مع انتشار جائحة "كوفيد -19" على الساحة العالمية، تدهورت مؤشرات الأسهم الرائدة على مستوى العالم، وبلغت خسارتها أكثر من 12% في يوم واحد في بعض الأحيان. وخلال تلك الفترة نفسها بالضبط، نما سهم شركة "نتفليكس" بنسبة 14% تقريباً. وهذا أمر لا يثير الدهشة. فنظراً لأن عمليات الإغلاق العام فرضت على الناس البقاء في منازلهم، لجأ كثير منهم إلى مشاهدة مزيد من مقاطع الفيديو، وهو ما أدى إلى ارتفاع نسب المشاهدة في "نتفليكس"، فماذا عن الأنظمة الضرورية للمهام في الشركات؟
وكيف أصبحت "نتفليكس" المنصة المفضلة لمشاهدة مقاطع الفيديو؟
يُعزى ذلك إلى حد كبير إلى إتقان الشركة تحليلات البيانات وأنظمة التعلم، كما أوضحت في كتابي الأخير (طريقة كلفر).
لقد أسفر التقدم السريع للتقنيات الرقمية عن ظهور نماذج أعمال جديدة. وانطوت النتيجة على اندلاع ثورة في أنظمة الإنتاج دُعيت بالثورة الصناعية الرابعة. وكما هو الحال مع الثورات الصناعية السابقة، يجب على الشركات الناجحة أن تتخلى اليوم عن روتينها المعتاد وأن تبتكر طرقاً جديدة للمنافسة.
ولمساعدة الشركات على اجتياز هذه الثورة الصناعية الجديدة، شرعتُ في مشروع بحثي مدته ثلاث سنوات ضمّ أكثر من 70 دراسة حالة حول العالم. وانطوت النتيجة على تطوير إطار عمل يُدعى "كلفر (CLEVER)"، وهو اختصار للدوافع الاستراتيجية الستة التي تحدد النجاح الاستراتيجي خلال هذه الثورة الصناعية الجديدة. وتشتمل هذه الدوافع الاستراتيجية على الذكاء التعاوني وأنظمة التعلم والتقنيات سريعة النمو وتسهيل القيمة والبطولة الأخلاقية وصناعة القرار سريعة الاستجابة.
كيف تعمل منصة "نتفليكس"؟
إذا كنت من روّاد منصة "نتفليكس"، فمن المحتمل أنك نقرت على الإعلان التشويقي لفيلم ما ثم قررت أن تشاهد فيلماً آخر بدلاً منه، أو أنك بدأت مشاهدة سلسلة ما ولكنك توقفت بعد بضع حلقات، وربما لجأت إلى تسريع بعض اللقطات من حلقة ما أو إعادة مشاهدتها في وقت آخر، وربما شاهدت فيلمك المفضل أكثر من مرة. قد تبدو كل هذه السلوكيات عفوية بالنسبة لك، لكنها تمثّل البيانات الثمينة التي تستخدمها شركة "نتفليكس" لفهم عادات المشاهدة الفريدة التي تتبعها، وهو ما يمكّنها من أن تقدّم تجارب مخصصة بشكل فريد لك ولكل مشترك من المشتركين البالغ عددهم 167 مليون فرد.
في الواقع، ذكرت الشركة في عام 2013 أن الموقع يضم "33 مليون إصدار مختلف من موقع "نتفليكس"، وكانت الشركة تمتلك 33 مليون مشترك آنذاك. أما اليوم، يمتلك موقع "نتفليكس" إصدارات أكثر من عدد مشتركيه، فإذا قمت بتسجيل الدخول إلى الموقع مساء يوم الخميس ستبدو صفحتك الرئيسة مختلفة عن صفحة صباح يوم الجمعة. ووفقاً لبيانات الشركة، كان لدى المشتركين "سلوكيات مشاهدة مختلفة اعتماداً على أيام الأسبوع والأوقات خلال اليوم ونوع الجهاز والموقع في بعض الأحيان". لقد أصبحت منصة "نتفليكس" دقيقة جداً في التنبؤ بما يحبه مشاهدوها لدرجة أن 80% من محتوى البث التدفقي على المنصة مصدره التوصيات الذكية. وتلك هي قوة تحليلات البيانات وأنظمة التعلم.
ما هي أهمية استخدام أنظمة التعلم تحديداً؟
نحن نطلق مصطلح الذكاء الاصطناعي على أي خوارزمية تعالج البيانات وتنفذ إجراءات تلقائية تبدو ذكية. ولا يجب عليك أن تستهين بكلمة "تبدو".
عندما تحسب لنا خوارزمية ما أسرع مسار لقيادة السيارة من النقطة "أ" إلى النقطة "ب" اعتماداً على حركة المرور الآنية، تبدو ذكية جداً وفقاً للمعايير البشرية. إلا أن هذه الخوارزمية نفسها قد تقودنا أحياناً إلى حقل موحل. وهذا قرار غبي وفق المعايير البشرية. ما الذي حدث لذكائها؟
تحدد هذه الخوارزميات ميزات عناصر معينة بشكل مستقل، وتتعرف على الميزات المشتركة بين هذه العناصر. على سبيل المثال، تتعلم خوارزميات التعرف على الصور جمع مختلف الصور التي تشبهك وربطها باسمك. وفي كل مرة تحلل فيها هذه الخوارزميات صورة جديدة تتطور قدراتها. إذن، القضية ليست قضية ذكاء، وإنما قضية تطور مستمر، أي التعلم. لهذا السبب لا أحبذ فكرة أن أطلق عليها مصطلح الذكاء الاصطناعي، وإنما أفضل مصطلح أنظمة التعلم.
لقد أعدّت أنظمة التعلم منصة "نتفليكس" للثورة الصناعية الرابعة وحافظت على ازدهارها خلال الأوقات العصيبة بسبب إدارة الأنظمة الضرورية للمهام. إذاً، كيف يمكنك استخدام أنظمة التعلم لخلق قيمة لمؤسستك؟ يجب عليك البدء بالإجابة عن ثلاثة أسئلة مهمة بهدف تطوير أنظمة التعلم بشكل استراتيجي.
ما هي القيمة التي ستخلقها لك أنظمة التعلّم؟
ابدأ بتوضيح أهدافك. قد تكون أنظمة التعلم فاعلة بشكل خاص في نوعين من الأهداف الاستراتيجية.
1- تقليل تكلفة العمليات الحالية؛ حيث تساعد أنظمة التعلم على تبسيط الإجراءات وتقليل وقت التنفيذ والموارد المستخدمة، وبالتالي تحسين الكفاءة. ونظراً لأن العمليات الحالية لا تتطلّب اتخاذ قرارات جديدة، تكون البيانات الموجودة كافية بالفعل. على سبيل المثال، تعمل العديد من الشركات على تكثيف عمليات تقييم السير الذاتية للمتقدمين للوظائف باستخدام الأدوات الذكية، خاصة أثناء فترة الإغلاق العام.
2- تحسين عمليات صناعة القرار على نطاق واسع، وذلك بدعم من القرارات التي توصي بها أنظمة التعلم. نظراً لحاجة الشركات إلى إعادة تنظيم سلاسل القيمة ونقل خدمات الدعم استجابة لتدابير الإغلاق العام، تختار البعض منها قائمة المرشحين القصيرة بناءً على تحليلات آلية للمقابلات الشخصية التي أُجريت مع المرشحين. على سبيل المثال، ساعدت شركة "هاير فيو" (HireVue) أحد العملاء على إجراء مقابلات مع ما يقرب من 9,000 مرشح في ثلاثة أيام فقط.
كيف ستخلق أنظمة التعلم قيمة؟
حدّد المهمة الصحيحة لتحقيق أهدافك. يمكن لأنظمة التعلم أداء ثلاثة أنواع من المهام بفاعلية:
1- التصنيف
بمعنى تصنيف المدخلات الجديدة ضمن فئات محددة مسبقاً. تساعد هذه التقنية البنوك في تحديد ما إذا كانت عمليات الشراء التي تُجرى باستخدام بطاقات الائتمان تنتمي إلى مجموعة المعاملات المشروعة أو المعاملات الاحتيالية، كما أنها تتيح لأدوات مكافحة رسائل البريد الإلكتروني العشوائية تحديد الرسائل غير المهمة بسرعة. كما تقوم العديد من الشركات أثناء تدابير الإغلاق العام بتيسير مهام مكاتب دعم العملاء من خلال أنظمة التعلم التي تصنّف الطلبات البسيطة وتستجيب لها بشكل آلي، على سبيل المثال، عن طريق إجراء عمليات رد المبالغ المستحقة أو إلغاء الطلبيات، وهو ما يُتيح للموظفين مزيداً من الوقت للاستجابة لحالات الطوارئ وحل المشكلات المعقدة.
2- التنبؤ
وهو ما يعني التنبؤ بالقيم المستقبلية في سلسلة ما. على سبيل المثال، يمكن للمصارف تحديد ما إذا كان التاجر سيتأخر في سداد القرض أم لا، كما يمكن لشركات الطيران والفنادق التنبؤ بعدد الحجوزات وفق مستويات أسعار مختلفة. كما يمكن للشركات أن تتنبأ باحتياجات التوظيف بدقة خلال فترة الإغلاق العام، بمعنى تسريح العدد المناسب من الموظفين أو منحهم إجازات مؤقتة.
3- جيل البيانات
وينطوي على توليد بيانات جديدة. على سبيل المثال، يمكن لخوارزميات توليد النصوص صياغة نصوص كاملة ومتماسكة استناداً إلى الحد الأدنى من المدخلات، ويمكن لخوارزميات تحديد المسار توليد مسارات جديدة لسيارات الأجرة اعتماداً على معلومات حركة المرور في الوقت الآني. ولعل أقوى مثال على ذلك هو أنظمة التعلم التي طوّرتها شركة "آي بي إم" (IBM) والتي ولّدت 3,000 جزيء اصطناعي جديد مع إمكانية استخدام هذه الجزيئات في معالجة عدوى "كوفيد -19".
ما هي البيانات التي قد تستخدمها أنظمة التعلم؟ وما هي الأنظمة الضرورية للمهام تحديداً؟
اجمع البيانات الصحيحة للمهام المختارة. ويمكنك جمع البيانات التي تحتاج إليها بعد تحديد أهدافك النهائية والمهام التي ستعمل عليها. وتنطوي أنواع البيانات الأكثر شيوعاً على:
1- التقارير
وهي البيانات المجمّعة بعد بذل جهود مدروسة، مثل الاستبيانات أو بيانات التعهيد الجماعي.
2- التصاريح
وهي البيانات التي يجري جمعها بعد مشاركة الأشخاص لآرائهم على وسائل التواصل الاجتماعي أو منشورات المنتديات.
3- السلوكيات
وهي البيانات التي يجري جمعها بشكل سلبي أثناء استخدام الأشخاص الخدمات الرقمية، مثل عمليات البحث عبر الإنترنت أو التسوق عبر الإنترنت.
4- البيانات المادية
وهي البيانات المجمّعة من خلال أجهزة الاستشعار، مثل كاميرات مراقبة حركة المرور وصور الأقمار الصناعية.
نظراً لأن البيانات غير الدقيقة تُسفر عن قيامنا بتنفيذ المهام على نحو سيئ، وتجعلنا نفشل في تحقيق الأهداف، تُعتبر جودة البيانات أمراً بالغ الأهمية. وتعتمد أنظمة التعلم على البيانات السابقة لتقديم توصيات للمستقبل. ونظراً لأن أزمة "كوفيد -19" تُسفر عن تأثير غير مسبوق على المؤسسات وتغيّر من سلوكيات الأفراد، لم تعد البيانات السابقة ذات صلة. وسيكون الأمر أشبه بالتنبؤ بمبيعات منتجعات التزلج في شهر أغسطس/ آب استناداً إلى بيانات شهر يناير/ كانون الثاني. في المقابل، قد تُسفر البيانات من الأزمة المالية التي حصلت عام 2008 عن رؤى ثاقبة أفضل من العام الماضي في بعض القطاعات، مثل قطاع البيع بالتجزئة للمنتجات الفاخرة والسياحة.
استخدام أنظمة التعلم هي سبيلك للنجاح
أظهر الإجماع أن عدوى "كوفيد -19" ستسرّع عمليات التحول الرقمي. قد تكون الفوائد على المدى المنظور واضحة وكافية لتحفيزك ومؤسستك على البدء في مشاريع الأنظمة الضرورية للمهام لديكم، لكن يجب عليك أن تتذكر أن هذه الرحلة طويلة، وقد تتعرض للعديد من العوائق. ويتطلب الأمر جهداً كبيراً لتنمية ثقافة مستندة إلى البيانات تتخلل المؤسسة بأكملها وتحثّ على إجراء التغيير المطلوب. والقيام بذلك مفيد على المدى المنظور، وقد يكون شرطاً للنجاح خلال الثورة الصناعية الرابعة.
اقرأ أيضاً: