استغلال الفرصة التاريخية للتميز والريادة في السعودية

5 دقائق
استغلال الفرصة التاريخية
shutterstock.com/ ixpert

ما الذي يجمع بين هذه الشخصيات وهم من أغنى 75 شخصية على مرّ التاريخ؟ جون روكفيلر وأندرو كارنيغي وجورج بيكر وجيه بي مورغان وأوليفر بين وجورج بولمان، والذين لا تزال علاماتهم التجارية بارزة أمامنا حتى اليوم؟ الجواب: لقد ولدوا جميعاً خلال السنوات العشر من عام 1830 و1840 من القرن التاسع عشر.

وما الذي يجمع بين ستيف جوبز مؤسس شركة "آبل" وجيف بيزوس مؤسس "أمازون" وجاك ما مؤسس "علي بابا" وبيل غيتس مؤسس "مايكروسوفت" وإيريك شميت الرئيس السابق لشركة "جوجل"؟ الجواب: جميعهم ولدوا في عقد الخمسينيات، أي في السنوات العشر بين أعوام 1955 و1965.

أعيروني صبركم قليلاً؛ وما الذي يجمع بين إيلون ماسك مؤسس "تيسلا" و"سبيس إكس" وغيرها، وبرايان تشيسكي مؤسس "إير بي إن بي" ولاري بيج وسيرغي برين مؤسسا "جوجل" وترافيس كالانيك مؤسس "أوبر"؟ لقد ولدوا جميعاً في الأعوام العشرة بين 1970 و1980.

استغلال الفرصة التاريخية للتميز

حسناً، ماذا يعني هذا؟ ما الذي سنستفيده من معرفة تواريخ الميلاد لهؤلاء الذين أسسوا أعمالاً ريادية وشركات غيرت معالم التاريخ؟ لقد كان أول من جمع جزءاً من هذا التقسيم على أساس العمر، المفكر والباحث المعروف مالكولم غلادويل في كتابه "المتميزون". يشير هذا الباحث الفذ إلى فكرة استغلال اللحظة التاريخية، ويتحدث عن تغيرات طرأت عبر هذه التواريخ التي كان فيها أصحاب هذه الشخصيات شباباً واستغلوا هذه الفرص التاريخية. لقد حدثت تحولات كبرى في تاريخ البشرية وما زالت تحدث، لكن التحولات الكبرى التي حدثت منذ القرن التاسع عشر فتحت فرصاً لمن يلتقطها ليصبح من رواد الأعمال الذين يقودون هذا التحول.

خذ على سبيل المثال المجموعة الأولى من هذه الشخصيات. ففي الستينيات والسبعينيات من القرن التاسع عشر حدث أعظم تحول اقتصادي في أميركا ومن ثم في العالم؛ لقد ظهرت السكك الحديدية وسوق الأوراق المالية وول ستريت. وقد كان ظهور السكك الحديدية كما تعلمون بمثابة ثورة الاتصال الأولى التي قربت بين البشر وزعزعت كل مفاهيم الاقتصاد السائدة، وجاءت وول ستريت لتفتح باب الاستثمار على مصراعيه.

والآن، ماذا يعني ذلك لمن ولد في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن التاسع عشر؟ لقد كانوا شباباً عندما حدث هذا التحول في الستينيات. وبينما وقف الملايين من الناس متفرجين، استغل بعضهم الفرصة التاريخية وأطلقوا أفكارهم ومشاريعهم.

وما حدث بالنسبة للمجموعة الثانية يشبهه تماماً، ففي عام 1975 ظهرت أول نسخة من الحاسب الآلي، وبدأت ثورة الكمبيوتر. وماذا حصل؟ تماماً كما حصل في السابق، الملايين وقفوا متفرجين وتقدم هؤلاء الأشخاص مثل بيل غيتس وستيف جوبز وغيرهم ممن ذكرنا بعضاً من أسمائهم سابقاً، والتقطوا الفرصة التاريخية لهذا التحول الكبير.

وهذا ما حدث بالضبط، بالنسبة لمن ولدوا في عقد السبعينيات، فقد كانوا شباباً عندما نضجت ثورة الإنترنت بداية التسعينيات من القرن العشرين. واستغلوا الفرصة.

ما المقصود بأزمنة العتبات؟

يسمّي عالم الإنثربولوجيا البلجيكي آرنولد فان جينيب هذه اللحظات بـ "أزمنة العتبات" وهي المراحل التي ينتقل فيها الإنسان من حال إلى حال سواء من حيث العمر أو التحولات التي تحدث حوله. ويسرد باحثون في الابتكار قصص بعض الشركات التي استغلت التحول في أزمة كورونا وتأثيره على الشركات لاكتشاف طرق جديدة في إدارة أعمالها وابتكار نماذج أعمال جديدة، وفي المقال الذي يحمل عنوان "لماذا يعد الوقت الحالي الأمثل لدعم الابتكار المفتوح" هنالك عدة أفكار اتبعتها شركات لتترقى وتنمو في ظل جائحة كورونا بينما بقيت شركات أخرى تتفرج وتنطفئ. هذا على صعيد الشركات، بينما على صعيد الأفراد فتذكرون المقال الذي نشرته خلال عام 2020 والذي كان بعنوان "ماذا تفعل لكي لا تضيع عمرك بينما تنتظر انفراج أزمة كورونا" كيف تحدثت فيه عن التمييز بين الأفراد الذين يستغلون لحظات التحول التاريخية - حتى ولو كانت مقلقة - لبناء مهارات والانتقال إلى مستوى أفضل، بينما وقف الكثيرون يتفرجون.

تحدث هذه اللحظات التاريخية على مستوى العالم عبر مراحل بارزة مثل اختراع السكك الحديدية والكهرباء والكمبيوتر والإنترنت والذكاء الاصطناعي، كما تحدث على مستوى الدول عندما تحدث فيها تحولات كبرى تخلق فرصاً لم تكن قائمة من قبل. وكالعادة، فالكثيرون قد لا يشعرون بالفرص التي توفرها هذه التحولات، لأنهم يعيشون حالة المتفرج والمتأثر أكثر من المؤثر، ولا يحرز السبق إلاّ قلة ينتبهون إلى الفرص ويستغلونها.

واليوم تمر الفرص من أمام أعيننا وأعين الشباب الذين ولدوا في مرحلة ما يطلق عليه "جيل الألفية" والذي بلغ الشباب اليوم. ويرى كثيرون منهم فرصة التحول الرقمي الهائلة التي يشهدها العالم، كما يرى الكثيرون منهم بدء ثورة الذكاء الاصطناعي، فماذا تفعل أنت، وأنت تقرأ كل يوم أخبار ولادة الشركات الناشئة في كل قطر وناحية، وأخبار الأموال التي تتدفق لتمويل الأفكار الريادية، وبحسب تقرير ماغنت عن الربع الأول من عام 2021، فإن ضخ الأموال للاستثمار في الشركات الريادية من صناديق الاستثمار الجريئة بلغ ما معدله 6.7 مليون دولار في كل يوم على مستوى منطقتنا، وفي كل أسبوع كانت تتم 10 صفقات مع شركات ناشئة أسسها شباب في المنطقة العربية، بحسب المعدل العام الذي أورده التقرير.

المملكة العربية السعودية واستغلال الفرص

ودعوني أتحدث اليوم عن حالة السعودية في معرض دراسة هذا الموضوع، والتي تعتبر واحدة من الدول الثلاث في المنافسة على صدارة ولادة المشاريع الريادية والاستثمار فيها إلى جانب الإمارات ومصر. وسأركز اليوم على دراسة حالة السعودية، لأنها تمثّل حالة تحول تاريخي بكل معنى الكلمة، فقد خرج المارد من القمقم فجأة، وصارت الفرص تتناثر يميناً وشمالاً في قطاعات كانت مغلقة لعقود من الزمن. وفجأة وجد الشباب السعودي والعربي نفسه أمام هذا العملاق والذي يمثل بلداً ضخماً في حجمه وبعدد سكان يزيد عن 35 مليوناً أكثر من ثلثيهم شباب. في بلد فتح الباب على مصراعيه لقطاعات كانت مغلقة لأجيال؛ فالسياحة والترفيه في بلد يحتوي آثاراً وخطى ما زالت إلى اليوم تحرك وجدان العالم، مثل مواقع وآثار العهد الإسلامي الأول، والتي يمكن أن تتحول إلى متاحف ومواقع سياحية ميدانية تستقطب رحلات سياحية لا تنتهي، ويمكن أن تجعل موسم السياحة مستمراً على مدار العام، وبنتائج لا تقل عن نتائج موسم الحج، عبر إعادة نفض الغبار عن آثار كانت مهملة حتى وقت قريب؛ من غار حراء إلى مسار الهجرة ومواقع الأحداث المهمة. ويمكن أن تقرأ مقال "فرص كبيرة أمام رواد الأعمال للابتكار الرقمي في السياحة الدينية إلى المملكة العربية السعودية"، كما يمكنك مشاهدة برنامج (على خطى العرب) لترى مواقع متروكة بانتظار من يستثمرها بدءاً من آثار قوم عاد وثمود إلى شعراء الجاهلية وقيس وليلى والزير سالم ومواقع الحروب التاريخية، وصولاً إلى أماكن كل قصة من قصص الإسلام في عهد التأسيس. ليس هذا فقط، بل انتقلت المملكة العربي السعودية فجأة إلى نادي الدول التي تبادر دون هوادة لبناء مدن متكاملة مبنية على الذكاء الاصطناعي والروبوتات، وتسهيل الأعمال وجذب العقول. هذا التحول الكبير تتبعه تفاصيل وتتبعه فرص تظهر في كل تفصيلة؛ فعندما نتحدث عن الرياضة، والحدائق والإسكان. ويمكنكم أن تتخيلوا هذا البلد الضخم وقد فتح الفرص للأنشطة الرياضية، وفتح الفرص للابتكار في التخطيط العمراني وسلسلته التي لا تنتهي.

تشبه هذه اللحظة التاريخية التي تحدث الآن في السعودية، ما حدث في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين عندما تبين أن النفط الذي ظهر في المملكة هو ثورة ستغير حياة الجميع، عندها بقي الكثيرون يتفرجون أو مستمتعين بالوفرة، وغرقوا في نوم عميق، بينما انتبه أشخاص، وقرروا استغلال اللحظة التاريخية. وليس من الضروري أن يكون استغلال هذه اللحظات عبر تأسيس شركات، بل استفاد آخرون بالعلم، فقد استغلوا الوفرة لبناء عقول أبنائهم عبر تعليمهم في أفضل الجامعات العالمية، وتحولوا بعد ذلك إلى علماء وقادة، بينما التفت بعض رواد الأعمال إلى تفاصيل فرص التحول، فعلى الرغم من أن المؤسسات الحكومية هي التي تولت التنقيب عن النفط، فقد ولدت فرصاً لا حصر لها، وكانت بحاجة لشركات تمدها بالخدمات اللوجستية مثل قطع الغيار والنقل والإسمنت والحفر وغيرها. وهنا ظهرت اللحظة التي تشبه لحظة ظهور السكك الحديدية في الولايات المتحدة الأميركية في القرن التاسع عشر. واحزروا الآن، ما الذي يجمع بين عبد اللطيف جميل والعليان والراشد والمهيدب والجفالي والزاهد والفوزان وغيرها من الشركات العائلية العملاقة والراسخة حتى اليوم في المملكة؟ إنها جميعاً شركات استغل مؤسسوها هذه اللحظة التاريخية وأسسوا شركاتهم خلال عشرة أعوام بين أعوام 1945 و1955.

اليوم هنالك عشرية جديدة في السعودية انفتحت فيها آبار الفرص التي قد تطغى على عوائد آبار النفط، فمن يعايشها اليوم من الشباب السعودي ذكوراً وإناثاً، يحتاج لاغتنام الفرصة والخروج من عباءة عقلية الموظف إلى الريادي والمبادر. فبعد سنوات من الدوران في الحلقة الروتينية لحياة الشباب السعودي التي اعتمدت مبدأ (التخرج من الجامعة، الوظيفة في  أرامكو أو الوظيفة الحكومية في مؤسسات أخرى). حانت الفرصة لاستكشاف الإمكانات وإطلاقها، فبقدر ما كانت الوظيفة الحكومية نعمة، فقد راكمت عبر السنين حالة من الركون والاستسهال، أعاقت في كثير من الأحيان الحافز أمام إطلاق الابتكارات والمبادرات الفردية. لقد حان الوقت لنشكر الوظيفة الحكومية على دورها الأبوي الراعي في الفترة السابقة، والانطلاق لإثبات المهارات والقدرات أمام هذه الفرص المذهلة.

ملاحظة؛ انتظروني في عام 2025 في مقال جديد عن رواد هذه المرحلة، عندها سأقول ما القاسم المشترك بين فلان وفلان وفلانة وفلانة….، وقد يكون من بينهم من قرر أن يكون الموظف الحكومي بعقلية رائد الأعمال، وقد يكون من بينهم علماء وباحثون، وقد يكون من بينهم أصحاب شركات يونيكورن مليارية عالمية.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي