تحدثت قبل أيام قليلة مع بروفيسور في إحدى الجامعات الإسبانية عبر سكايب، بدا الرجل قلقاً ومتوتراً مما يحيط به من إجراءات احترازية للوقاية من فيروس كورونا. كما بدا شبه عاجز عن العمل والتفاعل من المنزل كما يفترض به أن يعمل. ثم سألني عن المنطقة العربية وكيف نتعايش مع هذه الأزمة الخانقة، فقلت له أعتقد أن الجميع مشترك في هذه الأزمة عالمياً، لكنني أرى فرقاً ربما يبدو جوهرياً، وهو أن الناس في منطقتنا العربية اعتادت على الأزمات، فلم يعد يربكها الانتقال الفجائي إلى "حالة الطوارئ ومناخ الأزمة"، وعرضت على البروفيسور صورة أرسلها لي صديق من فرنسا تظهر السوبر ماركت الذي يقع تحت منزله خالياً تماماً من البضائع، بعد هجوم البشر على موجة الشراء خوفاً من الأزمة، ولكن كيف يمكن استغلال أزمة كورونا لصالحك؟
كنت أشرح لصديقي البروفيسور أنني أعتقد أن الجيل الحالي من الإسبانيين لم يعايشوا أزمات الحياة أيام الحرب الأهلية في إسبانيا أو المعاناة في ظل ديكتاتورية فرانكو، فقال لي إن هذا صحيح. وإن حالة الأزمة والخوف على الحياة والخوف على توفر الغذاء والدواء تبدو اليوم هاجساً لم يكن يتخيله الجيل الحالي في أوروبا، حتى في الأحلام.
ثم تذكرت بعد حديثي مع البروفيسور أن الناس في المنطقة العربية، ليسوا كلهم سواء في فكرة معايشة الأزمات، وأن ثمة دولاً وشعوباً عربية لم تختبر حالة الأزمة والطوارئ، والعيش بلا كهرباء وبلا توفر للمواد الأساسية التي يتطلبها العيش الكريم، وفوق هذا وذاك، العيش في حالة الخطر والغموض الذي يتهدد الحياة والمستقبل. ولذا رأيت أن أقدم بعض التجارب المفيدة والتي يمكن استفادتها ممن جربوا الأزمات وعاشوها سواء في الدول العربية أو غيرها، ولديّ شخصياً تجربتي التي تعلمت منها الكثير.
اقرأ أيضاً: ماذا تعلّمت بعض الدول من الأزمة المالية؟
دعوني أوضح في البداية، أن الأزمات التي يكتنفها الغموض، والتي لا تعلم متى أو كيف تنتهي، كما حصل في سوريا أو ليبيا أو العراق أو اليمن وغيرها، يتشكّل الناس فيها - وأقصد الناس غير المشتركين في الصراع المباشر- بأحد اتجاهين؛ فإما أن يتوقف الزمن عندهم في لحظة اندلاع الأزمة، أو يخرجوا منها وقد سبقوا الآخرين بسنوات وغيّروا حياتهم نحو الأفضل.
فأما الذين تتوقف الحياة عندهم فهم ذلك النوع من الناس الذي يقتله الترقب والقلق، ويعلق الآمال كل يوم على نشرة الأخبار والتحديثات في مجموعات وسائل التواصل الاجتماعي، بحثاً عن خبر يطمئنه بانفراج الأزمة. وهذا ما يجعله يتحول تدريجياً إلى أسير للأخبار المزيفة والإحباطات، وينتقل بذلك إلى حالة مرضية من الاكتئاب وضعف التركيز، وبالطبع لن يكون مثل هذا الشخص قادراً على التفكير في مستقبله، أو البحث عن مسار يطور نفسه ومهنته فيه مستغلاً فترة الجمود في الأزمة. كما أن المشكلة الأهم في هذا النوع من الناس، هو أنهم لن يشعروا بالأشهر والسنين تمر وتضيع من أعمارهم بينما يقفون في مكانهم، وسيكتشفون بعد فوات الأوان أن هناك فئة أخرى من الناس عاشت معهم ذات الأزمة، لكنها خرجت منها وقد حصلت على شهادات علمية أو اكتسبت مهارات جديدة أو ألّفت مؤلفات وقرأت عشرات الكتب أو جهزت مشاريع تغير حياتهم نحو الأفضل. وهذا هو النوع الثاني من الناس الذين انتبهوا حينما غفِل الآخرون، وقرروا البدء باستثمار الوقت في ظل الأزمة، فلم يحققوا المكاسب فقط، بل تجنبوا الأمراض الحقيقية التي أصابت غيرهم.
كيفية استغلال أزمة كورونا لصالحك
لكن كيف يمكن لمن لم يختبر الأزمات من قبل أن يستعد ليصبح من النوع الذي يستثمر في نفسه ولا يتوقف عنده الزمن؟ وهنا أقدم من تجاربي وتجربة العشرات ممن أعرفهم ممن عايشوا أزمات شتى، وخرجوا منها أفضل مما كانوا على الرغم من أن الكثيرين من أقرانهم وأبناء بلدانهم، ربما وقعوا فريسة الوساوس التي أضاعت أعواماً من أعمارهم في الانتظار. وبما أننا في ظلال أزمة كورونا التي تنطبق مواصفاتها على أزمات اللايقين والغموض، والتي سيمتد تأثيرها لعام على الأقل، حيث انتقلنا بين عشية وضحاها إلى نمط حياة جديد لم نألفه من قبل، وانتقلنا من حالة الرخاء والوفرة إلى الأزمة والقلق على حياتنا وحياة أسرنا ومستقبل أعمالنا، فما هي النصائح لنخرج رابحين ولا تضيع هذه السنة سدى من أعمارنا ولا تتحول إلى سبب لدمار حياتنا ومستقبلنا أو على الأقل تخلفنا عن ركب المستقبل:
1- إذا لم يكن حل الأزمة بيديك، فلا تشغل نفسك طوال الوقت به:
من المهم أن يتعلم من يمر بأزمة، كأزمات الحروب أو الأوبئة مثل كورونا، بأن يسأل نفسه، إن كان بيده حل للأزمة العامة أم لا، فإن كان الجواب "لا" فعليك أن تدرك هذه الحقيقة بكل معانيها ولا تقع فريسة لوساوس الانتظار والأمل. افعل ما يمكنك القيام به لحماية نفسك، ثم التفت لذاتك وعائلتك، وتساءل؛ ماذا يمكنني أن أفعل لكي لا يتوقف الزمن بالنسبة لي. ضع في حسبانك، أن الإنسان الذي يغلبه الفضول والقلق بطبعه، لن يكون من السهل عليه أن يتخلى عن وسواس الانشغال بالأزمة، لكن عليك أن تدرب نفسك، لأن الأزمات لها نهاية بكل تأكيد، ولكن الرابحين منها قلائل، وستجد حينما تتكرر الأزمات أن قدرتك على رباطة الجأش والمبادرة باتت أفضل بكثير.
2- تجنب متابعة تحديثات وأخبار الأزمة، واقتصر على ما يلزمك أن تعرفه لتحمي نفسك وعائلتك:
وهذه النصيحة تدخل بالطبع في صلب الصراع الذي كتب عنه وتحدث عنه عشرات الخبراء في محاولة لتحذير الناس من الانجراف نحو هوس متابعة الأخبار والتحديثات على وسائل التواصل الاجتماعي. وثمة عدة حلول أجد أفضلها بالنسبة لي ما اقترحه كال نيوبورت في كتابه "عمل عميق" (Deep Work)، وهو أن تحذف تطبيقات التواصل الاجتماعي من هاتفك الجوال وتبقيها فقط على اللابتوب أو الكمبيوتر العادي، وستجد أن خلق هذه المسافة بينك وبين هذه التطبيقات، سيعيد إليك حياتك تدريجياً، وسيحميك من التوتر الذي يتسبب به متابعة الناس على وسائل التواصل الاجتماعي. ستعاني في البداية لكن عليك أن تملأ الفراغ فوراً باتباع النصيحة الثالثة.
اقرأ أيضاً: نصائح لتحقيق أقصى استفادة ممكنة مع الخروج من أزمة كورونا
3- استغل فترة الأزمة والركون في المنزل لتراجع حساباتك:
هذه النصيحة بحسب التجارب هي نقطة التحول في حياتك، وهي الثمرة التي ستخرج بها. راجع مسارك المهني والدراسي، وتساءل إن كنت تركز على الأهم أم أنك انجرفت لمسار أقل أهمية. راجع السنوات الضائعة من حياتك والعادات السيئة، وراجع المشاريع التي لم تستطع إكمالها وتلك التي نجحت بها، وعش لحظات امتنان إن كنت ناجحاً في بعضها، وواجه نفسك بحدة إن اكتشفت أنك لا تنفذ مخططاتك التي اقتنعت بها منذ سنوات، والتي ما زلت تسوّف وتؤجل تنفيذها.
4- استغل الوقت في اكتساب العادات الأفضل بدل الأسوأ:
القرار بيدك، فالأزمات التي تنطوي على الغموض وتنطوي على الجلوس في البيوت انتظاراً لانفراجها، إما أن تتحول إلى جحيم ومرض نفسي وسُمنة وتدمير شخصي وعائلي، وإما أنها ستتحول إلى فرصة لإطلاق عادات جديدة والتخلي عن السيئة. في مثل هذه الظروف تتسابق إليك العادات السيئة المغرية، مثل الانجراف إلى الألعاب الإلكترونية، والهوس بمتابعة الأخبار، وصولاً إلى المبالغة في تناول الطعام والمهدئات والتدخين وغيرها. ويمكن أن تكون كذلك فرصة لإطلاق عادات جديدة جيدة قبل أن تتورط في العادات السيئة التي ستبدأ بإغرائك فوراً.
5- ضع برنامجاً لتطوير الذات:
القراءة ثم القراءة. لا يدرك دور القراءة في إعادة التحكم بالحياة إلاّ من جربها. إنها تعيد تكوين شخصيتك من جديد، وترسخ ثقتك في نفسك وتوسع مداركك، وتجعلك قادراً على تنفيذ ما تتردد في تنفيذه منذ سنوات. ستكتشف عندما تُدخل القراءة اليومية إلى حياتك، أن حياتك كانت بلا معنى قبل تبني عادة القراءة. جميع الناجحين من بيل غيتس الذي يحمل حقيبة كتبه بيده أينما ارتحل، وإيلون ماسك الذي قضى مراهقته وشبابه وهو يقرأ كتاباً كاملاً في كل يوم، حتى صار ما هو عليه الآن من عبقرية وإقدام على الابتكار، وغيرهم من المبدعين الكثير. ويمكنك بالطبع أن تستعيض عن القراءة بالاستماع للمقالات الصوتية أو البودكاست أو الفيديوهات التعليمية والوثائقية، وهي متوفرة بكثرة، ومجاناً. وإن كنت تتساءل عن توفر الوقت، فإنني أحيلك إلى هذا المقال من هارفارد بزنس ريفيو والذي سيثبت لك أن الإنسان يقرأ يومياً نحو 100 ألف كلمة، وأن لديك الوقت لتقرأ كتاباً كاملاً كل يوم إذا احتسبت الوقت الذي تقضيه على وسائل التواصل الاجتماعي ونتفليكس ومتابعة التلفاز، وغير ذلك من الأنشطة، ففي تقرير صدر عن "جامعة كاليفورنيا" يؤكد أننا نستهلك بيانات الآن أكثر من أي وقت مضى، من تنبيهات وإشعارات ورسائل إلكترونية وعناوين أخبار وشرائط أسعار الأسهم والمدونات والتغريدات والتعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي. من مقال (8 طرق لقراءة الكتب التي تريد قراءتها).
6- اكتسب عادة ممارسة الرياضة:
قبل أن يعترض أحدنا على توفر الوقت، وربما المكان لممارسة الرياضة في المنزل، فإنني أتمنى من كل من يساوره الشك، أن يبحث على يوتيوب ليجد المئات من تجارب الرياضة المنزلية التي تتم في غرف صغيرة جداً، والتي حقق أصحابها نتائج عظيمة. ويمكنك أن تقرأ كتاب "عادات صغيرة" (Mini Habits) لمؤلفه ستيفن جايز، والذي تحدث عن قصته وكيف بدأ الرياضة المنزلية بممارسة تمرين الضغط لمرة واحدة يومياً "ضغطة واحدة فقط كل يوم"، تلك الضغطة التي تحولت بعد ذلك إلى عادة، وتطورت إلى ممارسة منتظمة للرياضة، كما أدى هذا المبدأ لولادة عادات أخرى لديه أدت إلى تغيير حياته نحو الأفضل. وبالنسبة لي، فلم أجد خياراً بعد إغلاق النوادي الرياضية احترازاً من فيروس كوروناً إلاّ اللجوء للرياضة المنزلية، فأنا أستيقظ في السادسة صباحاً وأمارس الرياضة والجري في مساحة صغيرة، وأتمرن مع الأوزان التي اشتريتها من السوق، وأعتمد على برامجي الرياضية اليومية في التطبيقات الرياضية المتخصصة على الهاتف الجوال، وأحقق ذات النتائج التي كنت أحققها خلال ممارستي للرياضة سابقاً في النادي الرياضي.
7- أعد اكتشاف علاقتك بعائلتك وأطفالك:
هل تذكرون إحدى الحلقات من مسلسل مرايا للفنان ياسر العظمة، عندما كانت العائلة مشدودة الانتباه إلى التلفاز في الفترة الأولى لظهور القنوات الفضائية وظهور هوس متابعة "الدش" أو الستالايت. في هذه الحلقة تظهر العائلة أسيرة كل يوم لمتابعة "الدش". وفجأة، يتعطل جهاز التلفاز لدى إحدى العائلات لسبب ما، ليلتفت أفراد العائلة إلى بعضهم ويبدؤون التعرف على بعضهم من جديد. ويبدأ الأب بسؤال أبنائه عن دراستهم وفي أي مرحلة دراسية أصبحوا، ليكتشف أن ابنه تخرج من الجامعة، وأن ابنته كبرت، ولتكتشف العائلة أن هذا ازداد سمنة وهذا نحافة والأب ازداد شيباً!! الآن حانت الفرصة، لتعيد اكتشاف علاقتك مع عائلتك وتصلح ما أفسده الانشغال السابق خارج المنزل.
اقرأ أيضاً: نشر المعلومات الصحيحة على "تويتر" خلال الأزمات
وفي نهاية الحديث عن استغلال أزمة كورونا بطريقة صحيحة، ومن خلال تجربتي ومعايشتي ومتابعتي لأزمات سابقة، فإنني أعرف، أنه ليس كل من يقرأ هذه النصائح سيستطيع تطبيقها، لأنها بكل بساطة تحتاج للانضباط وقليل من قوة الإرادة لتغيير نمط الحياة المعتاد. ومشكلة هؤلاء، هو أنهم سيبقون في حالة إنكار للواقع الجديد، وسيحاولون إقناع أنفسهم أن ما يحصل هو أزمة مؤقتة، وأنهم سيعودون لحياتهم السابقة قريباً. لكنني أؤكد أن هذا خطأ لسببين؛ أولهما أن هذا الأمر سيطول، وأنه واقع حياتك الجديدة لفترة ليست بالقصيرة، وكلما عشتها بإنكار وانتظار فأنت الخاسر.
اقرأ أيضاً: كيفية قراءة الكتب.