للأزمات مهما كانت مأساوية جوانب إيجابية لا تحصى، فهي توقظ البشر من غفلاتهم، وتولد نماذج عمل جديدة ما كان البشر لينتقلوا إليها لو استمروا بممارسة حياتهم بالروتين المعتاد.
واليوم في وسط الحديث المرعب والغامض عن مصير العالم وأعماله في ظل انتشار وباء كورونا المستجد، لا يخلو أي حديث بين اثنين عن التغييرات التي سيشهدها العالم في مرحلة ما بعد كورونا. فهل يمكن أن تكون فوائد كورونا وإيجابيات كورونا إحداها؟
ما من شك بأن كورونا مثله مثل أي أزمة أو حرب سيهز العالم، وسيخُرج ابتكارات ويغير عقليات ما كانت ستنتقل من مرحلة إلى أخرى لولا ضرورة الأزمة.
وعلى سبيل المثال، فإنني أعتقد بأن حكومات العالم وحتى بعض شركات القطاع الخاص ما كانت ستخرج من عنق الزجاجة تجاه تبني معطيات التكنولوجيا للعمل عن بعد، والتعليم عن بعد، وتقديم خدماتها للناس عن بعد، ومعالجة القضايا في المحاكم عن بعد لولا كورونا.
وكانت ربما ستبقى عشرة أعوام أخرى في حالة استعصاء وإنكار لتبني هذه التقنيات التي قال المنطق أنها باتت أمراً واقعاً منذ عشرة أعوام خلت.
من فوائد كورونا هدم البيروقراطية
ها هي كورونا تضرب البيروقراطية في مقتل، فالقرارات التي كانت تحتاج لأشهر لكي تُتخذ صارت تتم بطرفة عين، وتخلت الكثير من الحكومات عن إجراءات وروتين بيروقراطي لتساعد العالم للمضي إلى الأمام بالسرعة اللازمة.
وهاهي الحكومة الأميركية- على سبيل المثال تعلن أنها ستتخلى ولأول مرة عن الروتين في إجراءات قبول الأدوية، حينما دعا ترامب شركات الأدوية لتصنيع اللقاح واعداً بأن إدارة الدواء والغذاء (إف دي أيه) سترد على طلباتهم فوراً.
هل تعلمون ماذا يعني هذا؟
لقد كان تصنيع الدواء يحتاج لعشرة أعوام من الروتين والإجراءات، يضيع قسم كبير منها في الإجراءات البيروقراطية الحكومية، أما اليوم فقد باتت الحكومة الأميركية جاهزة لاختصار الزمن وتخطي الروتين.
وأعتقد أن حكومات العالم يمكن أن تكون اليوم أمام صحوة الصدمة، والتي ربما تجعلها تناقش كل إجراءاتها السابقة، بحيث تتساءل أمام كل إجراء تطلبه: هل هو ضروري؟ هل يحتاج فعلاً حضوراً شخصياً من العميل؟ كما أن عليها أن تتساءل السؤال الأهم عن كل حل تقدمه التكنولوجيا الحديثة: إذا كنا مقتنعين به فلماذا لا نطبقه؟ وإذا كنا نريد تطبيقه فلماذا لا نطبقه الآن؟
لا شك أن الأضرار الجانبية التي ستنتج عن تطبيق التكنولوجيا الحديثة في العمل والتواصل، ستؤدي إلى صدمات غير معتادة، ومنها أزمة إدارة الفريق عن بعد على سبيل المثال وكيفية معالجة الآثار النفسية لحالة الوحدة التي يشعر بها العامل عن بعد، وكيف سيجهز منزله ليكون بيئة عمل مناسبة وغيرها من هذه التحديات. لكن الجواب أنها تحديات طبيعية وهي ستحصل عاجلاً أو آجلاً لكنها قابلة للحل، ولذا فقد ظهرت الكتب والمقالات ومنها مقالات هارفارد بزنس ريفيو في العمل عن بعد و التعليم عن بعد والتي تقدم طرقاً علمية قائمة على مناهج مجربة لتجاوز كافة التحديات.
وربما لن تتوقف الأضرار الجانبية جراء الانتقال في نموذج عمل الحكومات والشركات على هذه التحديات، إذ إن طرق العمل الجديدة المرنة عبرد تؤ الإنترنت قدي إلى خسارة الكثيرين لأعمالهم لصالح الأتمتة، إلاّ أن هذا التحوّل سينتج عنه نماذج عمل جديدة تتيح من الفرص أكثر مما تتسبب بخسائر أو آثار جانبية.
من منافع كورونا إعطاء نظرة جديدة للتعليم عن بعد
وفوق هذا وذاك فإنّ هذا التحول سيكون في صالح الناس عموماً، حيث سيوفر عليهم المصاريف والأعباء التي كانوا يتكبدونها دون داع، فمن غير المنطق ونحن في هذا العصر أن وزارات التعليم في منطقتنا وكثير من دول العالم، مازالت ترفض الاعتراف بالشهادة التي ينالها الطالب بالتواصل مع الجامعة عبر الإنترنت حتى ولو كانت تلك الجامعة مرموقة ولا مانع لديها من الدراسة "أونلاين".
ومازالت وزارات التعليم تفرض على الطلاب السفر والإقامة لشهر واحد على الأقل في العام إلى البلد الذي تقع فيه تلك الجامعة، بينما كانت ومازالت الكثير من الجامعات المتطورة تعتبر الحضور الشخصي أمراً غير ضروري.
لقد تقدمت التكنولوجيا والمؤسسات العالمية في التعليم والعمل بأشواط عن عقلية الحكومات. وقد كانت الحكومات تتذرع بآلاف الحجج لوقف اعترافها بالشهادات التي تمت عبر التواصل عن بعد مع الجامعات، وكانت تتذرع بآلاف الحجج لرفض العمل عن بعد وتسجيل الشركات عن بعد، لكن جميع الحكومات- وبسبب الاضطرار- استطاعت وخلال أيام فقط تكييف ظروفها مع هذه النماذج التي طالما عاندت في قبولها.
صحيح أن المرحلة الأولى لتطبيقات هذه النماذج ستشهد تخبطاً وأخطاء في التطبيق، لكنها مرحلة لابد منها، وكنّا سنمر بها عاجلاً أم آجلاً.
إستونيا لا تحتاج فوائد كورونا
لقد مرت دول مثل إستونيا منذ أكثر من عشر سنوات بهذه المشكلات لكنها اليوم تعتبر من أنجح دول العالم في تقديم الإقامة عن بعد والعمل عن بعد وترخيص الشركات وإدارتها عن بعد، ويعتمد أغلب اقتصادها على هذه النماذج منذ سنوات بنجاح.
ولو سألت الحكومة الإستونية لأجابتك كما أجابني رئيس برلمانها وأحد وزرائها حينما التقيتهم قبل عام بأن ما دفعهم إلى هذا الخيار هو "الضرورة"، فقد استقلت هذه الدولة في التسعينيات من القرن الماضي ووجدت نفسها بلا مصادر، وبعدد قليل من السكان الموهوبين وذوي التعليم العالي، وبذات الوقت كانت بلداً يخاف على تركيبته السكانية من المغتربين، فقررت الاستعانة بعقول العالم وبأموالهم لكن "عن بعد".
ففتحت الباب للإقامة لكن عن بعد، والعمل لكن عن بعد، والتعليم لكن عن بعد، وتأسيس الشركات لكن عن بعد، فتهافت إليها رواد الأعمال عبر الإنترنت وحولوها إلى إستونيا التي نعرف كواحدة من قادة التكنولوجيا الناشئة في العالم.
ولكن هل سيقف الأمر عند هذا الحد؟ ستكتشفون أن حالات الاستعصاء الأخرى تجاه قبول الدفع عبر الإنترنت والتقليل من استخدام العملات الورقية، وربما انتهاء عهدها لصالح العملات المشفرة، سيأتي عبر مثل هذه الضرورة، فقد باتت الناس حذرة هذه الأيام من استخدام العملات الورقية واستخدام الصرافات الآلية التي يلمسها الجميع.
وأعتقد أن هذه الحساسية تجاه لمس النقود لن تتوقف بعد انتهاء عهد كورونا، لأن وسواس الوباء القادم سيبقى هاجس الكثيرين.
فكروا في الأمر وستجدون أن استخدام بطاقة الكريدت كارد التي تعمل بنظام الواي فاي والدفع عبر آبل باي عبر الساعة أو الجوال حل إنقاذي للكثيرين هذه الأيام.
العالم بعد كورونا
لن يكون العالم ما بعد كورونا كما كان قبلها، ومن يتخيل أن يعود العالم لأساليبه القديمة وبيروقراطيته العنيدة، فسيكون واهماً لأن التجارب التي مرت عبر العصور أثبتت أن بذور الأفكار الجديدة إذا تمت تجربتها لا تموت.
ربما تخبو وربما تتلكأ لكنها ستعود وتولد من جديد.
وكم سمعنا وقرأنا عن أفكار ريادية ماتت لأنها ولدت قبل أوانها، لكنها عادت وولدت من جديد بعد سنوات قليلة.
هل تعتقدون أن شركات العالم ستعود للقاءات المباشرة في الاجتماعات أو عقد المؤتمرات التي يحضرها الآلاف، ويسافرون من بلد إلى بلد سيعودون إلى النموذج نفسه بعد أن تنتهي أزمة كورونا؟
ربما يعودون بنسب قليلة محددة، لكن نسبة كبيرة من تلك الفعاليات والاجتماعات، ستتحول إلى مؤتمرات افتراضية عبر الإنترنت أو المعارض والمؤتمرات المدعومة بنظارات الواقع المعزز، كما بدأ العالم يجرب اليوم على نطاق واسع.
وقس على ذلك معاينة المرضى عبر الإنترنت في كثير من الأمراض التقليدية وصولاً إلى وصف الأدوية لهم، سيتحول اليوم إلى ضرورة لا غنى عنها، إذ بات يكتشف اليوم العالم بأن معظم دوله غير مستعدة لضغط الرعاية الصحية التي يتطلبها اختبار وتحليل وعزل مرضى كورونا، وهذا ما سينتج عنه - وربما بدأ فعلاً- الاعتذار عن استقبال بعض المرضى ومعالجتهم من بيوتهم عبر الإنترنت.
بعد أن رأينا فوائد كورونا هل سنعود للعصر الحجري؟
بعد أن تجرب الشركات والمؤسسات الحكومية والناس الخدمات الأكثر تقنية في عصر كورونا لن يسهل عليها العودة للعصر الحجري بعده.
ومن الطرائف التي يذكرها المفكر الراحل كلايتون كريستنسن في كتابه الذي صدر العام الماضي بعنوان (معضلة الازدهار) أن المجالات التي كانت تعمل بها شركات عملاقة نعرفها اليوم كانت غريبة وطريفة قبل أن تتحول فجأة للإبداع بسبب انتهاء الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية وظهرت الحاجة للتنمية والنهوض السريع، فقد كان تخصص شركة سوني قبل ذلك هو تصنيع الأغطية الإلكترونية التي تستخدم للتدفئة، وكانت كيا مهتمة بتصنيع الدراجات الهوائية "البسكليت"، وكانت شركة سامسونج تبيع السمك المجفف.
لكنها وجدت نفسها فجأة أمام انتهاء الحرب والحاجة للإعمار أمام نماذج عمل تتطلب منها الابتكار، فتلقفت التكنولوجيا ولم تفلتها من أيديها بعد ذلك، ولم تعد لتصنيع الأغطية أو البسكليت أو بيع السمك.
وإذا قرأت كتاب (من أين تأتي الأفكار الجيدة، التاريخ الطبيعي للإبداع) لمؤلفه ستيفن جونسون فستكتشف أن مئات الاختراعات التي غيرت تاريخ البشرية إنما ولدت عبر أشخاص كانوا يبحثون عن حل لمشكلات العالم.
ولو كنت مؤمناً بمبدأ "الحاجة أم الاختراع" فستعلم أن الحاجة هي "الضرورة" والضغط الذي تعيشه.
ولا تنس أن الكثير من اختراعات وابتكارات البشرية في القرن العشرين إنما ولدت في ظل الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة حينما كان سباق الحياة أو الموت هو الدافع لابتكار أحدث الطائرات والقطارات وشبكات الاتصال وغزو الفضاء وعلم الذرة.