صقل المهارات وأثره على التخفيف من وطأة التداعيات الاقتصادية لكوفيد-19

6 دقائق
صقل المهارات
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

كيف يمكن صقل المهارات في أثناء الأزمات؟ تسببت جائحة “كوفيد-19” مطلع عام 2020 في تسريح ملايين العمال في مختلف أنحاء العالم نتيجة إغلاق قطاعات بأكملها، غير أننا لاحظنا في المقابل عدم تأثر كل القطاعات بهذا الانكماش، فقد شهد قطاع الرعاية الصحية، على سبيل المثال، زيادة في الطلب، وكذلك المدارس في بعض أنحاء العالم، بالإضافة إلى التجارة الإلكترونية، كما تشهد القطاعات المختلفة تحول العمال وتنقلهم فيما بينها باستمرار في ظل الظروف العادية، على الرغم من حدوثه بوتيرة أبطأ، ولكن في ظل جائحة “كوفيد-19” ظهرت حاجة مُلِّحة لزيادة وتيرة تلك التنقلات.

فقد ركزت عدة حكومات على توفير إعانات بطالة خاصة للعمال المفصولين، ولكنها تناست إعداد ما يكفي من البرامج لتدريب العمال وإغرائهم للتحول إلى القطاعات التي تعاني نقصاً في عدد العاملين بها. لا يمكن الزعم بأن هذا النهج يمثل عصاً سحرية لحل المشكلة برمتها، فقد انخفض طلب المستهلكين بصورة هائلة خلال الأشهر الماضية، ما يعني أن تقليص العمالة في بعض الحالات كان حتمياً، وحينئذ لا مفر من توفير إعانات البطالة، إلا أننا أضعنا فرصة سانحة لتخفيف وطأة الضربة التي تلقاها العديد من العمال في وقت حرج، حيث كان بإمكاننا إعادة التوازن بين العرض والطلب في قطاع القوة العاملة.

ولتصحيح هذا الخلل، نحتاج إلى آليات لإجراء تقييم سريع وعاجل لتحديد المهارات المطلوبة لإعادة تدريب العمال المفصولين، وهو ما يتطلب تعاوناً سريعاً وسلساً عبر مختلف القطاعات، حيث يصعب على القطاع الخاص أو الهيئات الحكومية التعامل وحدها مع هذه الأزمة.

وتقدم لنا السويد مثالاً يحتذى به في هذا النهج،

حيث نجح تحالف يتبع القطاع العام ويضم شركات ومؤسسات من القطاع الخاص في تحقيق هذا التحول الصعب خلال أسابيع قليلة، ويوضح لنا أوسكار ستيج أنغر، عضو مجلس إدارة شركة “الخطوط الجوية الإسكندنافية” المعروفة اختصاراً باسم “ساس” (SAS) التي كانت جزءاً من التحالف كيفية نشأة هذه المبادرة، فيقول: “كان لدينا اجتماع استثنائي لمجلس الإدارة بتاريخ 14 مارس/آذار وقررنا الاستغناء مؤقتاً عن 90% من إجمالي طاقم الطيران… كان هذا قراراً عسيراً، وحين تناقشنا أدركنا احتمالية وجود مجموعة كبيرة من الأفراد لا يفعلون شيئاً تقريباً، ولاحظنا في الوقت ذاته وجود نقص كبير في أنظمة الرعاية الصحية لدينا، فالوضع يشبه حالة الحرب إلى حد كبير، ورأيت من واقع خبرتي السابقة في صقل المهارات أن بإمكاننا إعداد برنامج تدريب قصير الأجل من شأنه إعدادهم لدعم الممرضات والأطباء، وجعلهم يتفرغون للمشاركة في المسائل الأهم”.

استطاع ستيج أنغر بعد قليل من التفكير اختراق بيئة العمل المحكمة التي تمتاز بها السويد، والتحدث إلى فريدريك هيليلسون الرئيس التنفيذي لشركة “نوفار هيومان كابيتال” (Novare Human Capital)، وهي شركة سويدية متخصصة في مجال الموارد البشرية والبحوث، والذي تواصل بدوره مع يوهانا أدامي رئيسة جامعة “صوفياميت” (Sophiahemmet)، وسرعان ما قرروا تصميم برنامج تدريبي مدته 3 أيام ونصف لإعداد مساعدي التمريض وأتاحوا هذا البرنامج لحوالي 1,100 موظف بأطقم الطيران بشركة “ساس” ممن سبق لهم تلقي التدريبات الطبية الأساسية ولديهم خبرة في التعامل مع الأفراد في الظروف الصعبة نظراً لطبيعة عملهم بصفتهم مضيفي طيران، وبالفعل تقدم المئات منهم للانضمام إلى البرنامج، وبعد مضي أسبوعين فقط من تسريحهم، وقع الاختيار على 30 فرداً في الإصدار التجريبي للبرنامج، والآن يعمل 300 فرد آخرين في قطاع الرعاية الصحية بالسويد من بينهم مضيفو الطيران وغيرهم من العاملين بقطاعات أخرى بعد حصولهم على تدريب مماثل. وتوسع المشروع منذ ذلك الحين ليشمل دور رعاية المسنين وتدريب 200 موظف آخر من المُسرحين من مؤسسات عريقة مثل “غراند أوتل ستوكهولم” (Stockholm Grand Hôtel) وفندق “كورتيارد ماريوت” و”ماكدونالدز”.

ولكن ظهرت احتياجات جديدة عقب الانتهاء من الدورة الأولى، ففي السويد ظلت معظم المدارس مفتوحة طوال الأزمة، وعانى الكثير من هذه المدارس أشد المعاناة نظراً لاضطرار أعداد كبيرة من الموظفين للبقاء في المنزل، ليس بسبب إصابتهم بفيروس كورونا وإنما لأنهم طُلب منهم البقاء في المنزل إذا ظهرت عليهم أي أعراض مرضية. وحضر حتى الآن 60 فرداً من جهات مختلفة دورة تدريبية قصيرة الأجل مدتها 3 أيام تشمل مجالات مثل التخطيط للدروس والمناهج التربوية رفيعة المستوى والمواقف التي نشهدها بصورة يومية داخل الفصول المدرسية، ويتولى جميعهم الآن منصب موظفي الدعم الإداري في المدارس في ستوكهولم، ويتولون مهمة مساعدة المعلمين المثقلين بالأعباء والتخفيف عن كاهلهم حتى يتمكنوا من التركيز على مهماتهم الأساسية.

وتتطور هذه المبادرة لتصبح نهجاً أكثر استدامة قد يستمر إلى ما بعد أزمة “كوفيد-19″، فقد صار برنامج صقل المهارات السريع عرضاً “موحداً” تقدمه جامعة “صوفياميت” بعد شهرين فقط من طرح الإصدار التجريبي.

وقد أسفرت هذه المبادرة الوطنية لصقل المهارات عن بعض الدروس القيّمة.

قوة الغرض

أشارت جميع الجهات الفاعلة ذات الصلة إلى الأثر الهائل الناتج عن قوة الغرض الذي أسهم في توحيد صفوفهم ومكنهم من المضي قدما سريعاً وبصورة غير تقليدية في كثير من الأحيان، وهو ما علقت عليه يوهانا أدامي قائلة: “لقد أدركتُ أهمية وجود غرض مشترك أسمى عند السعي لتحقيق شيء كهذا، إذ لن يتاح لك التوافق مع غيرك من المؤسسات ورجال السياسة والنقابات، ما لم تكن تسعى للغاية ذاتها التي يسعون إليها”. وفي السياق ذاته، أشار ستيج أنغر قائلاً: “كان الأمر مختلفاً هذه المرة، على الرغم من وجود أمثلة ناجحة في الماضي، فقد كان باستطاعة الجميع رؤية الغرض الأسمى، وهو ما بدا أقل وضوحاً في الماضي، فقد أتاح لنا هذا الغرض الراسخ إدراك الإمكانات الكاملة القائمة بالفعل لبيئة العمل”.

أهمية بيئة العمل

ونظراً للطبيعة المعقدة والشمولية لمبادرة صقل المهارات، لم يكن باستطاعة أي قطاع أو شركة أو حتى قطاع حكومي إدارة هذا التحدي منفرداً، بل كان لا بد من تعاون مختلف فئات المجتمع ممن تتوافر بينهم الثقة المتبادلة ويمتلكون القدر الكافي من المعرفة الجيدة. ومن منطلق إدراكه لأهمية طبيعة بيئة العمل المحكمة التي يمتاز بها موطنه، يقول ستيج أنغر: “تتبنى السويد المفهوم القائل بأننا سنحقق نجاحاً أكبر إذا استطعنا تحقيق التعاون بين الشركات والقطاع العام والأوساط الأكاديمية، لاسيما إذا انضم إليهم المشتغلون بالسياسة”، كما سلطت يوهانا أدامي الضوء على الأمر بقولها: “لسنا بحاجة لمشاركة القيم ذاتها بالضبط، ولكننا بحاجة إلى التوافق على ’الكيفية‘. وإن لم نفعل، ستتباطأ مسيرتنا وقد تتسبب في فشلنا تماماً”.

الشعور بضرورة تسريع عجلة الابتكار

لا شك أن الأزمة قد أفرزت تحديات غير مسبوقة، ولكنها أتاحت في الوقت نفسه فرصاً فريدة لتغيير النظام، ففي ظل الضغط الذي شهدناه والذي دفعنا للتصرف والتغلب على الروتين ولوائح العمل الصارمة والعقليات المقيدة التي كانت لتتسبب في إعاقة هذا النوع من المبادرات الجريئة في ظل الظروف العادية. ومع ذلك، كان لا بد من إدراك الفرصة واغتنامها، حيث تعاون الأفراد داخل بيئات العمل لإنجاح الأمر، وتحركوا سريعاً لإطلاق إصدار تجريبي بسيط وحرصوا على التعامل مع التحديات فور ظهورها، وهذا ما أكده هيليلسون بقوله: “قد يكون نظام السويد بطيئاً للغاية، وربما يمنعنا تضارب المصالح بين السلطات والنقابات والشركات من اتخاذ أي إجراء أو التصرف بسرعة كافية، ولكنني تمنيت أن تكون الأمور مختلفة هذه المرة بالنظر إلى الوضع الراهن الذي أمامنا، وهذا ما حدث بالفعل، وقد استفدنا أيما استفادة من طرح الإصدار التجريبي سريعاً على نطاق ضيق بدلاً من إطلاقه على نطاق واسع دفعة واحدة، وأثبتنا أن (صقل المهارات) يمكن أن يجدي نفعاً، واستخلصنا بعض الدروس حول كيفية القيام بذلك بشكل أفضل في المرة المقبلة”.

الاستفادة من الإمكانات غير المستغلة لصقل المهارات سريعاً

يُنظر إلى صقل المهارات عادة بصفته عملية طويلة الأجل تتطلب اختياراً موسعاً وتدريبات مكثفة واعتمادات من جهات معينة، ولا ننكر حاجة هذه المبادرة أيضاً إلى استيفاء بعض المتطلبات التالية، وإن كان لا بد من فعل ذلك بصورة أسرع: (1) تحديد الاحتياجات بوضوح (2) تحديد فئات العمال المتفرغين ممن يمتلكون مهارات مماثلة للمواصفات المطلوبة، مثل مضيفي الطيران الذين تلقوا التدريبات الطبية الأساسية ويمتلكون القدرة على التعامل مع الآخرين في المواقف العصيبة (3) تحديد المهارات الخاصة الضرورية والتي يمكن تدريسها سريعاً، نظراً لضيق الوقت الشديد، فصقل المهارات لا يمكنه تغطية جميع الجوانب التي تصلح لأن تكون جزءاً من دورة تدريبية نموذجية في هذه المجالات، (4) توزيع العمال المعاد تأهيلهم على الوظائف الجديدة (5) ضمان الوفاء بمعايير الجودة وضبطها حتى يرتقي هؤلاء العمال في وظائفهم الجديدة. وعلقت يوهانا أدامي على الإيقاع المتسارع لهذه العملية قائلة: “لقد أدركت أن حرص الشخص ورغبته في التعلم هو العنصر الأهم في صقل المهارات لأداء نوع محدد من الأعمال”. كما أكد فريدريك هيليلسون على الأهمية المحورية للشركات المشاركة، فقال: “كان من السهل التواصل مع المستشفيات لتوظيف العاملين لدى “ساس”، فهم يتمتعون بسمعة طيبة، ليس فقط لتلقيهم تدريبات طبية سابقة وامتلاكهم خبرة واسعة من العمل مع الأشخاص في ظل أصعب الظروف، ولكن ببساطة لما تمثله “ساس” بصفتها علامة تجارية قوية لجهات العمل”.

أهمية التمويل الخارجي الأولي

في البداية كانت هناك حاجة لتوفير الدعم المالي لتدريب العمال وتسهيل عملية المواءمة ومن أجل تعزيز صقل المهارات وإثبات صحة هذا المفهوم بسرعة، وجاء تمويل هذا النهج التجريبي ليمثل تحدياً للمؤسسات التي كانت تناضل بالفعل لمواجهة الأزمة، إلا أن “مؤسسة ماريان وماركوس والنبرغ” (Marianne and Marcus Wallenberg Foundation) قدمت التمويل الأولي لإعادة تدريب العمال الأوائل وتعيينهم في مناصبهم الجديدة، غير أن المستشفيات والمدارس بدأت فيما بعد تولي أمر التكاليف، بعد أن بات تحقيق فوائد ملموسة أمراً جلياً.

ومن المرجح أن تزداد أهمية حاجة المجتمعات لإضفاء السرعة على تحول العمالة وانتقالها بين قطاعات الأعمال نظراً لانقلاب أوضاع مختلف القطاعات مباشرة في أعقاب الأزمة. ويجب أن تفكر المجتمعات في كافة أنحاء العالم في طريقة لتسريع هذه التحولات من خلال برامج صقل المهارات، وتشير البرامج التجريبية في السويد، على الرغم من صغر حجمها، إلى إمكانية تحقيق النجاح.

اقرأ أيضاً:

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .