كيف يمكن للشركات أن تدعم التنمية المستدامة؟

5 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في ظل المناخ السياسي السائد عبر مختلف بلدان العالم، والاتجاه الجديد نحو الحذر في إقامة اتفاقات التعاون الدولي، فإنه من المحتمل أن يجد القطاع الخاص نفسه في وضعية حرجة، تتمثل في محاولة إنعاش حالة الركود في بعض القضايا المحورية مثل التغير المناخي والتنمية المستدامة. وربما يتولد هذا الدافع لتولي دور أكبر بمطالبة الجهات الرقابية ومنظمات الدفاع عن قضايا البيئة، فضلاً عن الضغوط التي يمارسها العملاء والمستثمرون والشركاء والموظفون.

ولكن المشكلة تكمن في أن القطاع الخاص ليس مؤهلاً للمساعدة بسهولة على خلق أو دعم المنتجات العامة، بالرغم من تعالي الأصوات المطالبة بضرورة أن تتبنى الشركات المسؤولية الاجتماعية، وأن تحرص على تحقيق القيمة المشتركة، ذلك أن الشركات لم تسارع في تعزيز نشاطها في هذا المجال، باستثناء بعض الشركات التي تبنّت هذا الاتجاه باكراً.

لقد أوضحت سابقاً أن أهداف الأمم المتحدة في مجال التنمية المستدامة يمكن أن توفر، لأول مرة، إطار عملٍ يمكّن من حشد الشركات في سبيل الاستثمار في التنمية المستدامة بطريقة مستمرة وقابلة للتطوير، وذلك بالتوازي مع العمل على تحقيق أهدافها الربحية الخاصة. وقد أخذت بعض الشركات زمام المبادرة في ذلك، فشركة “يونيليفر” (Unilever)، على سبيل المثال، لاحظت أن علاماتها التجارية القائمة على المعيشة المستدامة تنمو بنسبة 30% أسرع من بقية مجالات أعمالها التجارية، كما كانت تلك العلامات وراء ما يقرب من نصف إجمالي نمو الشركة خلال 2015. وعلى غرار شركة “يونيليفر”، توجد شركات تنتمي إلى صناعات أخرى، وتشكل طليعة الشركات السبّاقة إلى دمج الأهداف التجارية الخاصة بها مع التنمية المستدامة. وأنا أُطلق على هذا الصنف الجديد من الشركات “المبتكرون الشموليون”.

من أجل فهم أفضل لهذه الفئة من الشركات، ومعرفة كيفية توسيع ابتكاراتها لتشمل شركات القطاعات الصناعية الأخرى، وبدعم من مؤسسة “سيتي فاونديشن” (Citi Foundation)، أطلقنا جهوداً بحثية امتدت على مدار سنة، خلال الفترة الممتدة بين عامَي 2015 و2016 لدراسة 20 مبتكراً شمولياً ينتمون إلى 10 قطاعات صناعية مختلفة. وقد أجرينا نقاشات معمقة خلال المقابلات الشخصية التي أجريناها مع صانعي القرار في هذه الشركات، بمن في ذلك الرؤساء التنفيذيون أو كبار المسؤولين التنفيذيين عن التنمية المستدامة، كما حللنا استراتيجيات هذه الشركات ونتائجها. ويمكن الاطلاع على النتائج الأولية لذلك هنا. ويتمثل أحد الدروس الرئيسية التي تظهر في البداية في معرفة: من أين نبدأ؟

التعرف على أهداف التنمية المستدامة: من أين نبدأ؟

أحد التحديات الأولى التي تواجه أي شركة في صدد التأقلم مع أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر (المذكورة في الجدول أدناه)، هي ببساطة رسم حدود للنطاق الواسع لهذه الأهداف، حيث تبدو قائمة الأهداف والمواد الدعائية الصادرة عن الأمم المتحدة كلوحة ألعاب ملوّنة، وتتضمن أفكاراً عظيمة مثل “القضاء على الفقر”، و”الحياة في البر”، و”السلام والعدالة”.

17 هدفاً للتنمية المستدامة

ما الذي يجب أن تركز عليه شركتك؟

1- القضاء على الفقر
2- القضاء على الجوع
3- الصحة الجيدة
4- التعليم الجيد
5- المساواة بين الجنسين
6- المياه النظيفة والنظافة الصحية
7- طاقة نظيفة وبأسعار معقولة
8- العمل اللائق ونمو الاقتصاد
9- الابتكار والبنية التحتية
10- الحد من أوجه عدم المساواة
11- مدن ومجتمعات محلية مستدامة
12- الاستهلاك المسؤول
13- العمل المناخي
14- الحياة تحت الماء
15- الحياة في البر
16- السلام والعدالة
17- عقد الشراكات لتحقيق الأهداف
المصدر: الأمم المتحدة

بطبيعة الحال، من المفروض أن تكون أهداف التنمية المستدامة مفهومة، وتمثل مقاربة ممنهجة للمشاكل المعقدة المرتبطة بالتنمية المستدامة على مستوى كوكب الأرض كله، لكن عند مواجهة عدد من الأهداف المجمّعة كالتي أصدرتها “الأمم المتحدة”، فيمكن أن تعاني الشركات لمعرفة من أين تبدأ. ستكون محاولة تحقيق كل الأهداف أمراً يفوق قدرات الشركة التشغيلية، كما سيؤدي ذلك إلى إهدار الموارد، ذلك أن بعض الأهداف يمكن أن تكون عامة جداً أو بعيدة جداً عن النشاط الأساسي للشركة. على سبيل المثال، يسهل استبعاد هدف “القضاء على الفقر” بما أنه بعيد عن أعمال الشركة ومنظومة القيم الخاصة بها، في حين أن النطاق الواسع يعتمد على السياسة العامة السائدة. لذلك فالمدراء في حاجة إلى تحديد الأولويات ومجالات تركيز الموارد المتاحة.

لم تحاول الشركات العشرون التي درسناها تغطية مجمل نطاق أهداف التنمية المستدامة، بل اتخذت مجموعة من الخيارات منها ثم خصصت الموارد اللازمة لها. كان نطاق تركيز بعض الشركات أكثر من غيرها، فمثلاً ركّزت شركة “ساوث ويست أيرلاينز” (Southwest Airlines) للطيران، على الاستهلاك المسؤول، والعمل المناخي، في حين اختارت شركة “جونسون آند جونسون” الصحة الجيدة، وعقد الشراكات لتحقيق الأهداف، واختارت شركة “ماستركارد” (MasterCard) كلاً من هدف العمل اللائق، ونمو الاقتصاد، وهدف الحد من أوجه عدم المساواة، وهدف عقد الشراكات لتحقيق الأهداف.

يشعر بعض القادة بالقلق إزاء التركيز على أهداف محددة دون غيرها، لأن ذلك يمكن أن يؤدي إلى تهميش كلي لبقية الأهداف، فمثلاً قامت شركة “إريكسون” (Ericsson) بتكليف كل عضو من أعضاء فريقها التنفيذي بدعم أحد أهداف التنمية المستدامة، لكن تشير أبحاثنا إلى أن مثل هذا التشتيت للجهود غير مستحب، لأنه يميل إلى تشتيت الموارد ويؤدي إلى عدم توافق استثمارات أهداف التنمية المستدامة مع استراتيجية الشركة، كما ينتج عنه تأثير متناقض، يتمثل في تهميش كل أهداف التنمية المستدامة لأنه لا يوجد هدف واحد منها يحصل على الاستثمارات الاستراتيجية الضرورية لتحقيق الاستدامة.

ولدفع مدراء الشركات الذين لديهم مخاوف واقعية نحو اتخاذ قرار “من أين نبدأ”، نقترح 3 خطوات مستنبطة من تجربة المبتكرين الشموليين:

  1. تجزئة أهداف التنمية المستدامة. أولاً، عليك بتقسيم أهداف التنمية المستدامة ذات الارتباط الوثيق بمجال نشاطك على شكل “قصة”، ما يساعد على بناء تسلسل هرمي ويبيّن بعض المنطق في ارتباط هذه الأهداف بنشاط شركتك. إحدى طرق القيام بذلك هي تنظيم أهداف التنمية المستدامة وفق ثلاثة مجالات تركيز رئيسية: الإنسان، وكوكب الأرض، والمبادئ السياسية. من المفيد توضيح الأهداف النهائية والأهداف الوسيطة المصممة للمساعدة على تحقيق أهداف أكبر. ويمكن رؤية مجالات التركيز هذه في المخطط أدناه. (في تقريرنا حول المبتكرين الشموليين، نظّمنا أهداف التنمية المستدامة على شكل هرمي من أجل تمثيل أنواع تحديد الأولويات الضرورية، حيث تمثل كل طبقة من الهرم أهداف التنمية المستدامة التي تدعم جميعها الأهداف النهائية للتنمية المستدامة، وهي التي وُضعت في قمة الهرم).

تجزئة أهداف التنمية المستدامة يساعد الشركات على توجيه جهودها

طابق أهدافك مع هذه الأهداف الأربعة

الجزء المستهدفمجال التركيزأمثلة عن تجزئة أهداف التنمية المستدامة
الإنسانحقوق الإنسان الأساسية5 المساواة بين الجنسين
2 القضاء على الجوع
1 القضاء على الفقر
كوكب الأرضكوكب صالح للمعيشة والاستدامة، بما في ذلك حالة الموارد الطبيعية والبيئة13 العمل المناخي
14 الحياة تحت الماء 
15 الحياة في البر 
السياسةالتعاون بين صانعي السياسة من أجل خلق مجتمع يتمتع بالعدل والمساواة16 السلام والعدالة
10 الحد من أوجه عدم المساواة
حالة البشر القضايا الاجتماعية والصحية الأساسية3 الصحة الجيدة
8 العمل اللائق ونمو الاقتصاد
4 التعليم الجيد
المصدر: باسكار تشاكرافورتي
  1. تحديد المجال الأكثر ملاءمة لشركتك. تتضمن الخطوة التالية في تحديد الأهداف التي تتقاطع مع جزء من أنشطة الشركة أو مع جزء من نشاطات منظومة القيم الخاصة بها، أو بصيغة أخرى، تحديد المجالات التي يمكن أن يكون للشركة فيها تأثير ملموس، ذلك الذي يمكن أن يخلق تأثيراً واسعاً وعميقاً في شريحة عريضة من المجتمع. على سبيل المثال، حرصت شركة “كوكاكولا” على هيكلة أنشطتها حول ثلاثة مجالات رئيسية: المياه، والمرأة، والرفاهية. وأعلنت شركة الصناعات الزراعية “أولام” (Olam) رسمياً أن أولويتها هي القضاء على الفقر، وأن عقد الشراكات هو الطريقة التي ستنفذ بها مبادراتها، كما كشفت بحوثنا أن تأثيرها شمل المياه النظيفة، والعمل اللائق ونمو الاقتصاد، وكذلك الابتكار والبنية التحتية.
  2. تحقيق الجدوى التجارية. الخطوة الأخيرة هي تحقيق عوامل الجدوى التجارية، التي ترسّخ الدافع التجاري للمجال الذي تم اختياره وسبب اختيار هذا المجال. وقد توصلت البحوث السابقة التي تناولت الدوافع التجارية في الشركات التي درسناها، إلى أنها لم تكن تعاني من نقص عوامل الجدوى التجارية. وقد كان الدافع الأكثر تكراراً هو تقليل مخاطر الأعمال من الزعزعة المحتملة للعمليات أو خطر تشويه سمعة الشركة، ذلك الذي ذُكر بنسبة 38% من الوقت. وجاء بعد ذلك دافع الالتزام بمعايير الصناعة الخاصة بالشفافية وتتبع المنتجات والمسؤولية البيئية وغيرها من المعايير المقبولة، وتم ذكر هذا الدافع بنسبة 27.6% من الوقت. أما الحصول على حصة في الأسواق الحالية وإنشاء روابط مع العملاء المستقبليين، فقد جاء بنسبة 25.3% من الوقت. كما كان بناء سمعة طيبة مع الأطراف الفاعلة داخلياً هو الدافع الأقل ذكراً بنسبة 9%. أما على المستوى الكلي، فتمثل أهداف التنمية المستدامة ما لا يقل عن 12 تريليون دولار من فرص سوقية موجودة في أربعة مجالات فقط: الغذاء والزراعة، والمدن، والطاقة والمواد، والصحة والرفاهية.

على مستوى الشركة، يعدّ ربط الجدوى التجارية مع قضية الاستدامة أمراً معقداً. وقد طوّر المبتكرون الشموليون الذين درسناهم قضية متكاملة وصاغوا سرداً تفصيلياً حولها. ومن أجل تحقيق أكبر قدر من الفاعلية، يجب أن تكون البداية من قمة المؤسسة. وقد وصف آرت بيك، الرئيس التنفيذي لشركة “غاب” (Gap)، ذلك مجيباً عن سؤالنا: “تستند استثماراتنا الموجهة للتنمية المستدامة إلى فلسفة أننا جميعاً مترابطون، وأن الأفعال الإيجابية التي نتخذها لتحسين حياة الناس وكوكب الأرض ضرورية أيضاً لإدارة أعمال جيدة. ذلك أنه عندما يعمل الأشخاص الذين يصنعون ملابسنا في ظروف آمنة وعادلة، فإنهم يكونون أكثر إنتاجية ويساعدوننا في إنتاج منتجات أفضل. وعندما نقوم بتخفيض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري وتقليل حجم النفايات، فإننا نسهم في تحسين بيئة يمكن لأعمالنا أن تزدهر فيها”.

في عام 2017، من الضروري أن تعترف مجموعة كبيرة من الشركات بمواءمة استدامة أعمالها التجارية مع التنمية المستدامة، لأن القطاع الخاص مدعوّ لملء الفراغ الناتج عن تراجع القطاع العام عن وضع أهداف عالمية طويلة الأجل. ومن المهم بالقدر نفسه، عدم السماح لطبيعة الأهداف المعقدة والشاملة أن تكون عائقاً للشركات عن أداء واجباتها.

وبالنظر إلى ما توفره أهداف التنمية المستدامة من إطار عمل قوي للمؤسسات يساعد على توحيد الجهود، وتعزيز التنظيم داخلياً ومع الشركاء، وتنفيذ أدوار إيجابية، فإن الخطوة الأولى هي التوقف عن محاولة تصور جميع أهداف التنمية المستدامة مجتمعةً، بل وضعها في إطار تسلسل هرمي من الأهداف المتصلة والمتسلسلة، وهو ما يساعد في تحديد الأولويات، وبناء منطق للاختيار، ودمج استراتيجية بناء أعمال مستدامة مع استراتيجية الشركة في مجال التنمية المستدامة. ويمكن للشركات التي تتخذ هذه الخطوة الأولى الانضمام إلى رابطة المبتكرين الشموليين.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .