لماذا باتت الكتب والمقالات التي تدعو إلى "اللامبالاة" هي الأكثر رواجاً في العالم؟ انظر إلى كتب مارك مانسون "فن اللامبالاة" وكتابه الثاني "خراب". لقد انتشرت في العالم كالفيروس وأصبحت من الأكثر مبيعاً على مستوى العالم. وانظر أيضاً إلى الكاتبة سارة نايت التي حولت "اللامبالاة" إلى ما يشبه النظرية التي تستند إلى أسس ودليل عمل، في سلسلة كتبها عن اللامبالاة. والقاسم المشترك بين هذه الكتب الأكثر مبيعاً هو استخدامها لعبارة نابية باللغة الإنجليزية، تعني "اللامبالاة" وتدعو إلى إلقاء هموم الحياة المعاصرة جانباً والهدوء واستعادة الأنفاس لاستعادة آدميتنا البشرية.
وعلى الرغم من شعورنا بأن الحياة تزداد تعقيداً، وأن الضغوط باتت أقوى من أن نستطيع التحكم بها، إلا أننا نفاجأ كل يوم بحلول لهذا التعقيد تبدو بسيطة وبديهية، وأنها تحاول فقط إعادتنا إلى طبيعتنا البشرية العفوية والأساسية، فتجد أن أحدث الحلول التي تطرح اليوم عند الحديث عن مشكلة إدارةالوقت وضغوط الحياة، تأتيك من خبراء يدعونك لإدارة وقتك وتقدر قيمته كما يفعل "الأطفال". نعم "الأطفال"، وأنك إذا أردت أن تتخلص من ضغوط الحياة المعاصرة والتوتر الذي تعيشه، فعليك أن تمارس تمارين "اليقظة الذهنية" يومياً وأن تتنفس خلالها كما يتنفس الأطفال. نعم "الأطفال"!
لن تستغرب ذلك عندما ترى أن أحد علماء الكمبيوتر مثل كال نيوبورت، ينصح البشر بالتخلص من الهوس ببعض تقنيات التكنولوجيا المعاصرة مثل وسائل التواصل الاجتماعي والعودة إلى إنسانيتنا لنتمكن من السيطرة على حياتنا وإنتاجيتنا وقدرتنا على الإبداع. وللتذكير فإن نيوبورت هو مؤلف الكتاب الشهير "عمل عميق" (Deep Work).
ملاحظة الصدفة
وعلى الرغم من أن العديد من المقالات والكتب كشفت قصص العديد من الابتكارات التي غيرت تاريخ البشرية، بناء على ملاحظة حدثت بالصدفة، مثل اكتشاف البنسلين صدفة بعد عودة الدكتور ألكساندر فلمنغ إلى مخبره بعد قضاء إجازته، فوجده مليئاً بالفوضى، ووجد العفن قد أحاط ببعض الصحون التي كان يجري التجارب عليها، ولفتت نظره بقعة لم يصبها العفن، فقاده التفكير والتجارب إلى أحد أعظم الاكتشافات الطبية التي أنقذت ملايين البشر من الموت وما زالت إلى يومنا هذا. وصولاً إلى اكتشاف حبوب الفياغرا صدفة عندما كانت شركة "فايزر" للأدوية تجري اختبارات على أحد أدوية ضغط الدم.
في هذا المقال نتحدث عن لحظات الصفاء والصدفة التي قادت لاكتشاف "لحظة الحقيقة" وليس الابتكارات أو الاختراعات، وقادت إلى تأليف كتب طرحت أفكاراً أعادت البشر إلى جادة الصواب في تحسين طريقة تفكيرهم. سأعمل على تذكيركم بعدد من الأفكار العابرة التي قد نواجهها صدفة في حياتنا، لكن هؤلاء الكتّاب تأملوا فيها، وقادتهم إلى أفكار غيّرت العالم، وولدت عنها كتب تعتبر من الأكثر تأثيراً والأكثر مبيعاً. والذي يجمع بينها جميعاً هو أن هذه الكتب ولدت في لحظة "صفاء" استعاد بها هؤلاء الكتاب إنسانيتهم للحظة بعيداً عن زحمة الحياة، فخرجوا بأفكار تحولت إلى كتب يتلقفها الناس على الرغم من أنها تبدو أفكاراً بديهية.
1- قف للحظة
مؤلف كتاب "قف للحظة" (Do Pause) روبرت بوينتون، استلهم فكرة كتابه، عندما كان يخوض تحدي الصعود إلى قمة أحد الجبال في إسبانيا، وخلال متابعته لهذا التحدي نسي أن يلتفت للحظات خلال صعوده ليستمتع بالمنظر الساحر خلفه، لقد ركز كما يقول على "الهدف" ونسي الاستمتاع "بالتجربة".
يقدم لنا الكاتب نماذج من التجارب عن حياتنا الشخصية والعملية، حينما نركز على الهدف وننسى الاستمتاع بالتجربة؛ نهتم بغذاء أطفالنا ومواعيد نومهم وأخذهم للمدارس، لكننا ربما ننسى الاستمتاع بلحظات الحياة معهم. وكذلك الأمر في العمل، إذ ننجرف في جداول المواعيد وقوائم العمل كالآلات دون أن ندرك أن لحظات الإبداع لا تأتي كما يقول بوينتون من الجلوس الطويل خلف المكتب والالتزام بجدول صارم.
الكتاب على بساطة فكرته، والتي يكشف فيها حاجتنا للاستمتاع باللحظة الراهنة من الحياة، وأن هذا الاستمتاع هو من سيقدم لنا الدافع المحفز للاستمرار بالنجاح، فقد غيّر حياة الكثيرين، ويمكنكم الإطلاع على تقييمات الكتاب في موقع "غود ريد".
2- طائر بعد طائر
مؤلفة كتاب "طائر بعد طائر" (Bird By Bird) الكاتبة آن لاموت، استلهمت القصة من والدها حينما كان يوجه طفله المتوتر تحت ضغط محاولة حل الواجب المدرسي والذي كان يتطلب منه كتابة موضوع عن مجموعة من الطيور، فكان أن ربَت الوالد على كتفه. وطلب منه أن يهدأ قليلاً، ويبدأ بها طيراً طيراً. ثم تحولت عبارة الأب إلى عنوان كتاب رائج، يتحدث عن أفضل النصائح في الكتابة خطوة خطوة أو إنجاز المهام بالتدريج، حيث تؤكد الكاتبة من خلال استعراضها لقصص واقعية من الكتاب والكتب الأكثر مبيعاً أنّ أحداً منهم لم يكتب نسخته الأولى الناجحة من الكتاب أو الرواية بمجرد الجلوس خلف الطاولة وبدء الكتابة من أول مرة، بل جميعهم كتبوا نسخاً أولى كانت سيئة ولم تر النور، لكنهم أجروا عليها التعديلات والتطويرات وفقاً لمبدأ "طائر بعد طائر"، حتى أصبحت من الروائع التي نقرؤها الآن.
3- لماذا يفشل الحماس؟
مؤلف كتاب "عادات صغيرة" (Mini Habits) ستيفن جايز، يبدأ بسرد قصته بذكر المعاناة التي يعاني منها معظم الناس حول العالم، عند قرارهم أو رغبتهم بممارسة الرياضة على سبيل المثال. ومثل الكثيرين، يكتشف جايز في كل مرة، أن حماسته لممارسة الرياضة تنطفئ بعد يوم أو يومين. وبعد مناقشة هذه المشكلة بعمق بينه وبين نفسه يكتشف، أن "الحماس" لا يعتمد عليه في إحداث تغيير طويل المدى، لأن الحماس يرتبط بالعاطفة البشرية، وهذه العاطفة متقلبة بطبيعتها. يكتشف جايز وهو شاب عادي لم يكن مؤلفاً حتى، أن الحماس قد يكون مفيداً في بدء التغيير لكنه غير مفيد في استمراره. وتوصل إلى أن قوة الإرادة هي العامل الذي يساعد على استمرارية التغيير، ولكنه يكتشف الفجوة الضائعة بين العشرات من الكتابات التي تتحدث عن الحماس وتلك التي تتحدث عن قوة الإرادة للتغيير، ألا وهي قوة الإرادة البسيطة، إذ عليك أن تعتمد على قوة إرادة صغيرة لكنها صارمة، لأن البدء بقوة إرادة كبيرة، هو أمر صعب تطبيقه بالنسبة لمعظم الناس، لاسيما عند قرار الانتقال من نظام حياة إلى آخر. لذا قرر الكاتب إلزام نفسه بالتمارين الرياضية عبر الالتزام بتمرين "ضغطة" واحدة يومياً من تمارين الضغط أو ما يعرف بـ "بوش آب". والتزام بالقيام بضغطة واحدة يومياً "فقط لا غير". المؤلف لاحظ أنه استطاع في بعض الحالات تجاوز عدد الضغطات لكنه ألزم نفسه بالالتزام بواحدة يومياً، ثم بدء تطبيق المبدأ على كثير من نواحي حياته الأخرى التي يود أن يحدث فيها تغييراً. وكانت نصيحته أن تكون البداية التي تختارها تتصف بصفتين لكي تنجح: أن تلتزم بعادة يومية صغيرة لدرجة الغباء (Stupid Small) وأن تكون أصغر من أن تفشل فيها، ثم انظر كيف ينمو التزام ومقدار هذه العادة يومياً. وما يذكره المؤلف في كتابه هو فعلاً ما تتجه إليه آخر الأبحاث والمقالات العلمية ومنها مقال هارفارد بزنس ريفيو "مشكلتك ليست في الحافز بالمواظبة".
