نهج أفضل لتفادي سوء السلوك

11 دقيقة
سوء السلوك
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

على الرغم من التعديل التنظيمي الهائل الذي حدث في أعقاب الأزمة المالية في عام 2008، لا تزال المؤسسات المالية تعاني حوادث الاحتيال وأنواع سوء السلوك الأخلاقي الأخرى. نتيجة لذلك وبحلول عام 2020 كانت هذه الشركات قد دفعت مجتمعة غرامات مالية تزيد على 400 مليار دولار. في إحدى الدراسات التي أجرتها كلية هارفارد للأعمال في عام 2019 على عينة من شركات قائمة “فورتشن 500″، توصل الباحثون إلى أن هذه الشركات تشهد أكثر من حادثتي سوء سلوك مثبتتين كل أسبوع.

ويرى كثير من خبراء إدارة المخاطر بوضوح متزايد أن النهج التقليدي المتبع لمنع المخالفات في الشركات، المتمثل في فرض قوانين رسمية والاستثمار في قسم الامتثال القوي لضمان التزام المؤسسات والمدراء والموظفين بالقوانين، غير قادر على حماية الشركات بمفرده. ولهذا السبب عملت الجهات التنظيمية ومنها البنك الاحتياطي الفيدرالي في مدينة نيويورك على حث المؤسسات المالية في الأعوام الأخيرة على تبني نهج تكميلي يتعامل مع البعد السلوكي؛ يسمى هذا النهج في بعض الأحيان “إدارة المخاطر السلوكية”، وهو يقرّ بأن السلوك في مكان العمل يتأثر بالسياق المهني الذي يعمل الموظفون ضمنه ويؤثر فيه، مثل الفرق التي ينتمي الموظفون إليها والأهداف التي يتعين عليهم تحقيقها والقيادة المباشرة التي يخضعون لها والإجراءات التي يتبعونها في عملهم.

وكما سنبين في هذا المقال، فإن إدارة المخاطر السلوكية تنطوي على تحديد المحفزات السلوكية ومعالجتها بإحداث تغييرات في إجراءات العمل أو السياق المؤسسي، يمكن أن تأخذ هذه التغييرات شكل “منبهات تحفيزية” (nudges) (مصطلح ابتكره الخبيران الاقتصاديان ريتشارد ثالر وكاس سنستين)، وعلى الرغم من أنها قد تبدو صغيرة أو بسيطة فهي قادرة على إيقاع آثار عميقة على السلوك.

فكرة المقالة باختصار

المشكلة

على الرغم من التعديلات على القوانين عقب أزمة عام 2008، تعاني الشركات المالية حوادث سوء السلوك باستمرار، وبلغ مجموع ما دفعته قرابة 400 مليار دولار من الغرامات المالية منذئذ.

سبب حدوثها

إن النهج التقليدي لمنع السلوك المسيء، أي القوانين الرسمية وقسم الامتثال القوي للقوانين، قائم على افتراض أن الموظفين وكلاء عقلانيين، ولكن السلوك في العمل تحفزه التحيزات الشخصية والسياقات المهنية.

الحل

تزداد المؤسسات المالية التي تقرّ بمحفزات سلوك الموظفين وتعمل على إدارتهم بالتغييرات أو “المنبهات التحفيزية” ضمن العمليات أو السياق المؤسسي. قد تبدو التغييرات صغيرة ولكنها قادرة على إيقاع آثار عميقة على السلوك.

ما الجديد في إدارة المخاطر السلوكية؟

تفترض المناهج المعيارية المتبعة في إدارة المخاطر، مثل إدارة مخاطر الشركة، أن الأشخاص الفاعلين عقلانيين في سلوكهم، وهذا الافتراض قابل للمناقشة بالتأكيد إذ أثبتت أعداد كبيرة من أبحاث العلوم السلوكية أن الحكم الإنساني يتأثر بالتحيزات بدرجة كبيرة؛ فالإنسان عادة يولي أهمية أكبر من اللازم للبيانات الحديثة أو التي تؤكد قناعاته السابقة مثلاً.

العيب الآخر والذي قد يكون مقلقاً أكثر هو أن المناهج التقليدية تخلق مخاطرها الخاصة؛ إذا شعر الموظف أن أخطاءه ستقابَل باللوم والعقاب حتى وإن ارتكبها بنية حسنة فسيميل لإخفائها، وسيزداد هذا السلوك سوءاً إذا شعر أنه خاضع للمراقبة. يرى الموظفون السياسات التأديبية علامة على أنهم غير موثوقين، وبينت الأبحاث أن مناخ انعدام الثقة يزيد حالات مخالفة القوانين.

