فن المسرح الارتجالي (Improv Theatre)، هو أحد فنون الكوميديا الذي وجد طريقه إلى عالم الأعمال مثل العديد من الفنون الأخرى، لكن الفارق مع هذا الفن أن تطبيقاته عديدة ومثبتة بالتجارب نظراً لفائدته في بناء المهارات المهنية والقيادية، فما هو فن المسرح الارتجالي؟
إذا كنت من متابعي البرامج الكوميدية، فمن المحتمل أن مؤلفيها كتبوا مشاهدها في أثناء تمارين المسرح الارتجالي. ويمكن تعريف هذا الفن بأنه تعبير مسرحي عفوي وسريع ويعتمد على الارتجال والابتكار، إذ لا يعتمد على نص مسرحي مكتوب مسبقاً، والعروض التي تنتمي إلى هذا النوع من الفنون لا تتكرر أبداً كما يقول مدرب المسرح الارتجالي في مسرح بان. يعتمد هذا الفن على التلقائية، إذ يحكمه عدد قليل من القواعد التي تضمن سير عملية التمثيل دون السيطرة على مجريات العمل. يستفيد الكثير من الفنانين من نهج الارتجال للتحضير لمواد كوميدية أو بناء مهارات تساعدهم في تأدية العروض المسرحية، وكذلك الناشطون في مجال الإعلام والكتابة والطلاب بصفة عامة، إذ يساعدهم على اكتساب مهارات وسمات مثل الشجاعة والثقة بالنفس والتفكير السريع أو التفكير الإبداعي.
ويمكن اعتبار برامج مثل (Whose Line Is It Anyway) و(Improv Everywhere) من الأمثلة الجيدة على فن المسرح الارتجالي، كما تقدم المسارح والبرامج الثابتة والموسمية في مدن عربية مثل الرياض ودبي عروضاً ارتجالية يمكن الاستفادة منها.
المسرح الارتجالي في بيئة العمل
وجدت تمارين الارتجال الممتعة والمفيدة طريقها إلى بيئة العمل من خلال الأعمال المسرحية. واليوم، تقدم مسارح كثيرة دورات وتمارين تساعد الموظفين والقادة على التواصل والتفاعل فيما بينهم. وتمكّنهم من بناء الفريق وحل المشكلات بطريقة مبتكرة وإبداعية. ولكن ربما تبقى واحدة من أفضل المهارات المكتسبة من تعلم فن المسرح الارتجالي هي مهارة الإجابة بنعم، ورفع الحواجز والتخفيف من المعارضة. كانت هذه واحدة من أكثر التغييرات التي لاحظتها على سلوكي منذ التحاقي بدروس الارتجال. ويذكر المؤلف كلاي دينكو المختص في علم النفس أن الفوائد القيّمة لفن المسرح الارتجالي لا تقتصر فقط على تطوير الأداء الإبداعي، بل تتمثل في تقليل القلق الاجتماعي (القلق من وجود الشخص مع أشخاص لا يعرفهم مسبقاً أو القلق من المناسبات الاجتماعية) وزيادة الثقة بالنفس والوضوح والاتساق في الدماغ وفي التعبير.
ويستطيع الموظفون التعرف على العديد من ألعاب المسرح الارتجالي في بيئات العمل، التي غالباً ما تقدمها إدارات تدريب الموظفين وتطويرهم للمشاركين. من أمثلة هذه التمارين لعبة قصة الكلمة الواحدة، وهي تمرين بناء قصة عن طريق مجموعة موظفين حيث يعطي كل موظف كلمة واحدة لهذه القصة. وكذلك لعبة "نعم .. و" التي قد تكون أشهر تمرين للمسرح الارتجالي ويتم استخدامها في الكثير من برامج التطوير والتدريب.
وفي عملي المباشر، كانت تمارين الارتجال واحدة من أهم التمارين التي اقترحها في جلسات تدريب القادة والموظفين لمساعدتهم على التطور، وكثيراً ما أقترح على القادة الذين يرغبون في تعزيز ثقتهم بأنفسهم أو التفكير على نحو أسرع، أو إيجاد التناغم داخل فرقهم، أن يمارسوا أحد تمارين المسرح الارتجالي. ويخبرني بعض الموظفين كيف ساعدتهم هذه الدروس في تطوير المهارات المذكورة أعلاه، مع أن العديد من مرتادي المسرح يحاولون تطوير مهارة التحدث الخطابي وبناء الثقة أمام الآخرين أكثر من أي مهارة أخرى.
من هم الأشخاص الأكثر استفادة من المسرح الارتجالي في بيئة العمل؟
المسرح الارتجالي مفيد لكل شخص ولكل موظف، ولكن ثمة بعض الموظفين الذين قد يفيدهم أكثر من غيرهم، وهم:
- الموظفون الذين يتعين عليهم الرد على العملاء وإظهار السرعة والارتجال في التفكير، مثل مستشاري الإدارة العليا.
- موظفو المبيعات والتسويق والمسؤولون عن التواصل مع العملاء.
- المدربون ومختصو التطوير القيادي وتطوير الموظفين.
- القادة الذين يتعين عليهم تقديم العروض التقديمية والتحدث أمام الآخرين.
- أعضاء الفِرق الذين يريدون تطوير عملهم ضمن الفريق وتشجيعهم للآخرين.
- موظفون في أقسام الإبداع والابتكار، مثل الإعلانات.
- الموظفون الذين يتعين عليهم حل مشاكل الآخرين، مثل قسم الموارد البشرية.
- الموظفون في المجالات الإبداعية الفنية، مثل الكوميديا والمسرح والإعلام والتلفزيون والكتابة.
تطبيق قواعد المسرح الارتجالي في بيئة العمل
يمكن إسقاط قواعد المسرح الارتجالي على بيئة العمل للمساعدة في تطوير بعض المهارات الوظيفية كما يلي:
- استخدم "نعم ... و" (Yes .. And): تمثّل هذه القاعدة الفلسفة الداعمة للمسرح الارتجالي، إذ إن أصلها يعود إلى المسرح الارتجالي. تعني هذه القاعدة أن على المؤدي أن يقبل كل ما سيواجهه من أحداث أو حوارات، وأن يشارك في صياغة هذا الحوار أو الحدث من خلال الاندماج فيه وتحسينه. مثلاً، في حال تلقيت طلباً من أحد الزملاء للمساعدة في حل مشكلة تقع ضمن مجال تخصصك، فلا تكتفِ بحلها بل اعرض عليه المساعدة في تطوير المهمة المتعلقة بهذه المشكلة حتى لا تتكرر. تساعد هذه القاعدة على بث الحيوية والاستمرارية لمشاهد المسرح الارتجالي وضمان سلاستها، وفي حياتك المهنية، ستساعدك هذه القاعدة على تقبّل تحديات العمل ودعم الآخرين وإبقاء سيل المعلومات إيجابياً وبنّاءً وعدم الإفراط في معارضة المهام المطلوبة منك.
- أظهِر شريكك بأفضل صورة: تعتمد مشاهد المسرح الارتجالي على دعم الشركاء ونبذ الذات من أجل إظهار الآخرين بمظهر أفضل. تساعد هذه القاعدة على تبديد مخاوف الممثلين نظراً لوجود مؤدين آخرين في العرض يمكن الوثوق بهم. احذر من نسب فضل زملائك إليك، بل احرص على إظهارهم بأفضل صورة ممكنة دون مبالغة ولا تضليل، وستصبح محل ثقة في مكان العمل وشخصاً جديراً بالعمل معه ما سيخلق فريق عمل متجانس يحقق أفضل أداء ممكن.
- أنصت جيداً: قد يكون الإنصات من أصعب المهارات في المسرح الارتجالي، إذ تحتاج إلى وقت وجهد كبيرين لإتقانها. فمن أجل إيجاد الفرصة لدعم مشهد أو المشاركة فيه، يتعين على المشاركين الإنصات العميق والانتباه المستمر لما يُطرح في المشهد؛ وفي بيئة العمل يساعدك الإنصات على فهم حاجات زملائك ومدرائك والتعاطف معهم إن تطلب الأمر ذلك، فالإنصات من أهم مهارات الذكاء العاطفي، الذي بدوره من أهم قواعد القيادة.
- لا تسأل كثيراً، بل قدِّم المعلومات: في ألعاب المسرح الارتجالي، يُنظر إلى الأسئلة على أنها عائق محتمل لسير المشهد وخصوصاً الأسئلة ذات النهايات المفتوحة، لذلك يجري استخدامها على نطاق ضيق في المشاهد وفي أثناء الأداء، وبدلاً من ذلك يُطلب من الممثلين المشاركة بمعلومات عن المشهد أو إضافة التفاصيل له، ما يساعد الآخرين على التفكير بإبداع. في بيئة العمل، حاول دائماً تسليط الضوء على الجوانب المنسية عن المهمة أو التحدي الذي يواجهك في العمل، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي. إن إعطاء بيانات ومعلومات حتى إن بدت غير ذات صلة يعزز التفكير الإبداعي و"مهارة الربط" وهي من أهم عناصر الابتكار. على سبيل المثال، كان ستيف جوبز قادراً على خلق الفكرة تلو الأخرى، لأنه قضى ما يعادل حياةً في استكشاف أشياء جديدة غير مترابطة، مثل فنون خط اليد، وممارسات التأمل في الهند، والتفاصيل الفاخرة لسيارات مرسيدس بنز.
- تقبّل الخطأ: تشجع قواعد المسرح الارتجالي على تقبّل الأخطاء وارتكابها حتى يتسنى للمثلين إتقان الدور بالتكرار والتعلّم، ما يساعد على بناء ثقتهم بأنفسهم وتحسين أدائهم، إذ يتم تدريب الممثلين عادةً على أداء مشاهد جريئة مهما كانت سخيفة. حاول في بيئة العمل الخروج عن المألوف وتجريب أشياء جديدة مثل تغيير في أسلوب العمل أو اقتراح تصميم "خارج الصندوق" لمنتج معين أو ممارسة عادة جديدة، دون أن تخشى كثيراً من الخطأ ولا من حُكم الآخرين. ستزول مخاوفك مع الوقت والتدريب وتُصبح أكثر مبادرة في العمل ما سيعزز أداءك وفرصك في الحصول على ترقية.
تتمتع تمارين المسرح الارتجالي بتأثير عميق، وممارسة بعضها في بيئة العمل ستساعدك على التطور الشخصي والمهني. إذا كنت تقيم في مدينة يوجد فيها مسرح ارتجالي أو تسنّت لك الفرصة لزيارة أحد هذه المسارح، فأقترح عليك حضور عرض أو المشاركة في إحدى جلسات التدريب. وإذا كنت تعمل في أقسام الموارد البشرية أو إدارة المواهب، فقد يجد موظفوك في تمارين الارتجال فائدة ملحوظة ومتعة كبيرة. وفي كل الحالات، أتمنى لك أن تستمتع بمهارات الارتجال في عملك وحياتك.