الاحتراق الوظيفي هو استجابة لضغوط العمل الشديدة؛ أي الأحداث المتكررة التي تُعد جزءاً لا يتجزأ من ممارسات مكان العمل التي لم تُدار بنجاح. وبمرور الوقت، تؤدي هذه الضغوط إلى تدهور طاقة العاملين ومستوى مشاركتهم وثقتهم بأنفسهم إلى أن يشعروا بالإنهاك وخيبة الأمل وعدم الكفاءة ويصابوا “بالاحتراق الوظيفي”. تُبذَل جهود كثيرة بحسن نية لحل مشكلة الاحتراق الوظيفي في عالم العمل، لكنها في كثير من الأحيان تعالج آثار المشكلة وليس مصدرها. الاحتراق الوظيفي هو مشكلة إدارية وتنظيمية، وليست مشكلة في الصحة الجسدية أو العقلية، لذا فإن تعزيز الرعاية الذاتية لن يساعد الموظفين على التعافي في الغالب. تخيل أن الموظفين المصابين بالاحتراق الوظيفي هم طيور كناري في منجم فحم. عندما تفقد طيور الكناري وعيها، ندرك أن البيئة خطرة لأنها أكثر حساسية من البشر للغازات السامة، ولكننا لا نخبرها أنها يجب أن تأخذ عطلة نهاية أسبوع طويلة!

يجب تغيير فكرة علاج الاحتراق الوظيفي برمتها. فإصابة الأفراد بالاحتراق الوظيفي تشير إلى أن هناك مشكلات مُلحة يتعين التصدي لها في صميم أي مؤسسة. الحل الحقيقي هو إعادة تصميم أماكن العمل بحيث لا تتكرر الإصابة بالاحتراق الوظيفي أو لا تكون بدرجة شديدة. بمعنى آخر، كيف يمكن إدارة ضغوط العمل الشديدة بنجاح من مصدرها؟

تكمن الإجابة عن هذا السؤال في تحسين درجة التوافق بين العاملين ومكان العمل. نعم، لا بأس في مساعدة الأفراد على مواجهة الاحتراق الوظيفي، ولكن الأهم من ذلك هو إنشاء وظائف أكثر توافقاً معهم. وستوضح هذه المقالة للقادة والمدراء كيفية البدء.

المصادر المختلفة لحالات عدم التوافق

يمكن أن تنشأ أنواع ضغوط العمل الشديدة التي تسبب الاحتراق الوظيفي (أي الأشياء التي تؤدي إلى الشعور بالإنهاك وخيبة الأمل وعدم الكفاءة) من عدة أنواع من حالات عدم التوافق. ويشير ذلك إلى عدم وجود توافق بين الوظيفة واحتياجات الإنسان الأساسية، مثل الشعور بالكفاءة والانتماء والأمان النفسي. يمكن أن تحدث حالات عدم التوافق هذه في 6 جوانب أساسية تنطبق على جميع الأشخاص، بغض النظر عن وظيفتهم، وهي:

  • حجم العمل
  • الشعور بالسيطرة
  • المكافأة
  • المشاركة الجماعية
  • الإنصاف
  • القيم

في الغالب ينطوي عدم التوافق في حجم العمل على طلبات كثيرة وموارد غير كافية لتلبيتها بنجاح (على سبيل المثال، لا يوجد ما يكفي من الوقت والموظفين والمعلومات والمعدات، وما إلى ذلك). وينطوي عدم التوافق في الشعور بالسيطرة على عدم التمتع بما يكفي من الاستقلالية للقيام بالوظيفة بشكل جيد، بينما يعني عدم التوافق في المكافأة أن العمل الجيد لا يحظى بالتقدير المناسب أو لا تتوفر له الفرص المناسبة. وتكون حالات عدم التوافق المرتبطة بالمشاركة الجماعية أسوأ في أماكن العمل السامة اجتماعياً التي يسودها السلوك الفظ أو التنمر أو المضايقات، بدلاً من الثقة والدعم المتبادلين. وينطوي عدم التوافق المرتبط بالإنصاف على وجود تمييز وممارسات غير منصفة، بينما يعني عدم التوافق في القيم أن ثمة صراعات أخلاقية وقانونية في مكان العمل. في كتابنا، “تحدي الاحتراق الوظيفي” (The Burnout Challenge)، وصفنا هذه الجوانب الستة بمزيد من التفصيل، من حيث حالات التوافق وعدم التوافق على حد سواء، مع تقديم أمثلة على كيفية قيام مؤسسات مختلفة بتحسين التوافق، ما يمكن أن يساعد القراء على تحديد أي من حالات عدم التوافق تُعد سائدة في أماكن عملهم.

يمكن استخدام إطار جوانب عدم التوافق الستة لفهم الطبيعة الحقيقية لضغوط العمل الشديدة على نحو أفضل. على سبيل المثال، عملنا مع الرئيس التنفيذي لمؤسسة تضم 800 موظف، وكان يعتقد أن موظفيه سيعطون تقييمات سلبية فيما يتعلق بحجم العمل (لأن “الجميع يشكون من أن حجم العمل كبير للغاية”) وبالمكافأة (لأن “الجميع يريدون رواتب أعلى”). ومع ذلك، بعد أن أجرينا استطلاع رأي تقييمياً للمؤسسة، صُدم الرئيس التنفيذي عندما رأى أن أشد درجات عدم التوافق كانت في جانب الإنصاف. وتَبين أن من الضغوط المتعلقة بالإنصاف: “جائزة الخدمة المتميزة” التي شعر الموظفون أنها يتم التلاعب فيها لمنحها إلى أشخاص لا يستحقونها. بمجرد أن أصبح واضحاً أن الموظفين مستاؤون من عمليات الترشيح وصناعة القرارات ولا يثقون بها، شرعت الشركة في إعادة تصميم هذه الجائزة وقررت في النهاية استخدام طريقة جديدة للإشادة بالخدمة المتميزة والمكافأة عليها بصورة ملائمة. عندما زرنا المؤسسة بعد عام لإجراء تقييم متابعة من أجل بحثنا، وجدنا أن مسألة الإنصاف لم تعد عائقاً للشركة. يوضح هذا المثال أن تحديد الجانب المحدد الذي يوجد فيه عدم توافق لا يقل أهمية عن تحديد عامل الضغط؛ فإذا حاول الرئيس التنفيذي معالجة مشكلة الاستياء من جائزة الخدمة من خلال النظر إليها على أنها مشكلة تتعلق “بالمكافأة” وبالتالي سيكون الحل هو زيادة قيمة الجائزة النقدية، فربما كان سيؤدي ذلك إلى تفاقم الوضع.

ثمة جانب آخر مهم للانتقال من عدم التوافق إلى التوافق وهو: اكتساب المرونة. يقدم بحث القوات الجوية الأميركية عن قمرة القيادة المثالية للطائرة المقاتلة النفاثة درساً قيّماً. في الخمسينيات من القرن الماضي، تولى مهندسو القوات الجوية مشروعاً ضخماً لقياس الأبعاد الدقيقة لجسم الرجل العادي (كان طيارو القوات الجوية من الرجال فقط في ذلك الحين). لم تكن الحسابات بسيطة، فقد كان يتم قياس طول قصبة الساق والمسافة بين الإبهام المرفوع بالكامل والإصبع الصغير. كان هدفهم هو تصميم مقعد وأدوات ستكون مثالية للشخص العادي. ولكنهم اكتشفوا أنه لا يوجد أشخاص يحققون متوسطات جميع القياسات. فقد صمموا قمرة قيادة نموذجية تماماً ولكنها لا تناسب أي شخص. وما يُحسب لهم هو أنهم بدلاً من الاستسلام، قلبوا المشروع رأساً على عقب، وصمموا قمرات قيادة قابلة للتعديل على صعيد الأبعاد الأساسية. أتاح هذا النهج للأشخاص، بجميع أبعادهم الشخصية المميزة، تعديل ما يحتاجون إليه للتوافق مع بيئة عملهم.

هذا المثال على بناء المرونة إزاء الصفات البدنية يضعنا في الاتجاه الصحيح لاستكشاف كيفية بناء المرونة إزاء الصفات النفسية من أجل خلق توافق أفضل بين العاملين والوظائف. على سبيل المثال، في بحثنا كثيراً ما نصنف اتباع المشرفين للإدارة التفصيلية (الذي يُعد أحد أوجه عدم التوافق فيما يتعلق بالشعور بالسيطرة) على أنه من الضغوط الواقعة على الموظف. إذ يؤدي عدم الشعور بالسيطرة على مواعيد العمل ومكانه وطريقة القيام به إلى تقويض شعور الموظفين بالاستقلالية والكفاءة. ولكن، كما هو الحال مع تصميم الطائرات المقاتلة النفاثة، لا يوجد حل واحد مناسب لجميع الحالات لتحقيق التوافق في جانب الشعور بالسيطرة. لذلك، بدلاً من محاولة إنشاء نظام مثالي واحد يعزز الشعور بالسيطرة، ينبغي للمؤسسات تعزيز الحوار المرن الذي يمكن أن يتكيف مع صفات المشرف والموظفين وطبيعة عملهم.

إعادة تصميم الوظائف لتحسين التوافق

يمكن أن يؤدي تحسين التوافق إلى الحد من إصابة الموظفين بالاحتراق الوظيفي وزيادة ارتباطهم بالعمل، من خلال مساعدتهم على الشعور بالرضا في حياتهم العملية. يجب أن يتقبّل القادة فكرة أن تطوير أماكن عملهم هو عملية إبداعية، وأن حل المشكلات لن ينطوي على تطبيق ممارسة واحدة فقط من أفضل الممارسات. ولا تتمثل مهمة القائد في الوصول إلى الإجابات، بل في إدارة عملية تعاونية مع الموظفين لمعالجة حالات عدم التوافق المستمرة التي يتعرضون لها في العمل. نوصي باتباع 5 خطوات حاسمة:

1. التماس إسهامات الموظفين بشأن حالات عدم التوافق

على الرغم من أن التقييمات غالباً ما تؤكد ما يعتقده القادة، فمن المهم أن يكونوا على استعداد لتعلم شيء جديد. والطريق المباشر لتحديد حالات عدم التوافق هو سؤال الأشخاص (دون الكشف عن هوياتهم) عن تجاربهم واقتراحاتهم حول كيفية إجراء تحسينات. لذلك يساعد إجراء استطلاع رأي على بدء حوار مع الموظفين. وتُعد ردودهم مقترحات يجب على القادة النظر فيها. فما هي ضغوط العمل الشديدة؟ وكيف يمكن تعديلها أو القضاء عليها؟

أحياناً تكون الرسالة مباشرة، مثل “حجم العمل كبير للغاية”، ولكنها في الغالب تكون أكثر تعقيداً. ففي بعض المؤسسات، قد يشكل حجم العمل تحدياً، ولكن قد يكون هناك قلق أكبر بشأن مقدار الاستقلالية التي يتمتع بها الموظفون (عدم التوافق المتعلق بالشعور بالسيطرة). وأشار الموظفون في أماكن أخرى إلى أن بإمكانهم التعامل مع حجم العمل إذا تمكن أعضاء الفريق من العمل معاً بطريقة أكثر احتراماً وتعاوناً (وهو عدم توافق فيما يتعلق بالمشاركة الجماعية).

بعد التماس الإسهامات، من الضروري أن يلخص القادة النتائج وأن يشاركوها علناً. فهذه هي الطريقة الوحيدة لبيان أنهم استمعوا إلى آراء الموظفين وتعلموا منها شيئاً. في مقال سابق في هارفارد بزنس ريفيو، ذكرنا أنه من الضروري أن يقدم القادة ملاحظات للموظفين الذين أخذوا من وقتهم للإجابة عن أسئلة استطلاع الرأي.

2. تحويل التركيز إلى إيجاد حلول لتحقيق توافق إيجابي

الخطوة التالية هي استحداث طرق جديدة للقيام بالأشياء. إن عرض نتائج استطلاعات الرأي، بشكل علني ومتعمق وفي الوقت المناسب، على المؤسسة ككل وعلى كل وحدة أيضاً، يساعد على مواصلة الحوار لأنه يشير إلى إمكانية إجراء تغيير إيجابي. من المهم أن تطلب على الفور أفكاراً حول كيفية القيام بالأشياء بطريقة أفضل. إذ تحث هذه الخطوة على حل المشكلات بطريقة إبداعية لإيجاد حلول عملية لحالات عدم التوافق المستمرة.

على سبيل المثال، انتهى استطلاع رأي أجريناه مؤخراً بدعوة مفتوحة إلى مشاركة فكرتين لتحسين تجربة المشاركين في الاستطلاع في عملهم. ثم اختُتِمت العروض التقديمية لملاحظات المشاركين بشريحة تلخص هذه الردود. يمكن لفِرق العمل الاستفادة من مثل هذه الأفكار لوضع خطط مفصلة للتغيير.

3. البدء بالأهداف القابلة للتحقيق

في كثير من الأحيان عند تصميم توافقات أفضل، من المهم تحقيق مكاسب صغيرة وملموسة بسرعة، بدلاً من الانطلاق في رحلة طويلة نحو تحقيق مكسب كبير. على سبيل المثال، اشتكى مدراء الوحدات في مستشفى كنا قد زرناه من إجراء شاق يتبعونه للموافقة على ساعات العمل الإضافية للممرضين. وعندما تم تبسيط مثل هذه الإجراءات في أعقاب الجائحة، كان لدى مدراء الوحدات المزيد من الوقت لتخصيصه لموظفيهم وإدارة ضغط المرضى. بالإضافة إلى ذلك، فإن منحهم صلاحية إعطاء هذه الموافقات برهن على ثقة كبار المسؤولين بهم واحترامهم لهم، وهي أشياء لم يشعروا بها من قبل. أدى هذا “الإنجاز السهل” إلى تحسين التوافق فيما يتعلق بالشعور بالسيطرة وحجم العمل بأقل قدر من المخاطر أو التكلفة بالنسبة لصاحب العمل. وعلى الرغم من أن نطاق التغيير محدود، فقد أظهر عزم القادة على تحسين ظروف العمل، فضلاً عن إتاحة الفرصة للموظفين لإبداء رأيهم في القرارات التي تؤثر على حياتهم العملية.

4. استخدام مبادئ التصميم

غالباً ما يصف الأشخاص العمليات التي تؤدي إلى وجود حالات عدم توافق بأنها معقدة للغاية، نظراً إلى القواعد واللوائح التي تضيف خطوات غير ضرورية إلى وظائفهم وتُشتت تركيزهم في عملهم. لذلك، عند إعادة تصميم الوظائف، قم بتبسيطها قدر الإمكان. وإذا أُضيفت مهمات جديدة، فيجب حذف مهمات أخرى. يوازن التصميم الجيد أيضاً بين فترات العمل المكثف والفترات الهادئة في العمل. كما أنه يساعد على التناوب بين المشاركة الاجتماعية والعمل العميق للشخص بمفرده، وبين فترات التركيز الشديد وفترات التأمل الصامت.

بالنسبة للوظائف التي يمكن فيها العمل عن بُعد، يمكن أن تؤدي السياسات الصارمة التي تنصُّ على العمل من المكتب فقط والعمل الهجين إلى أنواع عديدة من حالات عدم التوافق. إذ يستاء الموظفون من السياسات غير المرنة التي تصر على أن يأتي الجميع إلى مكان العمل طوال الوقت في حين أنه يمكن القيام ببعض المهمات في المنزل. لذلك فإن وضع عملية “للعمل معاً” بإيقاع عملي متوازن مع “العمل الانفرادي” (الذي قد يكون عن بُعد)، يمكن أن يكون له تأثير إيجابي على صعيد كل من المشاركة الجماعية وحجم العمل والإنصاف والشعور بالسيطرة.

5. تفقُّد التقدم المحرز

أياً كانت الابتكارات التي يتم تطويرها، فإنها بحاجة إلى تقييم وتكييف وتحسين باستمرار. ودائماً ما ينطوي التقدم الحقيقي على الممارسة وتصحيح المسار. يساعد الفحص التنظيمي الذي يقيّم العناصر الأساسية لأوجه التوافق بين الوظائف والعاملين في إبقاء الجهود على المسار الصحيح. ويمكن أن تؤدي المراقبة المستمرة لمكان العمل من خلال عملية تقوم على التغيير والتحسين المستمر إلى تحويل مفهوم “التوافق بين الوظيفة والعامل” من فكرة نظرية إلى بُعد عملي لإدارة مكان العمل.

وجدنا أن المدراء من المستوى الأول غالباً ما يكونون نقطة تحول مهمة في معالجة حالات عدم التوافق، لأنهم في وضع يسمح لهم بالعمل مع موظفيهم وفِرقهم لتحديد جوانب المشكلة وتصميم حلول أفضل لها. وعندما تمنحهم الإدارة العليا الحرية الكافية، سيتمكنون من مساعدة الموظفين على تكييف بيئة عملهم وتخصيصها لخلق أوجه توافق مثمرة.

بدلاً من اكتشاف حل سحري للقضاء على الاحتراق الوظيفي، يحتاج المسؤولون التنفيذيون إلى طريقة جديدة للتفكير في القيادة في العمل. تتطلب الإدارة في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين قدرة أكبر على الاستجابة لحالات عدم التوافق التي يتعرض لها الموظفون في العمل، واهتماماً أكبر بدوافعهم النفسية، ومرونة أكبر في تصميم الوظائف وظروف العمل. ويجب أن يوسعوا نطاق قدراتهم لقيادة عملية حل المشكلات بالتعاون مع الموظفين والمدراء. تشير إصابة الموظفين بالاحتراق الوظيفي إلى أن ثمة حاجة إلى إصلاح حالات عدم التوافق في المؤسسة بأسرها، ما سيكون له آثار إيجابية على جميع الموظفين، وليس على القليل منهم فقط. وقد أظهر استطلاع رأي أجرته مؤسسة غالوب مؤخراً أن 80% من العاملين في جميع أنحاء العالم “ليسوا مندمجين” في عملهم. وعلى الرغم من أن هؤلاء الـ 80% لم يصابوا جميعاً بالاحتراق الوظيفي بالتأكيد، فهم على الأرجح يشعرون بقدر من الإنهاك أو خيبة الأمل أو عدم الكفاءة في العمل. لذلك فإن تحسين التوافق بين الوظائف والعاملين لا يساعد على تجنب أسوأ النتائج فحسب، إنما يزيد من احتمالات أن يُخرج مكان العمل أفضل ما في العاملين في المستقبل.