يحدث التطور التقاربي عندما تؤدي ضغوط بيئية متشابهة إلى إنتاج تكيف متشابه في كائنات حية من أنسال تطورية مختلفة. فمثلاً، تعتبر أجنحة الحشرات والطيور والخفافيش متشابهة في البنية وتتشارك نفس الوظيفة، لكنها تطورت بشكل مستقل. وبنفس الطريقة، يمكن رؤية التغيرات التي تطرأ على النظم الصحية حول العالم من خلال منظور التطور التقاربي الذي يساعد في فهم مبادئ تحسين الرعاية الصحية.
تشمل الضغوط البيئية التي تشكّل تصميم النظام الصحي الأمراض المتحولة والأولويات السياسية المتغيرة. بين عامي 1990 و2016، أصبحت الأمراض غير السارية مثل السرطان والمرض العقلي بمثابة المصدر الأكبر لعبء المرض حول العالم، تبعاً لقياس سنوات العمر المعدلة حسب الإعاقة، وهو اتجاه من المحتمل أن يتواصل بسبب السكان المسنين. وثمة أدلة متزايدة تثبت أنّ العوامل الاجتماعية المحددة للصحة، مثل السكن والتعليم، هي على الأقل بنفس أهمية الأجهزة الطبية في تحقيق المخرجات الصحية. وفي الوقت نفسه، فإنّ تمويل الصحة ينتقل من الدفع مقابل الخدمات المقدمة إلى توجيه الإنفاق وفقاً للفعالية في تحسين النتائج. وأخيراً، فإنّ الالتزام بالتغطية الصحية الشاملة (UHC)، حيث يستلم الأفراد والمجتمعات الخدمات الطبية التي يحتاجونها دون التعرض لضائقة مالية، قد اكتسب زخماً مع سعي جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لتطبيق التغطية الصحية الشاملة بحلول عام 2030 في إطار أهداف التنمية المستدامة.
المبادئ العالمية
تشكّل هذه الضغوط التطورية المشتركة خيارات تصميم الأنظمة في الولايات المتحدة وحول العالم. وتشير القواسم المشتركة في المشاكل التي تقابلنا إلى أنّ الحلول، أو على الأقل المبادئ التي تستند إليها، يمكن أن تكون قابلة للتعميم أيضاً. في مؤسسة "إن واي سي هيلث آند هوسبتالز" (NYC Health + Hospitals)، وهي تمثل أكبر نظام رعاية صحية عام في الولايات المتحدة، قمتُ بالمساعدة في تصميم استراتيجية متعلقة بصحة السكان، وتُعرف بأنها نهج استباقي أكثر لمعالجة المعاناة الإنسانية التي يمكن تفاديها. وهناك أربعة مبادئ شكّلت أساساً للاستراتيجية، وهي: تحديد شريحة مسندة (مثل الشريحة التي يكونون مسؤولين عنها)، والتدرب في مجال الرعاية عالية الجودة القائمة على المجتمع، والتعامل مع المرضى في وضعهم الحالي، سواء على مستوى صحتهم البدنية أم من ناحية تقدمهم في مسارهم الصحي، واستخدام البيانات لتوجيه تقديم الرعاية وتحقيق التقدم. وفي العديد من الحالات، تضع الأنظمة الصحية المحلية بالفعل واحداً أو أكثر من هذه المبادئ قيد التنفيذ، لكن قلّما يجري وضع هذه المبادئ الأربعة معاً قيد التنفيذ.
اقرأ أيضاً: إصلاح نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة يتطلب من السياسيين تغيير مواقفهم
أولاً، يجب على الأنظمة الصحية تحديد مجموعة المرضى التي تعتبر مسؤولة عنهم. ومع أنّ إسناد المرضى للأطباء السريريين، من خلال "مؤسسات الرعاية القابلة للمساءلة" في الولايات المتحدة مثلاً، قد يبدو مباشراً أو عادياً، إلا أنه مهم بالنسبة للأنظمة التي تضع نماذج رعاية لا تتوقف حصراً على زيارات المرضى. فعلى سبيل المثال، ما هو موضع المساءلة المناسب للمرضى الذين يطلبون فقط الرعاية الحادة، مثل تلقيها من قسم الطوارئ، أو لأولئك الذين لا يطلبون الرعاية اللازمة إطلاقاً، سواء بسبب التمييز أو عدم القدرة على تحمل التكاليف أو عدم توفر الوعي الصحي لديهم؟ بمجرد تحديد شريحة مسندة، يتعين على الأنظمة الصحية ترتيب المرضى في مجموعات حسب خطر حدوث نتائج سلبية. ويتعين على الأنظمة الصحية تصنيف المرضى المسندين حسب المخاطر لضمان توجيه الموارد للمرضى بشكل مناسب حسب احتياجاتهم، بنفس الطريقة التي نفرز بها المرضى الموجودين في المستشفيات إلى العناية المشددة ووحدات العناية المتوسطة والأجنحة العامة. فمثلاً، في إطار التوجه العام نحو رعاية تكميلية إقليمية في المملكة المتحدة، يستخدم أحد الاتحادات الطبية في نوتنغهامشير النمذجة التنبؤية لتحديد المرضى الذين يزيد خطر إدخالهم إلى المستشفى ويقدّم لهم رعاية وقائية، مثل "أجنحة افتراضية" توفر خدمات مكثفة ومتعددة التخصصات للمرضى الخارجيين.
وثانياً، يزيد ارتباط الأنظمة الصحية الفعالة بالرعاية عالية الجودة القائمة على المجتمع. فمن بين 218 تدبيراً تدخلياً أساسياً قليل التكلفة حددتها "شبكة أولويات مكافحة الأمراض" (Disease Control Priorities Network)، يُقدّم 140 من هذه التدابير عبر مراكز الرعاية الأولية أو نهُج قائمة على المجتمع أو على السكان، بدلاً من تقديمها من خلال المستشفيات. في مدينة "شيامن" الواقعة جنوب شرق الصين، قاد تفشي الأمراض المزمنة إلى نموذج جديد للرعاية الأولية يُعرف باسم "الإدارة المشتركة بواسطة ثلاثة متخصصين": وهم أخصائيون يحددون مسارات الرعاية، وذوو خبرة عامة ينفذونها، وأخصائيون صحيون في المجتمع المحلي مسؤولون عن التثقيف الصحي، بطرق من بينها الزيارات المنزلية. ترمز برامج الأخصائيين الصحيين في المجتمع المحلي بشكل خاص إلى التطور التقاربي، بعد بروزها في سياقات مختلفة تشمل: مقدّمي الرعاية الأولية في الهند ودول جنوب الصحراء الأفريقية، وأفراد المجتمع من فرق الرعاية الأسرية في البرازيل وكوستاريكا، و"داعمي الصحة" على الحدود المكسيكية، وعلى هيئة تدابير معيارية لخفض معدلات الإدخال إلى المستشفيات للمرضى ذوي الدخل المتدني في الولايات المتحدة.
وثالثاً، تبدأ الأنظمة الصحية حول العالم بـ "التعامل مع المرضى في وضعهم الحالي"، سواء على مستوى صحتهم البدنية أم من ناحية تقدمهم في مسارهم الصحي، ويُعزى ذلك جزئياً إلى التطور نحو رعاية قائمة على المجتمع. وتتيح التكنولوجيا، وخصوصاً خدمات الرعاية الصحية عن بعد مثل الرسائل النصية والاستشارات بالهاتف أو الفيديو، تقديم الرعاية عن بعد. فمثلاً، تدعم التكنولوجيا المتنقلة الآلاف من الأخصائيين الصحيين في المجتمع المحلي الذين يقدمون الرعاية في الفترة المحيطة بالولادة في أرياف ليبيريا، ما ييسّر توسعة نطاق الرعاية عند الولادة لتشمل أقرب منشأة صحية متى اقتضى الأمر. ويشير التعامل مع المرضى في وضعهم الحالي إلى دمج خدمات الصحة البدنية مع الخدمات الصحية والاجتماعية السلوكية. تسبب اضطرابات الاكتئاب إعاقات أكثر مقارنة بمختلف أشكال السرطان على مستوى العالم، لكن الأنظمة الصحية تتجاهل ذلك في حالات كثيرة. وفي هذه الأثناء، فإنّ الاعتراف المتزايد بأنّ عوامل اجتماعية مثل التحصيل التعليمي تهيمن غالباً في تحديد المسارات الصحية يقود الأنظمة الصحية إلى التعاون مع وكالات الخدمات الاجتماعية لمعالجة الأسباب الجذرية للأمراض. وما ييسّر مثل هذا التعاون في مقاطعة كيبك الكندية هو النهج الذي تتبعه الحكومة بأسرها في مجال الصحة، والمكرّس في سياسة الحكومة للوقاية في مجال الصحة، والذي يمتلك أهدافاً محددة مثل خفض الفجوة في معدلات الوفيات المبكرة بنسبة 10% بين الفئات الاجتماعية والاقتصادية الأعلى والأدنى في المقاطعة.
اقرأ أيضاً: كيف تعيق البيروقراطية تحسين خدمات الرعاية الصحية؟
والمبدأ الرابع المشترك بين الأنظمة الصحية المتقاربة يستخدم بيانات لتوجيه تقديم الرعاية وتعزيز التحسين. وتعتبر البيانات الصالحة والعملية بمثابة شريان الحياة بالنسبة للأنظمة الصحية من أجل تحفيز التغيير في الخطوط الأمامية للرعاية، ومراقبة الأداء العام على حد سواء. ومن الأمثلة على ذلك استخدام "سلاسل البيانات" لتسليط الضوء على الفجوات في جميع مراحل الرعاية. وقد استعملت سلاسل بيانات فيروس نقص المناعة البشرية على مدى عقود من أجل استهداف مناطق التحسين: فمثلاً، يُظهر رسم مخطط بحالات انتشار الفيروس في مقابل المرضى المصابين بالفيروس الذين أتمّوا أول موعد طبي فجوات في المشاركة. ويمكن توسيع نطاق مفهوم سلاسل البيانات ليشمل الأمراض غير السارية، مثل السكري والاضطرابات المرتبطة بتعاطي مواد الإدمان. ويمكن للأنظمة الصحية الاستفادة من سلاسل البيانات على نحو آخر: ربط البيانات على مستوى الأنظمة والمنشآت والمزودين والمرضى لإظهار كيف يرتبط مرضى معينون لديهم ضغط دم غير منضبط، على سبيل المثال، بالأداء الإجمالي للنظام حول مكافحة فرط ضغط الدم. هذين البعدين من سلاسل البيانات يمكن دمجهما في مجموعة محدودة من التدابير التي تشمل النتائج الصحية والمالية لنظام ما لمتابعته وإخضاع نفسها للمساءلة عنه.
التحديات والفرص
لقد أتاحت حركة السفر على النطاق العالمي نقل الكائنات الحية بشكل غير مسبوق على مستوى العالم: تمتلك الخنازير من بولنيزيا الآن نظاماً بيئياً مشتركاً مع سمك السلمون المرقط السفاح الأميركي (American cutthroat trout). وقد أطلق علماء الأحياء على هذا النظام البيئي اسم "بانجيا الجديدة". في العلوم الحياتية، غالباً ما يُستشهد بـ "بانجيا الجديدة" لوصف الانخفاض في التنوع الحيوي المرتبط بالترابط العالمي. وربما يكون هذا بمثابة تحذير من أجل التفكير بشأن التطور التقاربي للأنظمة الصحية. وعلى الرغم من فرص التنسيق العالمي، يجب أن يبقى تركيز الأنظمة الصحية منصبّاً على الناس والمرضى، والمساءلة المحلية.