في النهج القائم على علم السلوك في إدارة المخاطر، يحلل المدراء العمليات والبنى التنظيمية المؤسسية لتحديد العناصر التي تحفز السلوكيات الخطرة. خذ مثلاً فريقاً لتداول الأوراق المالية، لنفترض أن أغلب أفراده مهنيون يتمتعون بثقة مفرطة بأنفسهم (وهم رجال عادة إذ تزداد احتمالات أن يحملوا معتقدات غير واقعية حول الأداء المالي المستقبلي)، إذا كان الفريق يعمل تحت إدارة مدير يحمل معايير أخلاقية متدنية فستزداد احتمالات أن ينحرف الأفراد أخلاقياً، وإذا كان نظام التعويضات يكافئ الموظف على تحقيق أهدافه الفردية فعلى الأرجح أن يشعر بقية أفراد الفريق بالحسد الذي سيزيد احتمالات تسويغ السلوك غير الأخلاقي، ومن الممكن أن يملك هذا النوع من الفرق أيضاً هوية جماعية قوية تساهم بدرجة أكبر في خلق مناخ من التراخي الأخلاقي.

وتتمثل الطريقة التقليدية لإدارة سلوك هذا الفريق في فرض مجموعة من القوانين وإلزام أفراده ببرامج التدريب الدورية ثم الاعتماد على المراقبة (مثل تسجيل المكالمات الهاتفية) وغيرها من الآليات (مثل الخطوط الساخنة للإبلاغ عن المخالفات من دون الكشف عن هوية المبلغ) من أجل ضمان امتثال الموظفين للقوانين. تتمثل المشكلة في أن هذه الإجراءات لا تجدي نفعاً في معالجة السلوك العام لأفراد الفريق أو ما يحفزهم لاتباع سلوكيات خطرة، وسيخبرك أي عالم في السلوكيات أن أي فريق له نفس خصائص فريق تداول الأوراق المالية الذي وصفناه للتو تزداد احتمالات اتباعه سلوكيات خطرة بغض النظر عن القوانين المفروضة، وأن المراقبة ستزيد الأمور سوءاً. ومن الممكن أن يبدي الموظفون أصحاب النوايا الحسنة أيضاً سلوكيات غير مرغوبة أو خطرة إن كانت إجراءات العمل تشجع هذه السلوكيات أو إن عملوا في مجالات تتسم ببيئة أو ظروف تحفز السلوك السلبي.

قامت عدة مؤسسات مالية كبرى في أوروبا، مثل نات ويست غروب (NatWest Group) [آر بي إس (RBS) سابقاً] وآي إن جي غروب (ING Group) ومصرف أيه بي إن أمرو (ABN AMRO)، بتطبيق أساليب علم السلوك في إدارة المخاطر اعتماداً بصورة أساسية على إنشاء الفرق التي تحلل الأسباب الأساسية للسلوك الخطر، وحذت حذوها مؤسسات غير أوروبية في الأعوام الأخيرة، مثل آتش إس بي سي (HSBC) وستاندرد تشارترد (Standard Chartered) وبنك رويال الكندي (Royal Bank of Canada). من خلال عملنا بتقديم الاستشارات لهذه المؤسسات وغيرها لاحظنا أن معظم شركات الخدمات المالية تتبع نهجاً من خطوتين لإدارة المخاطر السلوكية.

تحديد المواضع التي تكثر فيها السلوكيات السلبية وفهمها

تتمثل الخطوة الأولى في تحديد العمليات والوحدات التي تزداد فيها احتمالات ظهور نتائج سلبية لسلوكيات الموظفين. يمكن أن تبدأ الشركات باستكشاف البيانات المتاحة، مثل نتائج استبيانات اندماج الموظفين وسجلات رضا العملاء وعدد انتهاكات السياسة المسجلة، ثم يمكنها دعم هذه المعلومات بتوليد بيانات جديدة قابلة للمقارنة حول ثقافات الفرق مثلاً من أجل صقل بحثها بدرجة أكبر.

العمليات: فحص الرؤى السلوكية. تساعد عمليات الفحص هذه المدراء في تحديد ما يعيق عملية صنع القرارات الجيدة، وهي تتضمن مقابلات شخصية متعمقة مع أهم المشاركين في جميع مراحل عملية معينة إلى جانب الملاحظات المتعلقة بمواقف العمل. فلنناقش الآن نجاح إحدى هذه العمليات في مؤسسة مصرفية أوروبية كانت تتعامل معنا.

عملت المؤسسة على تصميم وتنفيذ عملية تتيح لمدراء المخاطر التجارية الذين يعملون في خطوط الدفاع الأولى تقييم مدى نضج إدارة المخاطر غير المالية ضمن وحداتهم في مجالات مثل الأمن السيبراني والمناخ والعمليات وغسيل الأموال. طُلب من المدراء وضع درجة لمستوى نضج وحداتهم، ثم قام زملاؤهم من قسم المخاطر الذي يعدّ خط الدفاع الثاني في المصرف بتقييم عمل مدراء المخاطر التجارية والموافقة أو عدم الموافقة على الدرجات التي وضعوها لنضج وحداتهم، وفي حال عدم الموافقة يتعين على مدير المخاطر التجارية إعادة النظر في التحليل. كان المصرف يرغب في معرفة دور تصميم العملية، ومستويي وضع الدرجات على وجه التحديد، في دقة التقييمات التي يقدمها مدراء المخاطر التجارية، ولذا طُلب من شركتنا التدخل من أجل الإجابة عن هذا السؤال.

أجرينا على مدى 8 أسابيع 16 مقابلة شخصية شبه منظمة مع مدراء المخاطر التجارية ومراجعي الخط الثاني والإدارة، وطرحنا فيها أسئلة مثل “من يبادر في حمل المسؤولية عن هذه العملية فعلياً؟” و”متى كانت آخر مرة واجهت صعوبة في العمل بالتوافق مع العملية؟ لماذا؟ وما الذي حدث؟” استكملنا المعلومات التي جمعناها في هذه المقابلات بمراجعة الوثائق المتعلقة بعملية التقييم وإجراء بحث حول مصداقية التقييمات الذاتية، كما عقدنا جلستي ملازمة وظيفية (shadowing) حيث وضح مدراء المخاطر التجارية تفاصيل خطوات عملية التقييم عبر مشاركة الشاشة، وراقبنا اجتماعين للإدارة تمت فيهما مناقشة نتائج عمليات التقييم.

كشفت عملية الفحص عن عاملين قد يكونا سبباً في تحيز تقييمات المدراء لجودة إدارة المخاطر غير المالية. أولاً، أدت المطالبة بوضع درجة في نهاية العملية إلى نشوء هدف ضمني يتمثل في تحقيق أعلى الدرجات الممكنة، وبالنتيجة يمتنع المدراء عن التصريح بالأدلة السلبية المهمة أو يعمدون إلى تقديمها بطريقة تدفع المراقبين في قسم المخاطر لإهمالها. في عدد كبير من الأبحاث السلوكية تبين أن رغبة الموظفين في تحقيق أهداف كمية تؤدي إلى تجاهلهم لمعايير الامتثال أو النزاهة التي تتمثل في الأهداف النوعية.

ثانياً، لأن المراقبين في قسم المخاطر كانوا قلقين (وفي بعض الأحيان يعيدون تقييم عملهم نفسه)، أصبح المدراء التجاريون منفصلين عن العملية، وتفاقم هذا الأثر على الأرجح لأنهم يعتبرون أن العملية “مفروضة عليهم” إلى جانب ظهور “التحيز للمجموعة” المعروف بقدرته على تحفيز السلوكيات غير التعاونية. قال أحد مدراء المخاطر التجارية: “لم يقدّر مدراء الخط الثاني قطّ طريقة عملنا، وهم لا يعرفون شيئاً عما يجب التركيز عليه، ولذلك فالعملية ليست سوى هدر لوقتنا الثمين”.

عندما قدمنا تقريرنا إلى الرئيس التنفيذي للمخاطر أشار إلى أنه لم يدرك أن تصميم العملية ولّد هذه السلوكيات والتصورات غير المرغوبة وغير المقصودة.

الوحدات: مراجعات المخاطر السلوكية. تولد هذه المراجعات رؤى مفصلة عن الأنماط السلوكية والمحفزات التي قد تؤدي إلى مشكلات مستقبلية في الفرق أو وحدات العمل عالية الخطورة. خذ مثلاً إحدى الشركات العالمية للخدمات المالية التي قدمنا لها الاستشارات، إذ خضعت لرقابة تنظيمية صارمة نتيجة لتكرر سلوكيات لا أخلاقية ولا قانونية في وحدة العمل المختصة في أسواق رأس المال. ثبت أن أساليب توضيح القوانين وبيئة الرقابة القوية والمعايير التأديبية الصارمة عديمة الفعالية في الحدّ من حوادث سوء السلوك.

أجرينا على مدى 3 أسابيع 50 جلسة محادثة خاصة استمرت كل منها ساعة من الزمن مع موظفين من الفرق المختلفة في وحدة العمل (عينة عشوائية ضمت 20% من إجمالي موظفي الوحدة) ومع موظفين تعاملوا مع الفرق في المجال أو دعموها وقدموا لنا وجهات نظر خارجية. لم يتمثل هدفنا من هذه المحادثات في فهم تقييم الموظفين لسياقهم المهني وإنما في سماع وصفهم لطريقة تفاعلهم مع هذا السياق. مثلاً، طلبنا من خبراء التداول أن يصفوا لنا بالتفصيل طريقة استجابة مدراء مكاتب التداول للأخطاء المرتكبة في مواقف واقعية، لكن ليس بهدف تقييم فعالية مدير المكتب في الإدارة.

وإلى جانب هذه المحادثات الثنائية طلبنا من جميع موظفي الوحدة إكمال استبيان قصير عبر الإنترنت يتألف من 20 جملة، وراقبنا فريقين في العمل على مدى 3 ساعات، وراجعنا البيانات الإدارية (مثل بيانات الأداء والمخاطر ومعلومات الموارد البشرية) ووثائق السياسات (المتعلقة بالاستراتيجية والحوكمة وإدارة الأداء وإدارة العواقب ومدونات السلوك)، ثم أجرينا مقارنة بين البيانات النوعية والكمية وبينهما وبين نتائج البحث.

كشفت المراجعة عدداً من العوامل التي كانت تسبب اتباع الموظفين سلوكيات غير أخلاقية أو غير قانونية. في البداية لاحظنا أن المدراء المباشرين استجابوا للمواقف التي سارت الأمور فيها بشكل سيئ على نحو غير مقصود بتوجيه لوم عنيف للأفراد من دون أخذ السياق والدوافع في الحسبان بدرجة كافية. مثلاً، عندما ألغى أحد العملاء صفقة لأنه عانى مشكلات مالية غير متوقعة، وجه المدير انتقاداً للموظف الذي فاوض على الصفقة و”أخزاه” في اجتماع الفريق من دون ذكر الظروف ذات الصلة. هذا النوع من الاستجابة يحفز المخاطر السلوكية؛ عندما يتم تحميل الموظفين الأفراد مسؤولية الأخطاء يتولد لديهم شعور بالقلق يقلص رغبتهم بالامتثال للقوانين المؤسسية.

ثانياً، اعتبر الموظفون القرارات والإجراءات الخاصة بالترقيات غير قابلة للتوقع وغير متسقة، وقالوا إنهم شعروا أنهم لا يستطيعون التأثير في النتيجة: “أرى أن من يحصلون على الترقية ليسوا هم أصحاب الأداء الجيد، وأشعر أن عملية منح الترقيات عشوائية تماماً”. بالتأكيد كانت هذه العشوائية تعني تناقص احتمالات مخالفة الموظفين للقوانين بهدف تعزيز أرقام أدائهم، ولكن شعورهم بالإجحاف بحد ذاته يشكل دافعاً لسوء السلوك؛ إذ أثبت البحث قدرة هذا الشعور على تحفيز عدد من السلوكيات المختلة في مكان العمل مثل الانتقام وعدم الامتثال للمبادئ التوجيهية.

سمحت دقة هذه المعلومات للشركة العميلة بتبني استراتيجية موجهة لتخفيف المخاطر تعمل على المعالجة المباشرة لمحفزات محددة تحتاج إلى التحسين بدلاً من السعي لتحسين ثقافة وحدة العمل بصورة أشمل، وحددت فئات معينة من السلوكيات غير المرغوبة ووضعتها ضمن سياقها وحددت العقوبة الملائمة لكل منها؛ فالموظف الذي لم يتمكن من حضور جلسة تدريب عبر الإنترنت سيتلقى أولاً تنبيهاً بدلاً من العقوبة (كما كان يحصل من قبل). ساعد هذا النوع من التغييرات الصغيرة في طمأنة الموظفين أن مدراءهم سيتعاملون معهم بإنصاف، وفي هذه الأثناء خضع المدراء لبرنامج تدريب بهدف زيادة قدرتهم على التعامل مع الإجحاف المحسوس والاستجابة للنتائج السلبية.

التوصل إلى الحلول

ساعدنا الشركات في معالجة المشكلات التي كشفناها عن طريق عمليات فحص الرؤى السلوكية أو مراجعات المخاطر بطريقتين. الأولى هي ورشة عمل قدنا فيها موظفين يعملون في مجالات أو عمليات معينة لتحديد منبهات تحفيزية بسيطة قادرة على تغيير طريقتهم في التعامل مع سلوكيات معينة، أسمينا ورشة العمل هذه “مختبر المنبهات التحفيزية” وكانت غالباً بمثابة دعامة للأبحاث والاستشارات السلوكية وتضمنت عدة تمارين وألعاب معيارية لتوليد الأفكار. [لمزيد من التفاصيل عن مختبرات المنبهات التحفيزية يمكنك الاطلاع على مقال “دروس من الخطوط الأولى في استخدام المنبهات التحفيزية في المؤسسات” (Lessons from the Front Line of Corporate Nudging) تأليف آنا غونتنر وكونستانتين لاكس وجوليا سبيرلنغ ماغرو على موقع مجلة ماكنزي كوارترلي (McKinsey Quarterly)].

يمكننا توضيح هذا النهج بمثال من مؤسسة آي إن جي غروب (ING Group) حيث كشفت عملية فحص الرؤى السلوكية عن الافتقار إلى الأهداف المشتركة والهوية الجماعية في الفرق التي تعمل على تخفيف مخاطر الجرائم المالية. في أثناء إحدى جلسات “مختبر المنبهات التحفيزية” التي أجريناها لاحقاً، تعاون كل من الموظفين وعلماء السلوك وخبراء الألعاب في تطوير منبهات تحفيزية تساعد على تحفيز السلوكيات المرغوبة، اعتمد التصميم الذي وضعوه على مبادئ الألعاب الأساسية مثل مبدأ التبادلية والأهداف المشتركة التي تشجع اللاعبين على “مواصلة اللعب” والتعاون بصورة طوعية تماماً، وفي هذه الحالة تتمثل اللعبة في عملية تخفيف مخاطر الجرائم المالية.

مثلاً، قام فريق مؤسسة آي إن جي بتطوير شريط تفاعلي لتوقيع الرسائل الإلكترونية يهدف لتوليد إحساس بالهوية المشتركة بين الموظفين المشاركين في العملية، جمع الشريط أسماء الموظفين المشاركين في ملف أحد الزبائن وصورهم الشخصية وألقابهم الوظيفية. ثم اختبرت الشركة هذا التدخل في برنامج تجريبي استمر عدة أسابيع، وكانت النتائج واعدة؛ أدى استخدام توقيع البريد الإلكتروني إلى تحسين مستوى الثقة بين الموظفين المشاركين وفقاً لما تبين من استقصاء قصير، كما أنه خفض عدد الرسائل الإلكترونية غير الضرورية. يتم توسيع المنبه التحفيزي الذي تم تطويره في هذا المثال ليطبق على جميع مستويات الشركة.

يتمثل التدخل الفعال الآخر فيما نسميه “جلسات النظام في الغرفة”، وهي ورش عمل تفاعلية مصممة لكبار القادة بهدف التوصل إلى فهم مشترك وكامل للتحديات التي تنطوي عليها إدارة المخاطر السلوكية المحددة من منظور جميع المعنيين، ومع هذا الفهم يمكن للفريق تصميم الحلول الفعالة الملائمة. نقوم عادة بعقد جلستين أو 3 جلسات تستمر يوماً كاملاً تجمع جميع المشاركين في عملية تحتاج إلى التحسين، وعادة نجمع عدداً من الموظفين يصل إلى 25 موظفاً تتنوع أدوارهم، بين مسؤولين تنفيذيين ومدراء إقليميين ومسؤولين عن العمليات العالمية وخبراء التكنولوجيا وموظفين في الخطوط الأمامية. يؤدي جمع كل هؤلاء في غرفة واحدة إلى صعوبة توجيه أصابع الاتهام ويجبر كلاً منهم على الإقرار بأثر أفعاله على الفرق الأخرى.

خذ مثلاً حالة إحدى الشركات التي نتعامل معها، وهي مؤسسة عالمية أخرى للخدمات المالية؛ أجرت مراجعة للمخاطر السلوكية واكتشفت من خلالها أن افتقار وحدات العمل إلى إمكانية السيطرة على المشاريع وعدم كفاية العمل التعاوني بين الوحدات والأقسام كانا عاملين أساسيين محفزين للجرائم المالية. عملنا على قيادة خطوات عملية توليد الأفكار في الشركة وانتقلنا بواسطتها من تحديد المشكلات إلى تحديد الحلول عن طريق سلسلة من أسئلة “ماذا لو؟” هذا النهج المستوحى من التفكير التصميمي فعال للغاية في كثير من إجراءات العمل بدءاً من تصميم المنتج وصولاً إلى وضع الاستراتيجية. [لمزيد من التوضيح يمكنك الاطلاع على مقال “إدخال العلم إلى فن الاستراتيجية” (Bringing Science to the Art of Strategy) تأليف أيه جي لافلي وروجر مارتن وجان ريفكين ونيكولاي سيغيلكو المنشور في عدد شهر سبتمبر/أيلول 2012 من مجلة هارفارد بزنس ريفيو].

تمثل أحد الحلول التي توصلنا إليها في إعداد جلسات أسبوعية تستمر لمدة 10 دقائق لتحديث النظام يجتمع فيها فريق إدارة المخاطر مع كبار القادة، على غرار حلقات إدارة الجودة الكلية، وتم ربط تحديثات النظام هذه بالاجتماعات الدورية وبالتالي لم تعطل جدول عمل أي شخص، وثبت أن هذه الجلسات تعدّ منبراً مفيداً للإبلاغ عن المشكلات السلوكية في مرحلة مبكرة من عملية إدارة المخاطر.

عندما يتم تحميل الموظفين الأفراد مسؤولية الأخطاء يتولد لديهم شعور بالقلق يقلص رغبتهم بالامتثال للقوانين المؤسسية.

كانت الجلسات بحدّ ذاتها جزءاً من الحل؛ فقد أدت إلى شعور متزايد ودائم لدى الموظفين بالترابط المتبادل بينهم والانتماء إلى الفريق ساهم في خلق إحساس بالسيطرة وعمل تعاوني فعال في العملية المعنية. قال أحد كبار المدراء: “هذه الجلسة هي طريقة ممتازة ليعرف كل منا الآخر بدرجة أفضل ووصل وجهات النظر المختلفة. وهذا يزيد رغبتنا بالعمل معاً على نحو بنّاء والتوصل إلى حلول رائعة قابلة للتنفيذ ولا تحتاج إلى جهد كبير ولكن أثرها المتوقع كبير”.

إن النهج الاستشرافي للتعامل مع المخاطر الذي يُبنى عليه الحوار بين المؤسسات المالية والجهات التنظيمية مرغوب بشدة. لكن القيادة الشجاعة ضرورية لنجاح إدارة المخاطر السلوكية، ويتمثل جزء من السبب في أن هذا النهج يتعاكس مع اتجاه القطاع المالي القائم على الأرقام؛ ففي هذا القطاع تتبنى الجهات التنظيمية عقلية “قدمّ لي الدليل” التي تشجع المؤسسات على تقديم أدلة تثبت أنها تسيطر على المخاطر.

في المقابل، فإن إدارة المخاطر السلوكية لها طبيعة وقائية تكشف الحقائق الصعبة ووقائع أرض العمل باستخدام البيانات النوعية والكمية على حد سواء، ولأنها تعتمد نهجاً قائماً على الأسباب الرئيسة يعالج السلوكيات عالية المخاطر قبل ظهور المشكلات فمن الصعب تقديم أدلة قاطعة على فعاليتها. ولكن المبادرة ذات الهيكلية المدروسة لإدارة المخاطر السلوكية ستولّد بالتأكيد تحسينات في سلوكيات الموظفين تؤدي إلى تخفيض احتمالات وقوع المؤسسة في مآزق أو تعرضها للعقوبات الحكومية بدرجة كبيرة. يجب أن تكون إجراءات التحسين البسيطة هذه بديهية بالنسبة للمؤسسات التي تعيش على المفاضلة بين المخاطر والربح.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .