ما أفضل طريقة لتطوير قدراتك القيادية؟

5 دقائق
تحسين الذات
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

لا شك في أن الجميع يحبون فكرة تحسين الذات؛ فنحن نريد أن نكون أكثر ذكاءً وأكثر قدرة على تكوين شبكات العلاقات والارتباط بمعارف مهمين وتحقيق التوازن في حياتنا، وهلمّ جرّاً. وهذا ما يجعل الكثيرين يتهافتون على قوائم “أفضل 10” أشياء يجب فعلها لكي يكونوا قادة أكثر فعالية وذكاءً وأهلية لنيل الترقيات، وما إلى ذلك من سمات محبّبة. نحرص على الإقبال على قراءة هذه القوائم بنهم، لكننا نواجه صعوبة في الالتزام بـ “الخطوات السهلة”؛ لأننا لا نريد في أغلب الأحيان اتخاذ الخطوات الجادة التي يقتضيها إحداث تغيير حقيقي، على الرغم من أننا جميعاً نريد نيل فوائد التغيير.

ولكن ماذا لو لم نفكّر في تحسين الذات كعمل؟ ماذا لو فكّرنا في الأمر على أنه لعبة، على وجه التحديد كنوع من التلاعب بإحساسنا بالذات؟

لنفترض أن مسؤولاً تنفيذياً يُدعى جبران يفتقر إلى مَلَكة المشاركة الوجدانية في تعامله مع الآخرين؛ فتجده، مثلاً، يتحدّث بأسلوب صريح للغاية بطريقة أقرب إلى الفظاظة عندما يقدم ملاحظاته للآخرين، ولا ينصت لهم جيداً. وقد حصل مؤخراً على ترقية توجب عليه التخلي عن أداء المهمات بنفسه وتحسين علاقاته بالكوادر البشرية من أجل خلق بيئة عمل إيجابية. يريد جبران تحسين مهاراته القيادية التي قيل له إنها مطلب لا غنى عنه لنجاحه في المستقبل، لكنه للأسف يجده مطلباً بعيد المنال. فماذا يفعل؟

لدى جبران خياران. يمكنه العمل على نفسه والالتزام بفعل كل ما في وسعه لتغيير أسلوبه القيادي من النموذج (أ) إلى النموذج (ب)، أو يمكنه التلاعب بمفهومه الذاتي من خلال “مغازلة” مجموعة متنوعة من الأساليب والمنهجيات والتخلي عن التمسك بنتيجة محدَّدة حتى يصبح أكثر دراية بمجريات الأمور. والفارق بين هذين النهجين دقيق وذو دلالة قوية في الوقت نفسه لأي شخص يسعى لتغيير أسلوبه القيادي.

دعونا أولاً نتخيل جبران يعمل على نفسه. تشمل الصفات التي تتبادر إلى الذهن أن يكون شخصاً دؤوباً وجاداً في العمل وضليعاً في تخصصه وقادراً على التفكير بطريقة منهجية ومنطقية ومنضبطة. وتستثير فكرة “العمل” معاني الدأب والكفاءة والواجب، مع التركيز على ما يجب عليك فعله، وبخاصة على النحو الذي يراه الآخرون، وليس ما تريد أنت فعله. وأستطيع أن أتصور إقدام جبران على إجراء تقييم منهجي لمواطن قوته وضعفه، وجمع الملاحظات حول الجوانب التي تستلزم التحسين ووضع أهداف ذكية (SMART) وملموسة ووضع جدول زمني واستراتيجيات لتحقيقها وربما الاستعانة بمدرّب متخصّص في علم النفس لبحث الأسباب الجذرية لضعف مستواه في مهارات التعامل مع الأشخاص ومراقبة تقدمه، وهلمّ جرّاً. ومع وضع نهاية واضحة في الاعتبار، يتابع تنفيذ هذه الإجراءات بطريقة منطقية خطوة بخطوة، سعياً لتحقيق تقدم ملموس. ثمة نتيجة واحدة لهذه الجهود؛ إمّا النجاح أو الفشل، وهو ما يدعونا إلى الحكم على أنفسنا.