لا تمتلك الأنظمة الصحية المحلية في كثير من الأحوال القدرة على تقديم رعاية طولية. وجدت دراسة عن توفر خدمة الأمراض غير السارية وجهوزيتها في بنغلادش وهاييتي ومالاوي ونيبال وتنزانيا أنّ أقل من خمس منشآت في كل دولة كانت جاهزة لتوفير الرعاية للمصابين بمرض السكري وأمراض القلب والأوعية الدموية والأمراض التنفسية المزمنة. ومثّلت قلة الأخصائيين الصحيين المدرّبين والعلاجات الأساسية أوجه قصور مهمة، وخصوصاً في المناطق الريفية. وتشمل العيوب في جودة الرعاية الصحية المقدّمة حول العالم انخفاض الاستخدام، وإساءة الاستخدام، وفُرط الاستخدام. وقد قدّرت دراسة أجرتها "الأكاديميات الوطنية الأميركية للعلوم والهندسة والطب" (National Academies of Science, Engineering, and Medicine) حدوث بين 5.7 ملايين و8.4 ملايين وفاة سنوياً جرّاء تدني مستوى الرعاية في الدول متدنية الدخل ومتوسطة الدخل.
ويكشف مثال الهند بوضوح عن كل من التحديات والفرص المتأصلة في النهج التقاربي. القوة العاملة في المجال الصحي غير متجانسة، بما فيها عمال الرعاية الصحية غير المحترفين والأطباء السريريين غير المؤهلين. ويشمل الإنفاق من الأموال الخاصة ثلثي الإنفاق الصحي تقريباً، ما يُدخل نحو 90 مليون هندي في دائرة الفقر نظراً لتكاليف الرعاية الصحية كل عام. تلتمس الهند طريقها وسط مجموعة من الخيارات الأساسية للسياسات الصحية، مثل التوازن بين إجراءات مكافحة الأمراض على المستويين الوطني والمحلي، وكيفية الاستثمار في التدابير التدخلية الأكثر فعالية من حيث التكلفة.
لكن المبادئ العالمية المذكورة أعلاه يمكن أن تساعد في إيجاد حلول مشتركة، بما يسمح في بعض الحالات بإنشاء تأثير قفزي (saltatory effect) في أماكن مثل الهند. قد تكون ثمة فرصة لتخطي صعوبات التمويل الصحي الموجودة في الدول مرتفعة الدخل، مثل وضع خطط لاسترداد المبالغ تثني الناس عن التوجه للرعاية متدنية القيمة، مثل فُرط استخدام تصوير آلام الظهر. وبالمثل، مع زيادة الإمكانيات الجراحية في الدول متدنية الدخل، سيسمح التركيز على الجودة في الرعاية عند الولادة بتجنب إجراء العمليات القيصرية غير الضرورية المنتشرة في الدول مرتفعة الدخل ومتوسط الدخل. وفي المقابل، فإنّ الأعداد الكبيرة من المرضى التي يمكن ملاحظتها في المراكز الطبية الهندية، مثل جراحة إعتام عدسة العين (cataract surgery)، حققت مكاسب في الكفاءة التشغيلية تنطوي على دروس للمناطق التي تعاني من احتواء التكاليف، كما هو الحال في الولايات المتحدة. يتيح التقارب العالمي فرصة للاستفادة من وفورات الحجم لوضع تدابير قليلة التكلفة وعالية الجودة، ويمكن أن ييسِّر انتشار الابتكار بشكل أسرع في مختلف السياقات المحلية التي تسعى لاستكشاف مبادئ تحسين الرعاية الصحية.
اقرأ أيضاً: