في السنوات الأخيرة، زعمت مقالات أن أسلوب القيادة القديم بالتحكم والسيطرة قد "ولَّى"، وأن أسلوباً قيادياً جديداً قد "أصبح رائجاً". فبدلاً من أن يملي القادة على الناس ما يفعلوه، ينبغي أن يطرحوا عليهم أسئلة مفتوحة. وبدلاً من الالتزام الصارم بالخطط، يجب عليهم تعديل الأهداف بالتزامن مع ظهور معطيات جديدة. وبدلاً من الاعتماد على حدسهم، يجب على القائد الاعتماد على البيانات لاتخاذ القرارات. وهكذا دواليك.
لنطلق على نموذج القيادة القديمة هذا صفة التقليدي والأسلوب الجديد صفة الناشئ. إليكم هذا التحدي: في بيئة العمل الراهنة، غالبية المسؤولين التنفيذيين بحاجة إلى أن يكونوا بارعين في أسلوبي القيادة كي يتحقق لهم النجاح. وهذا يعني أن أي قائد يعول فقط على سلطة منصبه سيصطدم بمشكلات، ذلك أن توقعات الأعمال والتقنية وقوة العمل تتبدل بسرعة مهولة جداً لا تسمح بأن يظل هذا الأسلوب مستداماً. ولكن في الوقت ذاته، أي قائد يخفق في السعي وراء الكمال، ولا يملي أوامره وإنما يكتفي بالإصغاء للآخرين، ويشارك السلطة ولكن لا يستأثر بها قط، سيعاني الأمرين أيضاً حتى يكون فعّالاً.
في الاستقصاءات والمقابلات الشخصية التي أجريناها لمئات القادة على مستوى العالم، كشفنا اللثام عن سبعة عوامل توتر أساسية بين أسلوبي القيادة التقليدي والناشئ. تخلق تلك العوامل ضغوطاً كبيرة على القادة، حيث إنهم غالباً لا يكونون على يقين من الكفاءات والمهارات والسلوكيات التي عليهم ممارستها في سياق محدد. ونحن في هذه المقالة نَصِف عوامل التوتر ونرسم الخطوط العريضة لمخاطر تجاهلها ونقترح استراتيجيات لتحقيق التوازن بين أسلوبيْ القيادة.
عامل التوتر الأول: القائد الخبير في مقابل القائد المتعلم
تاريخياً، بنى القادة مسيرتهم المهنية باكتساب خبرة عميقة من نوع ما، وإثبات مستويات متزايدة من الكفاءة وهم يرتقون السلم الوظيفي بالشركة. وافترضت المؤسسات أنهم سيجلبون رؤى ثاقبة رفيعة المستوى للتحديات الماثلة أمامهم. في أسلوب القيادة الناشئ، يتعين على القادة قبول حقيقة أن خبرتهم المتخصصة محدودة (وعتيقة في بعض الحالات)، وأن ينفتحوا على التعلم من الآخرين. ويصِح ذلك تحديداً متى تعلق الأمر بالمعرفة الرقمية، حيث إن كثيراً من القادة المكلفين بمهمة إحداث تحولات رقمية رائدة ليسوا مخضرمين في استخدام التقنية الرقمية. وإذا لم يتم التعامل مع عامل التوتر هذا بحكمة، فسيتعرض القادة إلى خطر اتخاذ قرارات عقيمة أو غير ملائمة.
لقد استطاع تيم ويسترغرين، المؤسس المشارك لمنصة البث الإذاعي التدفقي "باندورا" (Pandora)، أن يمزج بين الأسلوبين. فقد آمن بأن مفتاح نجاحه يكمن في المزج ما بين معرفته الواسعة بالصناعة وانفتاحه على أن يتعلم من الآخرين الاتجاهات والتقنيات الجديدة. قبل تأسيسه لإذاعة "باندورا"، عمل ويسترغرين منتجاً للأسطوانات الموسيقية ومؤلفاً موسيقياً لعقدين كاملين تحت مظلة العلامة التجارية "باندورا ميديا" (Pandora Media)، التي كانت معنية بالكامل بالاكتشاف الموسيقي. ولقد صب ذلك في خوارزمية "الجينوم الموسيقي" لمنصة "باندورا" التي تُعد أحد مفاتيح نجاح المنصة. ولكن، عندما انتقلت الشركة إلى نموذج عمل الاشتراك المجاني، وجد نفسه في مجال جديد، واضطر للاعتماد بكثافة على الرؤى الثاقبة والمعارف المستخلصة من الموظفين والزبائن.
عامل التوتر الثاني: القائد المتحجر في مقابل القائد المتكيف
يقيم أسلوب القيادة التقليدي وزناً لعقيدة صناعة القرار والثبات على المبدأ، فالقادة البارعون "يتشبثون بآرائهم". وعلى النقيض، يقر أسلوب القيادة الناشئ أنه في البيئات سريعة التغير، غالباً ما تقتضي الحاجة قلْب الآراء أو تعديلها، وأن تغيير المسار استجابة للمعلومات المستجدة مكمن قوة لا مكمن ضَعْف. إذا لم يُدار عامل التوتر هذا بحكمة، فسيتعرض القادة إلى خطر الظهور إما بمظهر المتزمتين جداً من ناحية، أو ضعيفي الإرادة أكثر من اللازم من ناحية أخرى.
في بداية المسيرة المهنية لجيم وايتهرست، الرئيس التنفيذي لشركة البرمجيات مفتوحة المصدر "ريد هات" (Red Hat)، قرر جيم إصدار منتج لم يكن مفتوحَ المصدر بالكامل، بالمخالفة لسياسة الشركة. وليس من عجب أن المنتج باء بالفشل. ومن حسن الحظ أنه اشتهر بتوفير قاعدة آمنة ومتينة لفريق عمله. وبالتالي، عندما أقر صراحة بخطئه، كان الموظفون والزملاء على استعداد للمضي قدماً بسرعة وتجاوز هذا الخطأ.
عامل التوتر الثالث: الخبير التكتيكي في مقابل الحالم
يدعو الأسلوب التقليدي للقيادة إلى الوضوح العملياتي والخطط واضحة المعالم. ويقترح الأسلوب الناشئ أن القادة بحاجة إلى رؤية واضحة حيال وجهتهم التي يريدون الوصول إليها، دون الحاجة بالضرورة إلى خارطة طريق ملموسة تحدد كيفية بلوغ تلك الوجهة. وإذا لم يُدار عامل التوتر هذا بحكمة، فإن القادة سيخاطرون بالإخفاق في إمداد أعضاء فريقهم بـ "بوصلة" يستدلون بها. ومن ناحية أخرى، إذا لم يكونوا واقعيين، فربما خدموا غايات سامية أو غير واقعية أو غير ملموسة.
يؤمن فاسانت ناراسيمهان، الرئيس التنفيذي لشركة "نوفارتس" (Novartis) للأدوية، بأن التحليلات التنبؤية المحوسبة والذكاء الاصطناعي سيحُدثان تحولاً في صناعة الرعاية الصحية. ولذلك، فقد استثمر بكثافة في الذكاء الاصطناعي، وتحدى مختلف أقسام المؤسسة أن تشق طريقها نحو تعميم هذه التقنية. ورحبت غالبية الفِرق بالمبادرة، غير أن ناراسيمهان لاحظ أنهم كثيراً ما وجدوا مشقة في الربط ما بين تقنية الذكاء الاصطناعي وعملهم اليومي. وبالتالي، فقد أولى عناية خاصة بالعمليات اليومية الضرورية للسماح لتلك "الخطوات الأكبر والأكثر جرأة" بتحقيق النتائج المرجوة لشركات المستحضرات الدوائية العملاقة. ودمج التحليلات المحوسبة التنبؤية والذكاء الاصطناعي في المحور التشغيلي للشركة ذاتها، كهدف ملموس أولاً، وأطلق أداة تتيح العرض الآني لجميع التجارب الإكلينيكية الخمسمائة في أنحاء العالم، والتي يمكن توسعتها إلى مجالات أخرى كالتصنيع والشؤون التنظيمية.
عامل التوتر الرابع: القائد الآمر في مقابل القائد المصغي
يدعو أسلوب القيادة التقليدي القادة إلى أن يُملوا على الآخرين أعمالهم وكيفية أدائها. ويقيم الأسلوب الناشئ وزناً للإصغاء بعناية إلى الآخرين قبل اتخاذ القرار. وإذا لم يُدار عامل التوتر هذا بحكمة، فسيخاطر القادة بأن تفوتهم معلومات بالغة الأهمية لدى أعضاء الفريق المحيطين بهم. وفي المقابل، لو أحجم القائد عن التصريح بوجهة نظره، فستفوته فرصة تطبيق معارفه عظيمة القيمة.
التحقت أنجلا أهريندتس، الرئيسة التنفيذية السابقة لشركة "بربري" (Burberry)، بمنصبها ولديها وجهة نظر واضحة مفادها أن علامة الموضة التجارية بحاجة إلى أن تصبح وثيقة الصلة بجيل المتسوقين من أبناء الألفية كي تزدهر. ولكن عندما تعلق الأمر بقرارات تشغيلية محددة، استعانت بأفكار وآراء من مجموعة كبيرة من الناس، ما أدى إلى مضاعفة الأرباح التشغيلية تقريباً لشركة "بربري" خلال مدة توليها وظيفتها.
عامل التوتر الخامس: المستأثر بالسلطة في مقابل المشارك للسلطة
يقترح الأسلوب التقليدي بأن القادة لا بد أن يقودوا من القمة ويصنعوا القرارات ويتخذوا الإجراءات على نحو مستقل. وفي المقابل، نجد أن الأسلوب الناشئ يقيم وزناً لتمكين الآخرين بهدف تحقيق الأهداف. وإذا لم يُدار عامل التوتر هذا بحكمة، فسيخاطر القادة بإقصاء أصحاب المواهب الواعدة وتهميشهم. وعلى النقيض، ربما قوضوا سلطتهم بإسرافهم في مشاركة السلطة على نطاق أوسع من اللازم.
أمسك ماريو بيزاري، الرئيس التنفيذي لشركة "غوتشي"، بزمام السلطة الممنوحة له بموجب منصبه بإدارته للجانب المالي للشركة، بينما منح مدير الابتكار، أليساندرو ميشيل، مساحة للتركيز على ما يبرع فيه، ألا وهو التصميم. لكنه كان يعلم أيضاً متى يتعين عليه تمكين الآخرين، فأسس مجلس إدارة غير رسمي من الموظفين أبناء جيل الألفية لتقديم استشاراته إلى الفريق التنفيذي لشركة الموضة العملاقة.
عامل التوتر السادس: القائد الحدسي في مقابل القائد المُحلّل
ينص الأسلوب التقليدي على أن القادة يكتسبون "خبرة غريزية" تساعدهم على صنع قرارات بديهية. وفي المقابل، ينص الأسلوب الناشئ على أن القادة ينبغي أن يرتكزوا في قراراتهم إلى حد كبير على البيانات. وإذا لم يتم التعامل مع عامل التوتر هذا بحكمة، فسيجد القادة أنفسهم عرضة لصناعة قرارات تعوّل على استدلالات متحيزة وعفا عليها الزمان. أو، من ناحية أخرى، سيخاطرون بتجاهل بوصلتهم الداخلية التي ربما أمدتهم برؤى ثاقبة عظيمة القيمة من خبرات سابقة.
وتؤيد باربرا كوبولا، الرئيسة التنفيذية للبيانات في شركة "أيكيا"، أهمية صناعة القرار المستندة إلى البيانات، والتوحيد القياسي للبيانات على المستوى العالمي، وفي الوقت ذاته منح المناطق المختلفة مساحة للإبداع بما يتماشى مع أسواقها المباشرة. ولأن البيانات والمقاييس المحددة موحَّدة عبر المناطق المختلفة، من الممكن قياسها بسهولة بالمقارنة ببقية المناطق الأخرى كلها، وكذلك عالمياً. إن تكتيك توحيد المقاييس المعيارية يعطي تصوراً شاملاً تُستخلص منه استدلالات حدسية حيال أي الابتكارات الإقليمية التي يمكن توسعة نطاقها تجريبياً أو تعزيزها عالمياً.
عامل التوتر السابع: المهووس بالكمال في مقابل المُسرِّع
يؤكد الأسلوب التقليدي على أن القادة ينبغي لهم أن يأخذوا الوقت الكافي لتقديم منتج كامل بشكل مثالي. ويدعو الأسلوب الناشئ القادة إلى الإقرار بأن إنجاز الأمور بسرعة، والإخفاق بسرعة، غالباً ما يكون أهم من إنجاز الأمور بشكل مثالي. إذا لم يُدار عامل التوتر هذا بحكمة، فسيخاطر القادة بتأخير إطلاق المبادرات أو التوجيهات الأساسية بسبب خوفهم من عدم بلوغ الكمال. وفي المقابل، فإن المضي قدماً في المبادرات دون دراسة واختبار كافييْن يمكن أن يؤدي إلى نتائج محرجة.
وتسعى شارلوت ليندسي-كورتيت، مديرة التحول الرقمي والبيانات في مؤسسة الصليب الأحمر الدولية، جاهدة إلى استدامة أسلوب الحفاظ على الخصوصية عبر التصميم من أجل حماية هوية اللاجئين. ومع ذلك، فهي تستكشف أيضاً سبلاً للربط بين عائلات اللاجئين عبر تقنيات جديدة مثل الاستدلال البيولوجي، حيث إن السرعة تمثل عاملاً حيوياً في لَمْ شمل العائلات.
ما الذي يستطيع المسؤولون التنفيذيون القيام به للتعامل مع عوامل التوتر هذه؟
يرتقي القادة بفعاليتهم لا بالتشديد دوماً على نهج واحد وإعلاء أهميته على نهج آخر، وإنما باكتساب البراعة التي تضمن لهم الانتقال بين النهجين بحسب مقتضى السياق. ولا ينبغي الاستهانة بصعوبة تحقيق هذا المستوى من البراعة الإدراكية والسلوكية. ولكن، بالجهود المُرَكّزة، يمكن تحقيقها.
الوعي الذاتي. فهم الميول الطبيعية للذات خطوة أولى مهمة. أين منطقة الأمان الخاصة بك؟ ما هو موقفك الافتراضي؟ في العالم الرقمي، يمكن أن يكتسب القادة رؤى ثاقبة عن أنفسهم من تطبيقات الملاحظات الآنية أو من المنتديات الإلكترونية، حيث ينشر أعضاء مجتمعهم تعليقات ويقدمون تقييمات.
التعلم والتكيف والممارسة. فور أن يتعرف القادة على ميولهم الطبيعية، يصبح بإمكانهم العمل على تطوير مجموعة من السلوكيات بالغة البساطة للتعامل مع عوامل التوتر التي لا يُحسنون إدارتها. ويمكن تحسين هذه العملية بالتدريب الرسمي. ويجوز أن يتخذ هذا التدريب شكل التدريب البشري أو بوت آلي للتدريب مثل "Jolt.ai".
الوعي السياقي. لا يعني أن يصبح المرء قائداً فعالاً توسعة نطاق أسلوب القيادة الحالي فقط بحيث يشتمل على سلوكيات جديدة، وإنما ينطوي أيضاً على معرفة متى يتعين التركيز أكثر على جانب أو آخر من جوانب التوتر. ويتطلب ذلك وعياً سياقياً وذكاء عاطفياً، يُستخلصان مباشرة من القائد أو من البيئة الاجتماعية المحيطة له. ومن خلال برامج مثل الإرشاد العكسي، يستطيع القادة الاعتماد على التنوع الكامن داخل قوى العمل الخاصة بهم لإسداء نصائح حول التوقيت المناسب لتفضيل أسلوب ما على الآخر.