يتوقف الأمر بالمجمل على تعريفنا لكلمة "ربح" هل نقصد بكلمة الربح العوائد والمردودات المالية؟ أم الربح الاقتصادي الذي سيعود بالمنفعة الاقتصادية ويوفر مئات الوظائف للمواطنين؟ فهناك فرق بين السؤالين وإجابة كل منها كالفرق بين المشرق والمغرب. ولنوسع مداركنا بهذا المجال فالأجدر أن نسأل لماذا وجدت الصناديق الجريئة للمستثمرين؟ ولماذا لا يذهب مؤسس الشركات الناشئة إلى البنك للاقتراض؟
"الاستثمار عالي المخاطر الذي تبتعد عنه البنوك هو المكان الذي يزدهر فيه الاستثمار الجريء"
وُجدت الصناديق الجريئة في أميركا، وتحديداً في وادي السيليكون (سيليكون فالي)، سان فرانسيسكو، لسد فراغ الإقراض الذي تعجز البنوك عن سده. فالبنوك بسياساتها لن تقرض شركة جديدة دون الحصول على تأمينات، إما عبر رهن أصول مادية أو أصول ثابتة كسيارات، وآلات، ومعدات، ومبانٍ كتعويضات وبدلات تستحوذ عليها البنوك في حال فشل الشركة.
بينما جُلّ ما تملكه شركات التقنية الناشئة - وهي الشركات المعنية والمخصوصة بالحديث في هذا المقال - هي أصول معنوية أو غير ملموسة مثل تطبيقات وخوارزميات أكواد برمجة وهي ليست بطبيعة الحال ذات قيمة مادية للبنوك.
لتوضيح حجم المخاطر المرتبطة بالشركات الناشئة وما يترتب عليها من ردة فعل من قبل البنوك والمستثمرين، يشرح أحد المحللين السابقين لمصرف "غولدمان ساكس" (Goldman Sachs): "إن مخاطر الشركات الناشئة عالية جداً، لدرجة أنه حتى لو كانت البنوك مستعدة للإقراض، فعليها فرض معدلات فائدة عالية، وبذلك يصعب على الشركات أن تقترض من البنوك. إن الاستثمار عالي المخاطر الذي تبتعد عنه البنوك هو المكان الذي يزدهر فيه الاستثمار الجريء".
بذلك لو كان جواب سؤالنا المطروح في أول المقال بأن الاستثمار يدر أرباحاً مالية للفرد فالإجابة وضحت، الاستثمار في الصناديق الجريئة والشركات الناشئة غير مربح مالياً وليس لها أي عوائد مالية مجزية إلا في حالات استثنائية. ولكن الرابح الدائم في كل الأحوال هم مدراء هذه الصناديق الجريئة، فالرسوم الإدارية التي تستقطع لدفع رواتب المدراء تكون من هذه الصناديق بغض النظر عن ربحها أو خسارتها. وللتأكيد فإن هذا ليس رأيا فردياً، بل هي حقائق موثوقة، مُعتَمدة من قبل خبراء هذا المجال ومبنية على أرقام وبيانات راسخة.
وذلك مغاير لمدراء الصناديق في البنوك، فالبنوك تدفع رواتب المدراء وتقوم باختيار من يدير صناديق الاستثمار والإقراض بناءً على شهاداتهم الجامعية وتراخيص اعتمادهم دولياً كشهادة المحلل المالي المعتمد (CFO) والمحاسب القانوني المعتمد (CPA).
"في كاليفورنيا تحتاج إلى رخصة لقيادة سيارة أو شراء مسدس، ولكن ليس لكي تصبح مستثمراً جريئاً"
لأن التقنية سريعة التطور ومتجددة دائماً فالقوانين واللوائح التنظيمية المرتبطة بها تأخذ وقتاً لكي تجاريها وتفرض التراخيص عليها، و بذلك فإن أي شخص دون شهادة جامعية أو حتى ثانوية يمكنه التسويق لنفسه على أنه مستثمر جريء!.
يقول مارك أندرسن، أحد أكبر المستثمرين الجريئين في "وادي السيليكون"، خلال محاضره ألقاها عن الاستثمار الجريء حيث بدأها بهذه الجملة "في كاليفورنيا، تحتاج إلى رخصة لقيادة سيارة أو شراء مسدس، ولكن ليس لكي تصبح مستثمراً جريئاً."
وعندما سُئل عن التغييرات الاقتصادية التي ستحدث في قطاع الاستثمار الجريء، أجاب "أولاً وقبل كل شيء لا أعتقد أن هناك شيء يسمى بالاستثمار الجريء. بل كل ما لدينا هو شركات بحجم المتجر الصغير. لدينا 20، أو 30، أو 40 شركة صغيرة للاستثمار الجريء تحقق أداء جيداً مع مرور الوقت، وبعد ذلك سيكون لدينا نحو 660 شركة من شأنها أن تحطم قلبنا بشكل عام كمستثمرين إذا ما استثمرنا فيها، حيث سوف نتمكن من إعادة أموالنا بوقت أقل من سوق الأسهم ولكن بمخاطر أعلى بكثير. إن الاستثمار الجريء وشركات الاستثمار في الأسواق الخاصة تفتقر إلى السيولة، فالأسواق الخاصة عادة ما يكون فيها عدد قليل من الشركات التي تحقق عوائد مالية، وبالمقابل هناك الكثير من الأشخاص الذين يرغبون في تحقيق هذه العوائد ولكنهم لا يعرفون كيف يحققون ذلك، يمكنك تحميل قائمة شركات الاستثمار الجريء في الولايات المتحدة من الانترنت. يمكنك قراءتها خلال ثلاث ساعات تقريباً حيث ستجد قرابة 700 شركة لن تتعرف على الغالبية العظمى منها وكيف يتم تمويلهم، ليس لدي فكرة!...أنت لا تعرف حتى من هم هؤلاء الناس. المشكلة هي عندما تتحدث عن قطاع الاستثمار الجريء، يتم تجميع كل تلك البيانات وطيها."
ألقى مارك هذه المحاضرة عام 2010 في جامعة "ستانفورد". لكن هل تغيرت هذه الأرقام في عام 2020؟ لم تتغير هذه الأرقام كثيراً، بالعكس لقد كان مارك سخياً.
اقرأ أيضا: كيفية جذب المستثمرين.
أقل من واحد بالمئة من صناديق الاستثمار الجريء في أميركا تجني أعلى الأرباح والمضاعفات، و50% منها لا تعيد رأس المال.
أقل من واحد بالمئة (0.4% تحديداً) من صناديق الاستثمار الجريء في أميركا تجني أعلى الأرباح والمضاعفات و50% منها لا تعيد أموال المستثمرين أو تعيد جزءاً بسيطاً منه.
%7 فقط من شركات الاستثمار الجريء في أميركا تدير صناديق بمليار دولار وأكثر! بحسب إحصاءات "الرابطة الوطنية للاستثمار الجريء" في أميركا فإن عدد الشركات التي تدير أصول بمليار دولار وأكثر لعام 2019 هو 92 شركة من أصل 1,328 شركة مسجلة تحت قطاع الاستثمار الجريء.
القليل من المستثمرين الجريئين يتميزون في هذا النوع من الاستثمارات لسبب رئيسي واحد، الخبرة في مجال الاستثمار في التقنية، الذي هو أساس الاستثمار الجريء، خبرة نادرة لا تدرس في جامعات وفصول التعليم.
جميع المستثمرين الجريئين المصنفين كأفضل المستثمرين في كافة القطاعات لديهم خبرة تدمج بين التقنية والخبرة على أرض الواقع
مارك أندرسن، الذي استشهدت برأيه في بداية المقال هو مخترع "موزايك" (Mosaic) أول متصفح للإنترنت، وهو أيضاً مستثمر في "تويتر"، و"سكايب"، و"فيسبوك" (الشركة المالكة لـ "واتساب" و"انستغرام")، و"لينكد إن"، كما أنه الشريك المؤسس لـ "آندرسن هورويتز" (Andreessen Horowitz) وهي واحدة من أكبر شركات الاستثمار الجريء، وتدير هذه الشركة صناديق استثمار بنحو 12 مليار دولار.
مارك أندرسن وجميع المستثمرين الجريئين المصنفين كأفضل المستثمرين في كافة القطاعات لديهم خبرة تدمج بين التقنية والخبرة على أرض الواقع. فريد ويلسون من نيويورك درس الهندسة الميكانيكية وبدأ الاستثمار مبكراً جداً قبل أن يتاح استخدام الإنترنت للعامة، بيتر ثيل أسس "باي بال"، ريد هوفمان عمل في "آبل" وأسس موقع "لينكدإن"، بن هورويتز أسس مع مارك أول شركة حوسبة سحابية، جون دوير درس الهندسة الكهربائية وعمل كمندوب مبيعات لشركة "إنتل".
حتى المستثمر الوحيد الذي لم يدرس الهندسة أو البرمجة، مايكل موريتز، كان الصحفي الذي تعاقد معه ستيف جوبز لتغطية أخبار ماكينتوش وقال عنه "مايك سيكون مؤرخنا."
مقابل خبراتهم العريقة في مجال التقنية؛ يدفع لهم رسوم إدارية تستقطع من أموال المستثمرين بالإضافة إلى حصولهم على معدل عالٍ من فائدة الاستثمار عند التخارج تقدر بنحو 20% من صافي الأرباح على أقل تقدير لدى أكبر الشركات، وعلى الرغم من ذلك فإن أغلب استثماراتهم تفشل.
يقول فريد ويسلون وهو أحد المستثمرين المخضرمين في هذا المجال: "لقد قلت مرات عديدة على هذه المدونة أننا نتوقع خسارة استثمارنا بالكامل، ونتوقع أن نحصل على أموالنا أو ربما نحقق عائداً صغيراً على ثلث استثماراتنا، ونتوقع أن نحقق الجزء الأكبر من عائداتنا على ثلث استثماراتنا".
فريد ويلسون أول مستثمر جريء يستثمر في "تويتر"، وشركته من الشركات التي تجني أعلى الأرباح، وعلى الرغم من ذلك يؤكد بأنهم يتوقعون الأرباح من 33% من استثماراتهم فقط.
ثلاثة أرباع الشركات الناشئة تفشل والمستثمرين الجريئين "يدفنون موتاهم بهدوء شديد"
سيأتي من يقول بأن هناك شركات ناشئة ذات نمو وربح عالٍ، نعم لكنها أيضاً قليلة. والقليل من الشركات الناشئة تتخارج بعوائد ربحية مجزية حسب بحث الأستاذ في جامعة "هارفارد" شيخار غوش حيث أكد أن ثلاثة أرباع الشركات الناشئة ستفشل.
يقول غوش من مقالة نشرت في صحيفة "وول ستريت جورنال": إن المستثمرين الجريئين "يدفنون موتاهم بهدوء شديد. إنهم يؤكدون على النجاحات لكنهم لا يتحدثون عن الإخفاقات على الإطلاق" هناك الآن دليل على أن الشركات الناشئة المدعومة باستثمار جريء تفشل بأرقام أعلى بكثير من المعدل الذي يستشهد به في القطاع عادة. حوالي ثلاثة أرباع الشركات المدعومة من المشاريع في الولايات المتحدة لا تعيد رؤوس أموال المستثمرين"
كانت هذه النتائج حصيلة بحثه الذي أجراه على أكثر من ألفي شركة حصلت على تمويل بما لا يقل عن مليون دولار.
هناك فرق بين الاستثمار بهدف الحصول على عوائد مالية وبين استثمار يعود بمنفعة اقتصادية على الوطن و يوفر الوظائف
لكن ماذا عن الأرباح غير المالية؟ الاستثمار في الصناديق الجريئة والشركات الناشئة سيعود بمنفعة اقتصادية ويسهم في توفير عدد كبير من الوظائف، وفي هذه النقطة صدق المؤيدون. لكن هناك فرقاً بين الاستثمار بهدف الحصول على عوائد مالية مجزية وبين استثمار يعود بمنفعة اقتصادية على الوطن ويوفر الوظائف.
فأقوى شركات العالم بدأت كشركات ناشئة وحصلت على تمويل من مستثمرين جريئين مثل "آبل"، و"أوبر"، و"فيسبوك" وغيرهم. لكن الغالبية العظمى من الاستثمارات الجريئة في التقنية في زمننا هذا تتم في تطبيقات يتم تحميلها من متجري "آبل" و"جوجل". بمعنى أن أنجح التطبيقات حصلت على الاستثمار لاستهدافها العالم بأسره بدلاً من استهداف عدة ملايين في دولة أو دولتين. بإمكاننا أن نرى على سبيل المثال كيف استهدفت "جوجل"، وفيسبوك" جميع الدول بمليارات الأشخاص. وفي الجهة المقابلة؛ نرى أن التطبيقات السعودية والخليجية حدودها العالم العربي. وبذلك يكون التخارج في الغالب عن طريق الاستحواذ تماماً كما استحوذت "أوبر" على شركة "كريم"، و"أمازون" على "سوق.كوم".
يجدر بالمستثمرين في منطقة الخليج والدول العربية أن يعيدوا النظر ويسألوا أنفسهم (قبل استثمارهم): هل ستسمح أميركا لتطبيق غير أميركي بأن يسيطر على الأسواق العالمية؟ ماذا حدث مع تطبيق "صراحة" السعودي؟ وتطبيق "تيك توك" الصيني؟ هل هناك قيود تفرض على التطبيقات غير الأميركية حال سيطرتها على الأسواق العالمية؟
لذلك فإن الوضوح والشفافية مطلوبان من مدراء صناديق الاستثمار؛ لأن رفع سقف التوقعات بعوائد مالية مجزية قد يرتد سلباً ليس فقط على المستثمرين بل حتى على القطاع بأكمله كما حدث في "فقاعة الدوت كوم" (Dot-com Bubble) عام 2000.
وكما يقول عراب الاستثمار في الشركات الناشئة رون كونواي: "إن الاستثمار في هذا القطاع هو ضربة حظ". ويعتبر رون من أوائل المستثمرين في "تويتر"، وهو من رتب الجولة الاستثمارية الأولى لشركة "جوجل".