تنفق المؤسسات العالمية أكثر من 60 مليار دولار سنوياً على برامج تطوير القدرات القيادية؛ لكن العوائد التي تحققها هذه الاستثمارات لكلٍّ من القادة وفرقهم تفتقر إلى الوضوح في معظم الأحيان. ما الذي تحققه برامج تطوير القدرات القيادية على أرض الواقع؟ هل تسهم في تغيير القادة بشكل ملموس؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكم من الوقت تستمر هذه التغييرات؟

بصفتنا محاضرين أفنوا سنوات من عمرهم في إنشاء تجارب تطوير القدرات القيادية، فقد لاحظنا مبدئياً أن مقيمي البرامج يتسرّعون في أغلب الأحيان ويقدّمون تقارير تتصف بالطابع الحماسي عن الفوائد التعليمية والتنموية التي عادت على المشاركين في هذه البرامج، كما لاحظنا أيضاً أن أصحاب العمل يكتفون بهذه التقييمات ليعلنوا نجاح برامجهم التطويرية. لكن أبحاثنا المتواصلة والمنشورة أثبتت أن مثل هذه الآراء المتفائلة لا ترصد دائماً الحقيقة الكاملة، ولا تُلمُّ بالموضوع من جوانبه كلها.

ومن خلال سلسلة من التجارب والاستقصاءات الطولية وتحليل البيانات الكمية والنوعية لأكثر من 1,000 مشارك في 6 برامج مختلفة لتطوير القدرات القيادية في عدد من الشركات والمدارس حول العالم، توصلنا إلى نتيجة مفادها أن مبادرات تطوير القدرات القيادية قادرة على إحداث أثر إيجابي على كلٍّ من الموظفين وأصحاب العمل، شريطة أن تتوافر الظروف المناسبة لتنفيذها. وبمقدور هذه المبادرات زيادة فرص النمو الشخصي والإحساس بالذات بشكل أوضح والشعور بوجود هدف وغاية أكبر في الحياة العملية والشخصية، إلى جانب الشعور بمزيد من السعادة وتقليل الإحساس بالتوتر، ما يتيح في النهاية إمكانية إحداث تحوّل حقيقي وتعزيز الصحة العقلية والرفاهة للمشاركين. وقد يؤدي هذا بدوره إلى تعزيز فرص الاندماج والفاعلية، إلى جانب تمكين القادة من دعم فرقهم ومؤسساتهم بشكل أفضل.

ولكن المؤسسات تفشل في كثير من الأحيان في الاستفادة من الإمكانات الحقيقية لبرامج تطوير القدرات القيادية. وقد وجد أحد التقديرات في واقع الأمر أن الشركات لا تحقق نتائج ملموسة من الإنفاق على البرامج التدريبية لتطوير القدرات القيادية لمسؤوليها إلا بنسبة لا تتجاوز 10%. ولمعالجة هذه الفجوة، حددنا 7 استراتيجيات مدعومة بالأبحاث لمساعدة القائمين على تصميم هذه البرامج على معالجة المزالق الشائعة واكتساب الخبرات التي تؤدي فعلياً إلى إحداث تغيير إيجابي.

1. التركيز على النمو الكُلي للفرد

لا يُعنى تطوير القدرات القيادية بتعلم مهارات أسلوبية محدَّدة بقدر ما يُعنى بتنمية القدرات الكلية، مثل الوعي الذاتي أو القدرة على التحمل، الضرورية للتكيُّف مع التحديات المتغيرة والمستحدثة. وتتصف هذه الأفكار والسلوكيات بطبيعتها بقابليتها للتطبيق على نطاق واسع، وبالتالي يجب ألا تكتفي برامج تطوير القدرات القيادية الفعَّالة بالعمل على تغيير أسلوب القادة في أداء مهمات العمل الملموسة فحسب، بل يجب أن تمتد لتشمل تغيير حياتهم بالكامل.