4- قاعدة الثواني الخمس
مؤلفة كتاب "قاعدة الخمس ثواني" (The 5 Second Rule) ميل روبينز، ألفت هذا الكتاب بناء على قصتها، والتي تروي فيها أنها وجدت نفسها فجأة عاطلة عن العمل بعد أن تم إنهاء تعاقدها من وظيفتها، وصادف في الوقت نفسه أن زوجها كان أيضاً متعثراً في عمله ويعاني متاعب مالية، فوجدت نفسها في حالة اكتئاب طويلة، أدت إلى ازدياد ساعات نومها وكسلها، لدرجة أنها حاولت أكثر من مرة أن تستيقظ باكراً، لتعاود النشاط قليلاً لكنها ما تلبث أن تجد نفسها وقد ضغطت على زر "غفوة" على المنبه مرة بعد أخرى، لتعود إلى النوم مجدداً. كما أنها حاولت أكثر من مرة أن تجري بعض الاتصالات الهاتفية بمعارفها وأصدقائها في محاولة للبحث عن فرصة عمل، لكنها كانت تتردد وتشعر بالخجل، وتلقي الهاتف من يدها دون أن تتابع الاتصال. وفي يوم من الأيام كانت تشاهد التلفاز وهو يقدم بثاً مباشراً لإطلاق أحد الصواريخ إلى الفضاء، واستمعت للعد التنازلي قبيل إطلاق الصاروخ: (5، 4، 3، 2، 1.. انطلق). أثرت بها هذه الثواني الخمس، فقررت اتباع هذه القاعدة، فعندما كان صوت المنبه ينطلق لإيقاظها صباحاً، كانت تقوم بالعد التنازلي: (5، 4، 3، 2، 1)، فتنهض من سريرها بكل نشاط، وعندما كانت تتردد في الاتصال بمعارفها للبحث عن وظيفة، كانت تعد: (5، 4، 3، 2، 1) ثم تجري الاتصال دون تردد. وبالطبع تغيرت حياتها رأساً على عقب، فقد وجدت وظيفة بسرعة وأصبحت أكثر نشاطاً وتغيرت حياتها إلى أن أصبحت ملهمة غيرت حياة الكثيرين بطريقتها التي تتحدث فيها عن أن الحافز ليس كافياً، ولا بد من إجبار النفس على التحرك. ثم تحدثت عن فكرتها عبر منصة "تيد توكس"، وعندما حقق حديثها الملايين من المتابعين وجدت ذلك حافزاً لتأليف هذا الكتاب الذي وسّع دائرة الفائدة والتأثير لأفكارها.
ما الذي يجمع بين هذه التجارب الأربع لاكتشاف "لحظة الحقيقة"؟ إنها كما ترون اكتشافات تبدو بديهية، لكنها ضائعة من حياة الكثيرين، وعندما اكتشفها المؤلفون السابق ذكرهم (وبعض منهم بالمناسبة لم يكن كاتباً أصلاً)، فقد أعادوا اكتشاف أنفسهم وساعدوا الملايين على التغيير نحو الأفضل.
انظر إلى هذه المبادئ كم تبدو بديهية:
1- لكي تستمتع بحياتك وتخفف ضغوطك وتكمل طريق النجاح، "قف لحظة".
2- ثم أنجز أعمالك على طريقة "طائر بعد طائر" أي خطوة خطوة.
3- لكي تلتزم بالقرارات التي تغير حياتك، عليك العمل على الفجوة الضائعة بين الحماس وقوة الإرادة، وهي "العادات الصغيرة"، والتي يجب أن تكون صغيرة لدرجة الغباء، على أن تلتزم بها وتكررها.
4- عليك إلغاء زر "غفوة من حياتك، وإذا قررت أمراً واقتنعت به أن تبدأ العد التنازلي للتنفيذ في دماغك "5، 4، 3، 2، 1" وتنطلق.