ما الذي يعنيه التفكير في المريض أولاً؟

4 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

منذ حوالي عقد من الزمن عندما كنت أشرف على قسم الطوارئ في مستشفى راضي للأطفال في مدينة سان دييغو، قصدتني جدّة مع حفيدها البالغ من العمر سبع سنوات. كان الطفل يعاني من حمى مجهولة السبب وألم يتنقّل من إحدى ساقيه إلى الأخرى. كان قسم الطوارئ في مستشفانا هو القسم الرابع الذي تقصده هذه الأسرة بغية الحصول على تشخيص. ففي كل مركز من هذه المراكز كان الطاقم الطبي يقوم بإجراء تصوير بالأشعة السينية يُظهِر نتائج طبيعية دائماً، وتُنصَح الأسرة بمراجعة طبيب الأطفال الخاص بها. لم يكن الطفل يعاني من أي ألم في ساقيه عندما قمت بمعاينته، ولم تظهر عليه أعراض الحمى، بل بدا لي أنه على ما يرام. وكنت آنذاك مشغولاً جداً بمعاينة مريض تعرض لحادث، بعد أن انتهيت من إجراء بزل قطني لمريض آخر مصاب بالتهاب السحايا. كنت على وشك إرسال الطفل إلى منزله كما فعل أطباء أقسام الطوارئ الثلاثة الأخرى من قبل. لكنني فكرت لبرهة في هذه الأسرة التي قصدت كل أقسام الطوارئ هذه لعدم حصولها على تشخيص مقنع لحالة الطفل. كانوا يعرفون أنّ هناك شيئاً خاطئاً. لذلك قررت اتباع أسلوب مختلف في ذلك اليوم، وطلبت من الجدة أن تحدثني عن أكثر ما يقلقها. وأجابتني على الفور أنها تخشى أن يكون حفيدها مصاباً بالسرطان. لمعت في ذهني فكرة بعد كلامها. إذ من الممكن أن تكون آلام الساق المتنقلة، وتصوير الأشعة السينية السليم، والحمى غير المبررة أعراضاً لمرض السرطان بالفعل. واقترحت أن نقوم بفحص للدم. وبالفعل، كان الصغير مصاباً بسرطان الدم. يطيب لي الاعتقاد بأني كنت طبيبة ماهرة بما يكفي لأشخص مرض الطفل بمفردي، ولكن بصراحة، كان من الممكن أن يغيب هذا التشخيص عن ذهني تماماً كأطباء المستشفيات الأخرى لو لم أطرح ذلك السؤال وأتيح للجدة التعبير عن خوفها الداخلي.

لقد غير هذا السؤال البسيط ممارستي الشخصية لمهنة الطب، وقمت منذ ذلك اليوم بتدريب العديد من الأطباء الآخرين مستشهدة بهذه القصة. وأسفر نجاح هذا التدريب عن إنشاء برنامج باسم “شيء واحد مختلف” في مراكز “سكريبس” (Scripps) الطبية التي أشغل فيها منصب كبيرة الخبراء. وتطلب هذه المبادرة التي مضى عليها عام واحد، من موظفي الخطوط الأمامية أن يقوموا بشيء مختلف كلّ يوم في تعاملاتهم مع المرضى وذويهم. قد يكون هذا الشيء المختلف طرح أسئلة على المرضى حول ما يثير قلقهم، أو قد يكون إرشاد زائر تائه. وبدأت نتائج البرنامج الإيجابية تظهر بالفعل كما سأبين الآن.

سأسرد بداية بعض المعلومات حول تجربة المرضى، حيث يوجد سببان رئيسان يدفعان مقدمي الخدمات الصحية إلى التركيز على تجارب هؤلاء المرضى. يتمثل السبب الأول في أن توفير الرعاية الصحية التعاطفية للأفراد وهم في أضعف حالاتهم هو ببساطة التصرف الصحيح الذي ينبغي القيام به. أما السبب الثاني فهو أنّ الفشل في تلبية توقعات المرضى أضحى أمراً مكلفاً بشكل متزايد، كما يعرف جميع من يعمل في مجال الرعاية الصحية. وتربط مراكز خدمات الرعاية والمساعدة الطبية الآن جزءاً من التعويضات التي يحصل عليها الموظفون بدرجة رضا المرضى، وذلك من خلال استبانات تقييم المستهلكين لمقدمي الرعاية الصحية وأنظمتها (HCAHPS).

ولتحسين تجربة المريض، من الضروري إحداث تغيير في ثقافة الرعاية الصحية من ثقافة كثيراً ما نعالج من خلالها المرضى ونعاملهم وكأننا نسدي إليهم معروفاً، إلى ثقافة تضع احتياجات هؤلاء المرضى في صميم كل ما نقوم به. قد يبدو هذا الأمر معقداً ولكنه ليس بهذه الصعوبة بالفعل، إذ يمكن للتغييرات الصغيرة إحداث فرق كبير. لماذا لا نبدأ جميعنا بسؤال مرضانا عن أكثر ما يخيفهم؟ إنه سؤال بسيط جداً، لكنه قد يقودنا إلى تقديم رعاية طبية تغير حياتهم. وعلى نطاق أوسع، يمكننا تشجيع موظفي الخطوط الأمامية على إحداث تغييرات شخصية بسيطة في تعاملاتهم اليومية مع المرضى، تسفر بدورها عن إحداث فرق في حياة كل من الطرفين.

وإليكم كيفية عمل برنامجنا: أنشأنا موقعاً إلكترونياً يضم مقاطع فيديو وجلسات تدريب على تجارب المرضى، وشجعنا 15,000 موظف و3,000 طبيب و2,000 متطوع عبر المنظومة على اختيار “شيء واحد” خاص بهم لمساعدة المرضى وذويهم، ومن ثم مشاركته مع المؤسسة عبر هذا الموقع الإلكتروني المخصص. يصنف الموقع الموظفين حسب مناصبهم، وهو ما يمكّن الموظفين الذين يشغلون المناصب نفسها من الحصول على أفكار مختلفة. ويضم موقعنا حتى الآن أكثر من 4,000 فكرة، ويعتبر هذا العدد مقياساً لدرجة حماسة الموظفين تجاه هذا المفهوم. (انقر هنا لمشاهدة فيديو حول البرنامج).

على سبيل المثال، أدرك أحد الموظفين المسؤولين عن دفع أسرّة المرضى- وقد كان يشعر في البداية أنه عضو غير فاعل في فريق الرعاية الطبية- أنّ لدوره تأثيراً حقيقياً في تجارب المرضى. حيث أدرك في إحدى الدورات التدريبية أنه آخر شخص من خارج الكادر الطبي يراه المرضى المتوترون قبل نقلهم إلى غرفة العمليات. وكان الشيء المختلف الذي قام به هو وضع يده على كتف المريض، والنظر في عينيه وإخباره أنه “في أيد أمينة حقاً”. وأخبرنا أنه كان يشعر أن المريض يسترخي جسدياً تحت يديه كلما قام بذلك.

تتنوع مبادرات “الشيء الواحد المختلف” من قول الكلمات اللطيفة في الوقت المناسب إلى القيام بتغييرات عملية مهمة رغم صغرها. على سبيل المثال، أدركت إحدى الممرضات أنها توجه أحياناً كل تركيزها على أداء مهماتها إلى جانب أسرّة المرضى إلى درجة نسيانها حاجتهم إلى الخصوصية وستر أجسادهم، وخصوصاً عندما يتعذر عليهم فعل ذلك بأنفسهم. وأصبحت تحاول الآن جاهدة تغطية كل مريض وسحب الستائر في أي وقت قد يشعرون فيه بعدم الراحة والتردد أو عدم القدرة على قول أي شيء. وقررت موظفة أخرى تعمل في قسم الاستقبال تحسين ثقافة بهو الاستقبال من خلال نزع فتيل تذمر ممرضتين كانتا تعكران صفو الجميع. في اليوم الأول، قالت لهما “صباح الخير” بابتسامة مشرقة، لكنهما مرتا بجانبها دون أي رد. وبدلاً من الاستسلام، قالت: “لا بأس”، وقررت أن تحاول مجدداً. وقوبلت في اليوم التالي بالصمت مرة أخرى بعد إلقائها التحية، ولكنها قالت مجدداً: “لا بأس، سأحاول مرة أخرى غداً”. وفي اليوم الثالث، حصلت على رد “صباح النور” بتذمر. ولكن بحلول نهاية الأسبوع، كانت إحدى الممرضات تعلمها كيفية قول “صباح الخير” في لغتها الأم التاغالوغية.

ربما يكون من غير الممكن استخلاص مدى تأثير مبادرة الشيء الواحد بمفردها على تجربة المرضى، نظراً لوجود عدة جهود لتحسين تجربة المرضى في آن واحد. ولكنْ، شهدنا منذ إطلاق البرنامج تحسناً بنسبة 6% في نتائج تجربة المرضى على نطاق المنظومة، وشهدت إحدى الوحدات تحسناً بنسبة 20% في تقييم مدى مساعدة الموظفين للمرضى. وكان أحد مواقعنا التجريبية قد تحسن بنسبة 13% في إجمالي درجات استبانات تقييم المستهلكين لمقدمي الرعاية الصحية وأنظمتها (HCAHPS) في 6 أشهر فقط بعد جلسات تدريب الموظفين. إن تأثير البرنامج على الموظفين أنفسهم مهم أيضاً، على الرغم من أن قياس تأثيره عليهم ينطوي على بعض الصعوبة. كما أن مشاركتهم العالية المتمثلة بطرح 4,000 فكرة على الموقع في السنة الأولى تُظهر مدى اهتمامهم بالمبادرة. ومن المعروف أنه كلما كان موظفو الرعاية الصحية أكثر اهتماماً ازداد الشعور بالرضا عند مرضاهم.

إن إدارة برنامج مبادرة “شيء واحد مختلف” هي جزء من منصبي الذي منحني أقصى درجات السعادة، حيث تشجع هذه المبادرة الموظفين وتعزز دورهم عبر المنظومة، فضلاً عن أنها تمنحهم شعوراً حقيقياً بالاعتزاز حيال الأشياء الصغيرة التي يقومون بها بهدف تحسين حياة المرضى.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .