاً ثلاثي الأبعاد للبيرسونا المثالية التي ينبغي على المعنيين بالشأن التعليمي والباحثين فيه رعايتها وتعزيزها.
تتألف "البيرسونا ثلاثية الأبعاد" من ثلاث سمات أساسية تجسد ملامح خريجي المستقبل وهي: البعد الرقمي والبعد الاحترافي والبعد الريادي، وستضمن هذه السمات الثلاثية للخريجين ليس فقط الجاهزية في التعامل مع وظائف لم توجد بعد، بل مع تحديات لم تحدث بعد.
إن "البيرسونا ثلاثية الأبعاد" هي نتاج أبحاث وخبرات متراكمة في مجال التعليم، وإذا ألقينا نظرة تحليلية للواقع الحالي مع متابعة المستجدات اليومية، سنجد أن المهارات العملية أصبحت تنافس الشهادات الأكاديمية، وهناك أيضاً رؤية مستقبلية تنطوي على تحول التعليم لخدمة تصل للطلبة أينما كانوا وهو ما يُسمى "التعليم على غرار أوبر"، وهذا النموذج قد يؤدي إلى اختفاء الحرم الجامعي مقابل تمكن الفرد من تلقي خدمة التعليم من أي مكان وزمان، وهذا ما شهدناه في ظل جائحة "كوفيد-19"، إذ تحول التعليم إلى خدمة من خلال الدراسة عن بعد، ونجح الطلبة في ظل الجاهزية المؤسسية وطبيعة جيل التكنولوجيا من مواصلة دراستهم دون معوقات.
خلال هذه الجائحة، أصبحنا في الإمارات العربية المتحدة أكثر إيماناً بأهمية التغيير في التعليم، وبأن الجاهزية المسبقة فيما يتعلق بالعنصر البشري مسألة محسومة، لأن التفكير واستشراف المستقبل الذي عودتنا عليه القيادة الحكيمة في دولة الإمارات كان عاملاً أساسياً في نجاح الدولة على كافة المستويات وخاصة التعليمية في مواجهة جائحة "كوفيد-19" وبإشادات عالمية.
وفقاً لمفهوم "البيرسونا ثلاثية الأبعاد"، فإننا نسعى لإعداد مواردنا البشرية من مختلف المراحل التعليمية بالشكل الأمثل، وذلك عبر بناء شخصية مستقبلية وتمكينها على مستوى ثلاثة أبعاد أساسية والتي يجب تطويرها بشكل مترابط من أجل صناعة النتائج المستقبلية المنشودة.
الأبعاد الثلاثية لبناء الشخصية المستقبلية للطلبة
البعد الرقمي
وهو السمة المعنية بالبناء والإعداد الرقمي لطلبتنا الذين يمثلون جيل الثورة الصناعية الرابعة، ما يعني تمكينهم من التكنولوجيا وفق منظومة مهارات رقمية موضوعة بشكل مدروس وموجهة لكل مرحلة تعليمية وفقاً لاحتياجاتها، ويقع على عاتق المؤسسات التعليمية تحقيق الإعداد الرقمي للطلبة وفق المستجدات في المهارات العالمية والتحديات الوظيفية.
إن عملية تعزيز المهارات الرقمية مدعومة بسبب طبيعة جيل اليوم الشغوف بالتكنولوجيا، وقد مثَل الأمر مفتاح التحول الناجح في عملية انتقال مؤسسات التعليم إلى مرحلة التعليم الإلكتروني خلال جائحة "كوفيد-19" في ظل ما يمتلكه الطلبة من خبرات رقمية، وإن كانت بفروقات واضحة بينهم على اعتبار أن هذه الخبرات جاءت نتيجة ممارساتهم الحياتية المتعلقة بالبحث والفضول والتعلم الذاتي، ويأتي هنا دور السمة الرقمية في توجيه هذه القدرات، ووضع منظومة تضمن إعداد الطالب بشكل رقمي لمواكبة المستجدات، ليكون قادراً على استثمار هذا الإعداد في نموه التعليمي والمعرفي.
يجب على مزودي الخدمات التعليمية استثمار كافة أشكال التكنولوجيا في التعليم ودمج التقنيات التعليمية في المناهج الدراسية بحيث ترافق الطالب طيلة مشواره التعليمي، وقد أسهمت تطبيقات الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة، في تحقيق التقدم الأكاديمي للطلبة، الأمر الذي سيمكنهم من الإبداع والابتكار.
إن هذه السمة الرقمية ستضمن للطالب بعد التخرج أن يكون "محترف تعلّم" قادر على استثمار قدراته الرقمية في التعلم المستمر ودعم تطوره المهني.
البعد الاحترافي
السمة الثانية في بناء الشخصية المستقبلية، وتعني قدرة الأفراد على أن يصبحوا متعلمين احترافيين طيلة حياتهم، هؤلاء هم الأفراد الذين يواصلون الارتقاء وصولاً للاحتراف المهني من خلال عملية تعلم قائمة على الاعتماد على الذات والتركيز على تطوير المهارات وفق المستجدات العالمية، خاصة أن العالم اليوم بات يخاطب أصحاب المهارات.
هناك ارتباط وثيق بين البعد الاحترافي والبعد الرقمي، حيث أن ترسيخ الهوية الرقمية في مرحلة مبكرة سيساهم في دعم تطوير الاحترافية بطريقة تساعد المتعلمين على استخدام الأدوات الرقمية لتحقيق التطور المهاري والمهني بصورة مستمرة والاستفادة من الخيارات التعليمية والتدريبية المتنوعة والوصول إليها متجاوزين حدود الزمان والمكان عبر التعلم الإلكتروني معتمدين بذلك على قدراتهم التقنية، ووعيهم الذاتي باحتياجاتهم من التطور المعرفي والمهني.
والاحترافية في التعليم يمكن تحقيقها عبر جعل الشهادات الاحترافية العالمية جزءاً من المناهج الدراسية، وتمكين الطلبة من المبادئ الأساسية لتلك الشهادات لدعم حصولهم عليها في وقت مبكر من حياتهم، وعبر تطوير برامج التدريب العملي التي تسمح للطلبة بالقيام بمهام وظيفية حقيقية في مؤسسات العمل وتطوير قدراتهم ومهاراتهم وفق المتغيرات الوظيفية، إضافة إلى ضرورة ربط التطور في الدرجات العلمية بالخبرة العملية التي تزيد من احترافية ومهارات الفرد في التعلم من واقع تجربة تطبيقية.
وكنموذج على إمكانية تحقيق جانب الاحترافية في الشخصية المستقبلية، أشير إلى أول تطبيق للسمة الاحترافية في "كليات التقنية العليا" مع تبني عملية دمج الشهادات الاحترافية العالمية ضمن المناهج الدراسية للطلبة وذلك منذ عام 2017 وحتى اليوم، حيث أبرمت الكليات اتفاقيات مع أكثر من 20 مؤسسة عالمية مانحة للشهادات الاحترافية وفق التخصصات والبرامج المطروحة لديها، ومن بين المؤسسات العالمية المانحة للشهادات الاحترافية التي تم التعاقد معها: "جمعية المحاسبين القانونيين المعتمدين" (ACCA) و"معهد المراجعين الداخليين" (IIA) و"معهد شؤون الأفراد والتنمية" (CIPD) و"معهد تشارترد للتسويق" (CIM) وشركة "أدوبي" (Adobe) و"معهد السلامة والصحة المهنية" (IOSH).
البعد الريادي
البعد الثالث في بناء الشخصية المستقبلية هو البعد "الريادي" الذي يتطلب بناء شخصية إبداعية مستعدة لخوض المخاطر، ومن أجل الوصول إلى هذه السمة يجب أن تتكامل السمات السابقة لخلق الشخصية الإبداعية القادرة على ابتكار حلول للمشكلات والتحديات وبلورتها في فكرة جديدة يمكن تطويرها لتصبح منتجاً أو خدمة ذات قيمة أو جدوى اقتصادية، وهذه هي مهمة الشركات الناشئة والمشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تسهم بشكل أساسي في الناتج المحلي الإجمالي للاقتصادات المتطورة، وذلك عن طريق المساهمة بشكل مباشر في سوق العمل، حيث تصبح مؤسسات التعليم ليست مجرد جهات مزودة للخدمات التعليمية بل مؤسسات قادرة على إعداد شباب مؤهل ومحترف يمكنه تحويل معرفته إلى فرصة ريادية، ليكون لدينا شباب قادر على صناعة الفرص الوظيفية وخلق ثروة اقتصادية للوطن.
ينبغي على المربين رعاية وتعزيز البعد الريادي وغرس مهاراته لدى الطلبة، إذ تزداد أهمية تعزيز مهارات ريادة الأعمال في ظل التحديات والمتغيرات التي يواجهها العالم، وقد جاءت جائحة "كوفيد-19" لتكشف أن التحديات قد تكون من العوامل المؤثرة بقوة على السوق الوظيفية، لذا فإن مواجهة كل ذلك سيعتمد على قدرات العنصر البشري ومهاراته التي ستمكنه من التكيف مع المتغيرات.
تمثل عملية تطبيق هذا الفكر في "كليات التقنية العليا" نموذج واقعي للبعد الريادي، حيث أسست الكليات مبادرة "فضاءات الابتكار" و"المناطق الاقتصادية والإبداعية الحرة" (InnCuVation Spaces)، وفي بداية عام 2019 بدأنا في توليد الأفكار ورعايتها وصولاً الى تخريج الشركات ورواد الأعمال، وتمكنت الكليات من تبني العديد من المشاريع الطلابية ودعمها للتحول لشركات ناشئة، وحتى اليوم هناك 45 شركة ناشئة حصلت على تراخيص تجارية من بينها 13 شركة بدأت فعلياً ممارسة نشاطها في سوق العمل، إضافة إلى وجود 22 شركة ناشئة تعمل على التأسيس الكامل لعملياتها وإنشاء هيئتها القانونية، وكافة المشاريع التي يتم تبنيها تتعلق بمنتجات وخدمات مبتكرة تعتمد على التكنولوجيا المتقدمة وتخدم قطاعات حيوية.
إن "البيرسونا ثلاثية الأبعاد" جاءت من الإيمان باختلاف جيل اليوم، وتفرده عن الأجيال السابقة بسبب قدراته المتعددة وتقبله للمستجدات التكنولوجية، هذه الثلاثية تخلق لنا شخصية متمكنة تقنياً، وقادرة على استثمار ذلك في التعلم الذاتي المستمر والتطور المهني، وبإمكانها التكيف مع التغيرات الوظيفية باستثمار قدراتها الرقمية والاحترافية في ابتكار أفكار وتأسيس أعمال، لنصل لمنتج بشري يؤمن بأن الشهادة الأكاديمية ليست الهدف، بل وسيلة للتطور المعرفي، وبأنه لا يجب أن ينحصر تعلمه في الخطط الأكاديمية المحددة في الجدول الدراسي لأن الجامعة ليست المصدر الوحيد للمعرفة، وبإمكانه أن يخطط مستقبله، ويبحث عن ذاته معتمداً على ميوله وشغفه وقدراته، فلا ينتظر من يكتشفه بل يبحث ويكتشف ذاته فقد تم إعداده ليكون "محترف تعلم"، والمستقبل واعد لأصحاب المهارات والمواهب والقدرات الخاصة.