والآن، دعونا نتخيّل أن جبران يتلاعب بإحساسه بذاته. ما الصفات التي تتبادر إلى الذهن الآن؟ تتبادر إلى الذهن الآن كلمات تعبّر عن شخصية نابضة بالحياة وتتمتع بحس الدعابة ومفعمة بالحيوية ومحبة للتنوع ومنفرجة الأسارير ومفعمة بالمرح والإقبال على الحياة. تثير فكرة “التلاعب” كلاً من الخيال ووفرة الإمكانات، أو ما يُعرَف باسم “الذات المحتملة“، وهو الوصف الذي أطلقه عالم النفس في جامعة ستانفورد، هازل ماركوس، على المزيج المتنافر من الصور التي تتشكّل في أدمغتنا جميعاً حول ما نستطيع تحقيقه. وأستطيع أن أتصور جبران يقول: “ليس لديّ أدنى فكرة عما يجب فعله، لكن دعونا نجرب شيئاً ونرى إلامَ سيقودني”. وإذا لم ينجح الأمر، فله مطلق الحرية في الانتقال إلى شيء مختلف تماماً؛ لأنه غير مضطر إلى الارتباط بنهجه الأولي. قد تستغرق عملية التجربة والخطأ بعض الوقت، لكن الوصول إلى خط النهاية أولاً ليس هدفاً في حد ذاته، بل الاستمتاع؛ فثمة إمكانية لأن تتخذ شخصياتنا في المستقبل الكثير من الوجوه المختلفة والمرغوبة، وبذلك فإن النتيجة ترتكز في المقام الأول على التعلُّم، وليس الأداء، ومن ثم فإننا نؤجل الحكم على أنفسنا.

وأياً كان النشاط الذي تشارك فيه، فإنك عندما تكون في وضع “العمل”، فهذا يعني أنك شخص هادف، بمعنى أنك تستطيع تحديد الغايات المنشودة والأهداف النهائية، وتحسب وقتك وتسعى إلى إيجاد حلول فعّالة. ولن تحاول الخروج عن المسار المحدّد. وسيبدو لك كل شيء خطراً للغاية وغير مفعم بالمرح. والأسوأ من ذلك أن كل حدث سيصبح اختباراً قد تنجح فيه أو تُمنى فيه بالفشل الذريع.

وعلى النقيض من ذلك، وبغض النظر عمّا أنت عليه، فعندما تكون في وضع “التلاعب”، فإن محفزاتك الأساسية تقوم على المرح والاكتشاف بدلاً من الغايات المنشودة والأهداف النهائية. وستكون شخصاً محباً للاستطلاع، وتفقد الإحساس بالوقت، وتتجوّل هنا وهناك بغية الاكتشاف. ولا تنطبق عليك حينئذٍ القواعد المعتادة لـ “الحياة الحقيقية”، لذا فلك مطلق الحرية في عدم الالتزام بالاتساق، وسترحب حينها بالخروج عن المسارات المحدّدة واتخاذ منعطفات جديدة. ومن ثم فإن التلاعب يزيد من احتمالية اكتشاف أشياء ربما لم تخطر على بالك مطلقاً في البداية.

وقد أثبتت أبحاث كثيرة أن التلاعب يعزز القدرة على الإبداع والابتكار. وقد وجدتُ أن الفوائد نفسها تتحقق عندما تتلاعب بمفهومك الذاتي. ويمكن تشبيه التلاعب بفكرتك عن نفسك بمغازلة الاحتمالات المستقبلية. وكما هي الحال في مختلف أشكال التلاعب، فإن الرحلة نفسها تصبح أكثر أهمية من الوصول إلى وجهة محددة سلفاً. ومن ثم فإننا نتوقف عن تقييم الذات اليوم وفق المهارات القيادية البعيدة المنال أو البطولية أو القائمة على منهج موحَّد غير قابل للتطبيق على أرض الواقع. ونتوقف أيضاً عن محاولة إرغام أنفسنا على “الالتزام” بأن نصبح شيئاً لسنا متأكدين من أننا نريده، وهو ما يسميه ماركوس “الذات الخائفة”، التي تتكون من صور لنماذج سلبية، كمدير سابق نخشى أن نكون مثله إذا ابتعدنا كثيراً عن قاعدة خبرتنا الفنية. ونغيّر الاتجاه من الامتثال لما يريده لنا الآخرون لكي نكون أكثر قدرة على صناعة شخصياتنا بالطريقة التي نريدها نحن. ونتيجة لذلك، فإنك عندما تتلاعب، ستكون أكثر إبداعاً وأكثر انفتاحاً على ما قد تتعلمه عن نفسك.

المشكلة أننا لا نحصل في كثير من الأحيان على إذن للتلاعب بإحساسنا بالذات، أو لا نسمح لأنفسنا بذلك. وكما أشار عالم الاجتماع المؤسسي، جيمس مارش، في مقالته الشهيرة حول التلاعب التي جاءت تحت عنوان تكنولوجيا الحماقة” (The Technology of Foolishness)، فإن التجارب ذاتها التي يبحث عنها الأطفال في اللعب هي المؤسسات المصممة لتجنب كلٍّ مما يلي: اختلال التوازن والإبداع والمفاجأة. ونحن نساوي بين التلاعب والهواية الدائمة لدى الشخص الذي ينغمس في مجموعة كبيرة ومتنوعة من الاحتمالات، دون الالتزام أبداً بأي منها. ونجد عدم الاستقرار أمراً مقيتاً، لذا نستبعد الخيارات التي تبدو بعيدة جداً عن “الذات الأصيلة” اليوم، دون أن نجربها أبداً. ويؤدي هذا إلى خنق النمو المتقطع الذي لا يتحقق إلا عندما نفاجئ أنفسنا.

ومن المفارقات العجيبة أن بحثي أثبت أن الطريقة الأكثر إنتاجية لتطوير مهاراتك القيادية هي الطريقة التي تبدو أكثر افتقاراً للفعالية في الظاهر. وتنطوي هذه الطريقة على تبني موقف أسميه “المغازلة الملتزمة“، من خلال تبني إمكانيات جديدة تماماً كما لو كانت معقولة ومرغوبة، ولكن مع الالتزام بتقمُّص شخصية تتخذ “وضع التلاعب”. وقد وجدتُ أن المغازلة الملتزمة تحرر أشخاصاً، مثل جبران، لفعل 3 أشياء من شأنها أن تساعده على أن يصبح قائداً أفضل:

عند تصنُّعالتلاعب، لا بأس في حرية الاستعانة بمصادر مختلفة 

من شأن السلوك المرح أن يحرر جبران من أن يكون “نفسه” بالطريقة التي يبدو عليها اليوم؛ إذ يسمح له التلاعب بتجربة السلوكيات التي شاهدها لدى مدراء وأقران أكثر نجاحاً، وربما استعارة عناصر مختلفة من الأساليب المتبعة لدى كل منهم لصنع أسلوبه الخاص، بدلاً من التشبث بشخصيته الأصيلة.

يؤدي التلاعب إلى تغيير عقليتك من التركيز على الأداء إلى التركيز على عقلية التعلم

أحد أهم الأسباب التي تجعلنا لا نحاول الخروج من منطقة راحتنا الحالية أننا نخشى أن يُصاب مستوى أدائنا في مقتل ويتراجع عن ذي قبل. وحينما ينظر جبران إلى الأمر بطريقة تنمُّ عن المرح، فإن هذا قد يساعده على عدم اتخاذ موقف دفاعي تجاه هويته القديمة، وذلك لأنه لن يتخلى عن “أفكاره الأساسية” ومظاهر نجاحه في الماضي، كل ما هنالك أنه يتمرّن على تحسين أسلوبه المعتاد.

التلاعب يولّد التنوع، لا الاتساق

من خلال تعطيل القاعدة الجوهرية للسلوك الثابت والموثوق، فإنه سيسمح لـ “ظلنا“، وهو الوصف الذي أطلقه كارل يونغ على الجوانب الخفية لطبيعتنا، بالتعبير عن نفسه على نحو دقيق. يمكن لجبران، مثلاً، أن ينضم إلى مشاريع جديدة وأنشطة غير رسمية، حيث يشعر في كلٍّ منها بحرية التدرُّب على السلوكيات الخارجة عن المألوف والبعيدة عن توقعات الآخرين. لا يحاول جبران أن يكون شخصية زئبقية متلونة؛ كل ما هنالك أنه يحاول تجربة طرائق مختلفة.

وقد قال المحلل النفسي، آدام فيليبس، ذات مرة: “يميل الناس إلى مغازلة الأشياء الجادة فقط، كالجنون والكوارث والآخرين”. وتُعد مغازلة نفسك مسعى جاداً في حد ذاته؛ لأن ما قد نصل إليه غير معروف ولا يمكن التنبؤ به منذ البداية، لذا يتصف الأمر بالجدية بطبيعته، كما أنه يشكّل عنصراً ضرورياً للنمو.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .