لا شك أن جائحة فيروس كورونا المستجد "كوفيد-19" أثرت على الشركات والمشاريع حول العالم، بما في ذلك المشاريع القائمة في المملكة العربية السعودية، وتراوحت تداعيات هذه الجائحة بين تراجع الاقتصاد، والتوقعات السلبية لنمو إجمالي الناتج المحلي، وفرض تدابير الإغلاق العام والعمل عن بُعد، وصولاً إلى تحوّل استراتيجيات المستثمرين والشركات وتركيز الاستراتيجيات على ضمان الاستمرار.
لقد برهنت الأزمة أن على الشركات أن تكون أكثر مرونة وتكيفاً مع التوجهات الجديدة التي ظهرت في ظل الأزمة، وذلك لتتخطى تداعياتها وتحقق النجاح الذي تطمح إليه. اعتمدت الشركات الناشئة والمشاريع المتوسعة على نماذج أعمال مبتكرة ومرنة للاستجابة لديناميكيات السوق والازدهار في ظل الظروف القاسية. كما تمحورت العقليات الاستثمارية لمواكبة الوضع المستجد مع استمرار السعي وراء صفقات استثمارية مربحة، وعلى الرغم من التحديات الكثيرة، احتّلت المملكة العربية السعودية المرتبة الثالثة من حيث عدد صفقات رأس المال المغامر (رأس المال الجريء)، واستحوذ سوقها على 15% من إجمالي التمويل في المنطقة.
لقد تصدرت التجارة الإلكترونية القطاعات التي نجحت في إتمام الصفقات على الرغم من التحديات، وتلتها خدمات التوصيل، والتكنولوجيا التعليمية، والتكنولوجيا الصحية، التي كانت تعاني من شح في الاستثمارات في فترة ما قبل الأزمة.
عناصر استراتيجيات الاستثمار
نتيجة للجائحة، تمحورت استراتيجيات الاستثمار حول العناصر الرئيسية التالية:
1- بدلاً من تخصيص الأموال للاستثمارات الجديدة، يسخّر المستثمرون موجوداتهم ومجهوداتهم لدعم محفظة شركاتهم الحالية من خلال جولات التمويل قصيرة الأجل/جولات المتابعة.
2- يعيدون النظر في استراتيجية استثماراتهم للتركيز على الفرص الأكثر مرونة وتكيّفاً.
3- يولون أهمية أكبر لعملية الفحص النافي للجهالة بحيث يتم التدقيق في كل رقم.
ما الذي يبحث عنه المستثمرون السعوديون؟ وكيف غيّرت صناديق رأس المال المغامر (الجريء) استراتيجياتها؟
نتيجة للأزمة الاقتصادية الناتجة عن فيروس كورونا، تغيّرت استراتيجيات المستثمرين وتأجلت قرارات الاستثمار. فقد أعاد عدد من صناديق رأس المال المغامر (الجريء) النظر في محافظه، وكثّفت صناديق رأس المال المغامر العمل مع الشركات التي سبق واستثمرت فيها لتحفيزها على وضع استراتيجية جديدة، وزيادة حصتها في السوق وحل مشاكلها.
يضع العديد من المستثمرين نصب أعينهم هدف تمويل مشاريع تتسم بالابتكار والقدرة العالية على التكيف، ولذلك يزيد تركيزهم على الفحص النافي للجهالة، ما أدى إلى تأخير إتمام الصفقات، وزاد من العبء المادي الذي تتحمله الشركات الناشئة. فالسوق باختصار هو سوق مشترين.
كما لاحظنا أن تركيز المستثمرين تحوّل إلى الصناعات سريعة النمو الأقل تأثراً بالمخاطر المرتبطة بالجائحة.
أهمية الفحص النافي للجهالة بالنسبة إلى الصناديق الاستثمارية
أصبح الفحص النافي للجهالة أكثر أهمية في سياق الاستثمار، حيث يكرّس المستثمرون مزيداً من الوقت والجهد والموارد له، بناء على النتائج التالية:
- تدقق الصناديق في توقعات أداء الشركات، لاسيما في مرحلة ما بعد الجائحة.
- لم تعد التقييمات الخيالية تقبل بصدر رحب كما في السابق، وسيتم التركيز على الأداء الحالي كالأداة الأهم للقياس.
- ستؤخذ أي تكاليف تنشأ ما بعد الجائحة بسبب التباعد الاجتماعي (نتيجة لتراجع القدرة على الإنتاج أو تعطيل سلاسل التوريد) في عين الاعتبار.
لا شك أن الصناديق متعددة الأصول والقطاعات كانت أقل عرضة لمخاطر الاستثمار، وكانت القطاعات الأساسية أو القطاعات الدفاعية المتميزة بقلة مرونة الطلب، مثل قطاع المواد الغذائية والرعاية الصحيّة، أقل تأثّراً.
الفائزون: القطاعات الرابحة والتي تلقت التمويل في المملكة العربية السعودية
بحسب تقرير صادر عن موقع "ماجنيت" والشركة السعودية للاستثمار المغامر (الاستثمار الجريء)، حققت الشركات الناشئة في السعودية ارتفاعاً بنسبة 102% في الحصول على التمويل في النصف الأول من العام، بالمقارنة مع النصف الأول من العام المنصرم حيث بلغ 95 مليون دولار أميركي على الرغم من الجائحة، وارتفع عدد الصفقات من 29% إلى 45%، وتلقّت شركات التجارة الإلكترونية أغلبية الاستثمار في السعودية بنسبة 67% مع أن إجمالي الصفقات في هذا القطاع تراجع بنسبة 15%.
تشمل الصفقات الثلاث الأولى المسجلة في المملكة في النصف الأول من عام 2020 صفقة "جاهز" (Jahez)، وهو تطبيق لتوصيل الأطعمة (36.5 مليون دولار)، و"نعناع" (Nana)، المتخصص في خدمات البقالة والتوصيل (18 مليون دولار)، ومنصة "أكاديمية نون" (Noon Academy) التي حققت (13 مليون دولار)، وهذه أرقام مهمة بالنظر إلى المناخ الاقتصادي الصعب.
حققت التكنولوجيا التعليمية أيضاً نجاحاً، بالنظر إلى إقفال المدارس والاعتماد المتسارع على التعليم عبر الإنترنت؛ وبرزت قطاعات _مثل التكنولوجيا الصحية_ كانت في السابق لا تحظى باهتمام يذكر من قبل المستثمرين.
وشملت قائمة المستثمرين الأكثر نشاطاً على مستوى المملكة العربية السعودية والإقليم كيانات مثل "مسك 500" (Misk 500)، وصندوق المشاريع "500 ستارت أبس" (Startups 500) و"إمباكت46"(Impact 46)، و"صندوق جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية"، و"مجموعة عقال"، و"الشركة السعودية للاستثمار المغامر (الجريء)".
الخاسرون: القطاعات التي شهدت انخفاضاً أو توقفاً في التمويل
على الرغم من الأرقام الواعدة على النطاق الوطني في المملكة العربية السعودية والاهتمام الذي حظيت به في "رؤية 2030"، فقد تأخرت أو توقفت الاستثمارات في قطاعات متعددة، مثل قطاع الحج والعمرة الذي كان الأكثر تأثراً، إلى جانب قطاع السفر والترفيه، ولاسيما الفعاليات الكبرى.
وتراجع التمويل في قطاع تحليل البيانات والمعلومات التجارية، ولم يسجل قطاع الزراعة بحسب التقارير أي صفقات أو عمليات تمويل، تماماً كما كان الحال بالنسبة إلى قطاع التوصيل والنقل.
وكان تأثير الجائحة ثقيلاً أيضاً على شركات أخرى ناشئة من المنطقة، مثل "كريم" (Careem) التي سرحت مئات الموظفين. كما ضربت الأزمة كذلك قطاع الضيافة، والفنادق والخطوط الجوية.
ما الذي تستطيع الشركات المبتكرة القيام به للمضي قدماً؟
يجب على رواد الأعمال إعادة النظر في القطاعات التي تحقق نجاحاً ونمواً وإعادة تقييمها. وبما أن الاتجاهات ترسم ملامح المستقبل، يجب أن يواكب الرواد تغيرات السوق وديناميكيته، وأن يحرصوا على إدخال عامل المرونة على نماذجهم.
كما يجب عليهم الاستعداد بشكل أكبر للفحص النافي للجهالة، والحرص على خفض التكاليف وتحديد الأولويات من حيث الإنفاق. وبما أن صناديق رأس المال المغامر (الجريء) قد لا تكون على استعداد لاعتماد استثمارات جديدة في ظل هذه الظروف، يجب أن يضمن الرواد استمرار أموالهم لفترة أطول.
وفي حين كان التركيز قبل تفشي الجائحة على كفاءة سلاسل الإمداد وعولمتها، تحول المستثمرون والشركات بعدها إلى اختبار متانة سلاسل الإمداد ومرونتها اللتين تأثرتا إلى حد كبير بإغلاق المطارات وشركات الأعمال، وأضحى اليوم توطين سلاسل التوريد أكثر إلحاحاً حتى وإن كانت الكلفة أكبر.
تشمل التدابير المثلى:
- التحلي بمزيد من المرونة والرشاقة.
- بناء علاقات أوثق مع الممولين والموردين.
- تأخير توزيع الأرباح.
- إعادة النظر في مسارات المشاريع وتمويلها وتحديد أولوياتها.
- التركيز على المشاريع الحيوية.
- اعتماد التحول الرقمي للحد من التكاليف وزيادة الكفاءة التشغيلية.
- الاستعانة بمصادر خارجية لأداء المهام غير الأساسية لتقليل التكاليف.
وفي محاولة للتكيف مع الوضع الراهن، طرحت عدة شركات سبلاً لتجاوز التحديات، فأضافت مثلاً سلسلة متاجر "دانوب" (Danube) التسوق عبر الإنترنت عن طريق منصتها الإلكترونية، وتمكنت بذلك من زيادة حصتها في السوق.
لقد اتّضح أن الوجود الرقمي أمر أساسي، مثل الشركات المتخصصة في التجارة الإلكترونية، وخدمات التوصيل، والتكنولوجيا الصحية، والتكنولوجيا المالية. والمنصة الإلكترونية البديلة وسيلة ممتازة للحد من تعطيل الأعمال خلال الأزمات وضمان الاستمرارية تلقائياً في حال الإغلاق. ويسعى المستثمرون لاختبار جودة عمل المنصات الإلكترونية، ومدى توافقها مع المستخدمين، ومدى قدرتها على توفير الخدمة الشاملة، ما يشجع الزبائن على تكرار التجربة، ويسهل تغلغل الإنترنت في المملكة والإقبال العام نحو المنصات الرقمية، ما يعني تحول الشركات نحو الرقمنة لضمان استمرار أعمالها.
ما هي الاتجاهات المتوقّعة؟ وكيف يمكن المضي قدماً؟
سيبقى عدد من التغييرات التي حدثت في أثناء تفشي الجائحة وبعدها قائماً وستتغير مختلف الجوانب الاجتماعية والثقافية والشرائية، مع زيادة الاعتماد على الإنترنت. ويشمل ذلك استبدال رحلات العمل بالاجتماعات عبر منصة "زووم" أو غيرها، وانخفاض إيجارات المكاتب نتيجة لزيادة انتشار ظاهرة العمل عن بُعد، ومن المتوقع أن يواصل القطاع التعليمي الاعتماد على المنصات عبر الإنترنت بسبب إغلاق المدارس. كما سيتحول تسوق السلع غير الأساسية والأساسية نحو المنصات الإلكترونية والتطبيقات.
وفي حين حققت شركات متعددة نمواً خلال الأزمة، من المتوقع أن تزدهر قطاعات أخرى أساسية وتحصل على التمويل بعد الأزمة، مثل قطاع السياحة والسفر.
كما نتوقع أن يستحوذ التدريب والتعليم عبر الإنترنت، إضافة إلى تصميم المحتوى، على حصة ضخمة من السوق عبر مختلف الفئات العمرية والتي لم يتم استهدافها بعد، وبالتالي هناك فرصة لتعزيز المحتوى العربي، في مجالات مثل الموسيقى والكتب المسموعة والمقروءة، مروراً بالمواد التعليمية - وهو مجال رئيسي لا يزال يفتقر إلى منتجات ذات جودة- ومن الأمثلة الناجحة على ذلك تطبيقي "كتاب صوتي" و"أنغامي".
وارتفعت حصة تطبيقات صيانة المنازل في السوق، وفي حين لم يتم حتى الآن الاعتماد على التكنولوجيا المالية بشكل كاف وكبير، نتوقع زيادة النشاط في هذا المجال، مع زيادة الإقراض الجماعي وحلول الإقراض البديلة المتوفرة للشركات الصغيرة والمتوسطة.
أخيراً، يتيح الاتجاه العالمي الحديث المتمثل بمساحة المطبخ المشتركة أو المطابخ السحابية، للمطاعم والطهاة خفض التكاليف، ولا يزال هذا القطاع جديداً ويفتقر إلى المزيد من الاستثمارات، و من المتوقع أن تنمو هذه الفرصة مع سعي الشركات وراء الحد من التكاليف، وزيادة خدمات التوصيل.
ومع ذلك، تدعو الحاجة إلى مواصلة رواد الأعمال الابتكار والنمو للحفاظ على مستويات النجاح نفسها والحفاظ على حصصهم السوقية مع عودة الأسواق للوضع الطبيعي، أو تكيفها مع الوضع الجديد. ويجب عليهم النظر في قابلية التوسع إلى أسواق جديدة، ومواصلة خفض التكاليف، وتوطين سلاسل الإمداد وتحسين عروضهم، في حال رغبوا في الاستمرار.
كيف يمكن أن تسرّع المملكة قطاع ريادة الأعمال؟
سارع صانعو السياسات في المملكة العربية السعودية لاتخاذ عدة إجراءات في وجه التحديات التي فرضتها جائحة كورونا. إذ يجب أن تواصل الرؤية الوطنية التركيز على تنويع الاقتصاد، بعيداً عن الاعتماد على السلع. ومن بين جملة أمور، يجب خلق حوافز للاستفادة من القطاعات الأكثر إنتاجية. ويجب أن تكون الأطر التنظيمية أكثر انسيابية وسهولة لدعم شركات التكنولوجيا للتحول والمساهمة في الاقتصاد. كما يجب الاعتماد على الإنترنت لتأدية جزء كبير من الأنشطة، مثل الدعاوى القضائية، وتوفير المزيد من الخدمات الحكومية عن بُعد.
وتدعو الحاجة إلى برنامج لتطوير المهارات وإعادة تشكيل المهارات على الصعيد الوطني، لمواكبة مستقبل تهيمن عليه التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.
لقد زادت أهمية الحلول اللازمة للتغلب على التحديات الناجمة عن الجائحة، بيد أن الشركات التي ازدهرت خلال الجائحة هي التي غيّرت من استراتيجيتها وسعت إلى تلبية حاجات هذه الظروف من خلال مواصلة الابتكار، وتوطين سلاسل التوريد، وخفض التكاليف، للتمكن من الحفاظ على حصتها السوقية الجديدة. لذلك يحتاج رواد الأعمال والمستثمرون أيضاً إلى تعزيز أنظمتهم التقنية، والتحلي بمرونة أكبر في العمل خلال هذه الأوقات الصعبة.
اقرأ أيضاً: كيف ترتب أولوياتك؟