وكما أوضح أحد المسؤولين التنفيذيين في دراساتنا، فإن “هذا البرنامج لا يغير فقط أسلوبي في قيادة مرؤوسيّ، بل وطريقتي في عيش الحياة بوجه عام”. وقال مسؤول تنفيذي آخر: “لم يؤدِّ هذا البرنامج إلى تعزيز قدرتي على تطوير مسيرتي المهنية فحسب، بل أدى أيضاً إلى تعزيز قدرتي على تطوير نفسي داخلياً”. ووصف آخر كيف ساعده برنامج تطوير القدرات القيادية في جوانب حياته كلها: “لقد جعلني أحدّد الفرص المتاحة لتحسين الطريقة التي أتفاعل بها مع الآخرين في الفرق التي تعمل تحت إشرافي، كما جعلني أيضاً أدرك فرص الاندماج مع أطفالي المراهقين بشكل أكثر فاعلية”. ويعمل النهج القائم على النمو الكُلي للفرد على تحسين النتائج المؤسسية وتحقيق قيمة مضافة للقائد، على المستويين الشخصي والمهني.

2. توفير فرص للتأمل الذاتي وصُنع المعنى

تتمثل إحدى الطرق الرئيسية لإسهام برامج تطوير القدرات القيادية في تحقيق قيمة مضافة للموظفين في منحهم الفرصة للتوقف مؤقتاً عن زخم الأعمال اليومية وتغيير وجهتهم في العمل وحياتهم الشخصية. وقد يؤدي هذا بدوره إلى شعور متجدد بالغاية في العمل وخارجه. وكما قال أحد المشاركين: “لقد ساعدني البرنامج على التريث والتفكير المتأني في غايتي المرجوة في الحياة. كانت هذه هي المرة الأولى منذ سنوات التي أسمح فيها لنفسي بالتفكير في سبب وجودي هنا، ولماذا أفعل ما أفعله، وما هو هدفي، وكيف أبدو في هذا العالم، وكيف أريد أن أبدو من الآن فصاعداً”. أدى هذا أيضاً إلى تعزيز فاعليتهم في العمل، وهو ما اتضح من خلال هذا المشارك نفسه الذي استطرد قائلاً: “صرتُ الآن أكثر وضوحاً وأكثر تركيزاً على ما أريد تحقيقه في العمل، وأستمتع بعملي الآن أكثر من ذي قبل”.

ولتحقيق أقصى استفادة ممكنة من هذه الفرصة النادرة، من المهم أن نمنح الموظفين متسعاً من الوقت والمساحة الكافية لممارسة التأمل الذاتي المنظَّم، وتشجيعهم صراحة على التفكير في غاياتهم المرجوة. وكان رائد الأعمال والمؤسس لمعهد هاو للمجتمع (The HOW Institute for Society)، دوف سيدمان، من أشد المدافعين عن قيمة هذا النهج، مشيراً إلى أن المرء “عندما يضغط على زر الإيقاف المؤقت في أي آلة، فإنها تتوقف على الفور؛ ولكن عندما تضغط على زر الإيقاف المؤقت في البشر، فإنهم يبدؤون -يبدؤون التفكير وإعادة التفكير في الافتراضات، وإعادة النظر في سلوك مسار أفضل”. ويُعد معهد هاو للمجتمع منظمة غير ربحية تتمثل رسالتها في بناء ثقافة القيادة الأخلاقية وتعزيزها.

وعند تشجيع القادة على الضغط على زر الإيقاف المؤقت بين الحين والآخر، فإن هذا سيمنحهم المساحة اللازمة للتنفس وإيجاد معنى في خضم الأحداث الرئيسية لكلٍّ من الحياة الشخصية والمهنية، وهو ما يمكن أن يولّد رؤى ثاقبة تؤدي إلى تغيير وجه الحياة وإحداث تحولات جذرية في المنظور الفكري.

3. تقديم برامج موجَّهة لدعم القادة الذين يعانون الإجهاد الحاد أو المزمن

لقد توصّلنا من خلال بحثنا إلى أن برامج تطوير القدرات القيادية الفعَّالة أعطت المشاركين إحساساً متجدداً بالتركيز والاتجاه، ما أدى في كثير من الأحيان إلى تحسين مستويات السعادة وتقليل حدة التوتر. وكما قال أحد القادة، فإن “تذكر التركيز على غايتي المرجوة في الحياة وتحديد كيفية ارتباط المهمات التي أؤديها بغايتي قد منحني المزيد من السلام النفسي مع العمل الذي أؤديه (وما لا أؤديه). ومن ثم، فقد أسهم ذلك بشكل إيجابي في تعزيز سعادتي الطويلة الأمد”. وأوضح آخر كيف شعر بالحيوية والنشاط بعد استكماله برنامج تطوير القدرات القيادية، قائلاً: “اكتشفت أنني كنت مصاباً بالاحتراق الوظيفي، وقد أمدني [البرنامج] بالطاقة والحيوية. لقد أعاد شحن طاقتي”.

والأهم من ذلك، أن هذه البرامج قد أسهمت في خفض حدة التوتر بنسبة أكبر عند تقديمها في أثناء الجائحة (وهي حقبة كانت مشوبة بقدر كبير من التوتر للكثير من القادة)، وللمشاركين الذين يعانون ارتفاع مستويات التوتر في الأساس. وقد لاحظنا أيضاً أن القادة الذين يعانون مستويات أعلى من التقلبات العاطفية أو العصابية، وهي السمات التي ترتبط بالتوتر المزمن، شهدوا تراجعاً أكبر في حدة التوتر بعد الانتهاء من برنامج تطوير القدرات القيادية. ويشير هذا ضمناً إلى أن أصحاب العمل مطالبون بإعطاء الأولوية لتطوير القدرات القيادية عندما يكون التوتر الناجم عن التحديات الجماعية أو الشخصية مرتفعاً إلى حدٍّ كبير، إذ يمكن أن تساعد هذه المبادرات على تخفيف حدة الضغوط الواقعة على الموظفين وتعزيز صحتهم النفسية.

4. عدم الاستخفاف بالبرامج المكثَّفة والقصيرة

كانت إحدى النتائج الأكثر إثارة للاهتمام في دراساتنا هي أن البرامج القصيرة تسفر في أغلب الأحيان عن تحقيق تحسينات كبيرة بشكل مدهش. وقد وجدنا في بعض الحالات أن البرامج المكثَّفة التي لا تتجاوز مدتها يومين اثنين أو 4 أيام على الأكثر كان لها الأثر نفسه أو حتى أثر أكبر من البرامج التي تبلغ مدتها 4 أسابيع، بل إن تأثير بعضها على زيادة رفاهة المشاركين لم يكن يقل بحال من الأحوال عن تأثير برامج الصحة العقلية العلاجية.

ومن هذا المنطلق، فقد يستفيد مطورو البرامج والمشاركون، على حد سواء، من استكشاف طرق لتكثيف هذه المبادرات، لأن البرنامج ذات المُدد الزمنية الأقصر والأكثر كثافة قد تحقق نتائج أفضل في ظل استهلاكها قدراً أقل من الوقت والموارد المالية.

5. الاعتراف بالحواجز النفسية التي تحول دون النمو ومعالجتها

لن تجد الجميع منفتحين بالقدر نفسه على تحسين الذات. وقد لاحظنا من خلال بحثنا على وجه الخصوص أن الأشخاص الذين يتمتعون بقدر عالٍ من الإحساس بالذات والتفاني في العمل أظهروا أقل التغيُّرات الإيجابية في الاستجابة لبرامج التطوير. (ومن المثير للاهتمام أن هؤلاء الأفراد يحصلون أيضاً على دخل أعلى، ما يشير إلى أن هذه السمات قد تكون مرتبطة بالمكانة والراتب). ولا شك بالطبع في أن الإحساس بالذات ليس بالأمر السيئ في حد ذاته. وقد تعكس نتائجنا ببساطة أن هؤلاء الأفراد يُعتبرون بالفعل قادة متميزين، وبالتالي فإنهم أقل حاجة من غيرهم لمزيد من التطوير. وعلى الرغم من ذلك، فقد تؤدي رؤية أنفسهم بهذا الشكل الإيجابي المبالغ فيه إلى عجزهم عن إدراك نقاط ضعفهم، وبالتالي تجعلهم أقل استعداداً لمزيد من التطور.

وفي ضوء هذه القيود، يجب على المؤسسات إدارة التوقعات حول نتائج التعلُّم المحددة لمختلف البرامج ومساعدة المشاركين على اختيار البرامج التي تناسب أهداف التعلُّم الشخصية. وقد يكون من المفيد أيضاً تخصيص بعض الوقت لتنمية العقلية اللازمة للتعلُّم والتطوير قبل الانطلاق في برنامج تطويري جديد، على سبيل المثال من خلال تعزيز نقاط الضعف وعدم الخوف من الغموض. وفي نهاية المطاف، فقد أثبت بحثنا اختلاف مستويات الاستعداد للنمو من مشارك لآخر، وقد يحتاج البعض إلى دعم أكثر من غيرهم من أجل الاستفادة من هذه البرامج.

6. التأكُّد أن النمو قصير الأجل يؤدي إلى تأثير مستدام طويل الأجل

أثبتت مجموعة كبيرة من الأبحاث النفسية أن التغيير في الرفاهة الذي يبدأ من خلال حدث مرحلي مؤقَّت لا يلبث أن يتلاشى أثره بمرور الوقت. ويمكن القول بشكل عام إن الإنسان يتكيف مع واقعه الجديد، وبالتالي فإن التحسينات القصيرة الأجل لا تؤدي بالضرورة إلى تحوّل طويل الأجل. كانت هذه الظاهرة واضحة في بحثنا أيضاً، لأن التحسينات في رفاهة القادة كانت تختفي في الأشهر التي تلت الانتهاء من برنامج التطوير.

وفي ضوء هذه النتائج، سيكون من الحكمة أن تميز المؤسسات بين النجاح على المدى القصير والأثر الحقيقي المستدام، والتأكُّد أن جهودها التطويرية تتجنب إعطاء الأولوية للأول على حساب الثاني. وفي حين أنه من السهل قياس النتائج الفورية، فإن البرامج الأكثر فاعلية تعتمد على هذه التغيُّرات الأولية المصحوبة بالتذكيرات والإجراءات التدخلية المستمرة الأخرى المصممة لترسيخ عادات طويلة الأجل والاندماج المتواصل.

7. الترحيب بالتعلُّم عبر الإنترنت

أخيراً، في ظل التوسُّع في تطبيق سياسة العمل عن بعد، بدأ الكثير من المؤسسات استكشاف خيارات تطوير القدرات القيادية عبر الإنترنت. وتتميز هذه البرامج بشكل عام بانخفاض تكلفتها وارتفاع مستوى كفاءتها، كما أنها تسهّل على المحاضرين الوصول إلى شريحة أكبر من الجمهور. وفي الوقت نفسه، لا يزال بعض القادة غير واثقين، ولهم العذر في ذلك، ممّا إذا كانت برامج تطوير القدرات القيادية عبر الإنترنت لا تقل فاعلية عن البرامج الحضورية.

وعلى الرغم من هذه المخاوف، فإن دراساتنا تقدّم سبباً للتفاؤل الحذر، إذ لم نجد فوارق ملموسة بين برامج تطوير القدرات القيادية عبر الإنترنت والبرامج الحضورية فيما يتعلق بتأثيرها على النمو الشخصي والرفاهة. ومن المؤكد أن هناك اختلافات أخرى بين البرامج الحضورية والبرامج المقدَّمة عبر الإنترنت خارج نطاق دراستنا؛ لكن نتائجنا الأولية تشير إلى أن الكثير من المواقف يشهد بإمكانية تطوير القدرات بشكل فعَّال عبر الإنترنت على نحو ما يحدث في البرامج الحضورية.

عند محاولة تسويغ الاستثمارات الضخمة في تطوير القدرات القيادية، يلجأ الكثير من الشركات إلى التركيز بشكل حصري على النتائج المتحققة في مستوى الأداء أو التقييمات الذاتية المنقوصة؛ لكن أبحاثنا أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن هذه التحسينات المحدودة التي يسهل قياسها كمياً والتقييمات الذاتية ليست سوى جزء من المعادلة؛ إذ تؤدي أفضل برامج تطوير القدرات القيادية إلى تحقيق النمو على المستوى الشخصي بشكل عميق وتعزيز الشعور بالسعادة والهدف وزيادة الإحساس بالحيوية التي يلمسها الفرد في حياته العملية والشخصية. وفي ظل الظروف الراهنة التي تخلق صعوبات أمام أصحاب العمل خلال سعيهم الحثيث للحفاظ على اندماج الموظف في مواجهة عدد لا يحصى من التحديات العالمية والمحلية، فإن تعزيز الرفاهة يمثّل غاية في حد ذاته واستراتيجية لا غنى عنها لرفع مستوى الأداء وزيادة معدلات استبقاء الموظفين.

ولا شك في أن برامج تطوير القدرات القيادية ليست حلاً شاملاً. وإذا افتقرت هذه البرامج إلى عنصر التنفيذ الفعَّال، فستفشل على الأرجح في تحقيق الهدف المرجو منها؛ ولكن إذا تم تنفيذها بالشكل الصحيح، فسيكون بمقدورها مساعدة كلٍّ من قادة اليوم وقادة المستقبل على النمو والاندماج والازدهار.