فخ فيسبوك: الفجوة الحاصلة بين رسالة الشركة والممارسات الفعلية

11 دقيقة
رسالة شركة "فيسبوك"
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: يعلن مارك زوكربيرغ أن رسالة شركة “فيسبوك” الواضحة هي تمكين الجميع من التواصل مع العالم. الوضوح جيد، لكن في حالة منصة “فيسبوك” فالشركة في مأزق لأن رسالتها ورؤيتها المتمثلة في خلق القيمة عن طريق الآثار المترتبة على وجود الشبكات أصبحتا مصدر أكبر مشكلاتها. مع انتقال شركة “فيسبوك” من السماح للأصدقاء الفعليين على أرض الواقع بالتواصل فيما بينهم عبر الإنترنت إلى إنشاء اتصالات وعلاقات عالمية جديدة (وكلاهما مثال عن الآثار المباشرة لوجود الشبكات)، وإلى وصل المستخدمين اليوم بمنشئي المحتوى المحترفين (الآثار غير المباشرة لوجود الشبكات)، فهي تتعرض اليوم لهجوم بسبب كثير من المشكلات بدءاً من انتهاك الخصوصية الفردية مروراً بتنمرها كشركة احتكارية على الشركات الصغيرة وصولاً إلى دفع مستخدميها إلى التطرف. والآن تواجه الشركة صعوبة في التوصل إلى حلول لا تقوض رسالتها، هذا ما يسميه المؤلف “فخ فيسبوك”. من أجل معالجة المشكلات التي خلقتها المنصة وغيرها من الشبكات الاجتماعية أيضاً، من المفيد أن نؤسس بوضوح الجهة التي ستقوم بمحاسبة الشركة. في حين يبدو منطقياً ممارسة الضغط من أجل إجراء تغييرات على طريقة عمل اقتراحات منصة “فيسبوك”، من الصعب تحديد طريقة تعامل المنصة مع الاتصالات الأساسية التي يرجح أن تستلزم فرض الرقابة على المستخدمين ومنعهم من إجراء الاتصالات التي يرغبون في إجرائها. شركة “فيسبوك” ليست الوحيدة التي تواجه معضلة الحاجة إلى تقويض رسالتها من أجل الحدّ من الضرر، وسيتعين على الشركات والحكومات تطوير استراتيجيات لطرق التعامل مع هذه المشكلة.

 

[su_quote cite=”رسالة شركة ‘فيسبوك'”]تتمثل رسالة شركة “فيسبوك” التي تم إنشاؤها في عام 2004 في منح الناس القدرة على بناء مجتمع وتقريب أطراف العالم وجمعها، ويستخدم الناس منصة “فيسبوك” للبقاء على اتصال مع الأصدقاء والعائلة واكتشاف ما يجري في العالم ومشاركة المسائل التي تهمهم والتعبير عنها.[/su_quote] [su_quote cite=” مارك زوكربيرغ، الرئيس التنفيذي والمؤسس الشريك لشركة ‘فيسبوك'”]رسالتنا هي تمكين جميع الناس من التواصل مع العالم.[/su_quote]

قد تختلف أكبر مشكلات شركة “فيسبوك” باختلاف الشخص الذي تسأله عنها؛ يقول النقاد إنها انتهاك الخصوصية الفردية أو التنمر على الشركات الصغيرة بصفتها شركة احتكارية أو إلحاق الضرر بصحة المراهقين النفسية أو التحريض على الثورات العنيفة، والقائمة تطول. ولكن مهما تبدو هذه المشكلات متنوعة فهي في الواقع جوانب متعددة لمشكلة أساسية واحدة كبيرة تحدق بنا مباشرة، وهذا يشمل الجميع من صناع سياسات وجمهور عام وموظفي شركة “فيسبوك” على حدّ سواء.

تم إنشاء شركة “فيسبوك” بهدف “تمكين جميع الناس من التواصل مع العالم”، بحسب ما قاله الرئيس التنفيذي مارك زوكربيرغ نفسه بوضوح وبصورة متكررة. لا حرج في هذا الهدف ظاهرياً، وفي الواقع هذا هو تحديداً الوضوح الاستراتيجي الذي يود أساتذة الاستراتيجية رؤيته لدى مزيد من الشركات، وعلى اعتبار أن هذا المفهوم الطموح هو الرؤية الإرشادية لقيادة شركة “فيسبوك” فقد تم ترسيخه بعمق في ثقافتها، والأهم من ذلك هو أن تمكين الناس من التواصل هو الأساس الجوهري لنجاح شركة “فيسبوك” على مدى 15 عاماً الماضية.

في مقررنا الدراسي حول استراتيجية التكنولوجيا، نعلّم الطلاب أن أهم محرك لخلق القيمة اليوم هو تأثيرات وجود الشبكات (network effects)؛ تنمو قيمتي الخاصة التي يولدها استخدامي لمنصات “فيسبوك” و”مسنجر” و”إنستغرام” و”واتساب” مع اعتماد المستخدمين الآخرين واستخدامهم لمنصة “فيسبوك”. وعن طريق التزام شركة “فيسبوك” برسالتها المتمثلة بتمكين الناس من التواصل فهي تسهّل قدراً كبيراً جداً من تأثيرات وجود الشبكات التي حفزت نمو الشركة العضوي وعززت مكانتها المهيمنة بين شبكات التواصل الاجتماعي.

لكن كما يرى الجميع اليوم فهذا الهدف الأساسي يولّد مجموعة كبيرة من الآثار السلبية التي تقع على جميع أجزاء مجتمعنا، ورسالة شركة “فيسبوك” المتمثلة في تمكين الناس من التواصل تدمر حياتهم أيضاً وتهدد مؤسساتنا القائمة. تواجه شركة “فيسبوك” تحدياً هائلاً، لأن إصلاح هذه المشكلات ليس بسيطاً بساطة إضافة المزيد من المراقبين لتحري خطابات الكراهية أو تغيير الأخبار المعروضة، بل يتطلب تغييراً جوهرياً في الهدف الاستراتيجي الأساسي للشركة. وبذلك نرى أن شركة “فيسبوك” في مأزق؛ فتأثيرات وجود الشبكات أدت إلى نجاح الشركة وهي الآن تهدد بمحو هذا النجاح، لكن الشركة لا يمكنها إيقاف المحرك الذي يحقق لها النجاح ببساطة. إذن، ما الذي يمكنها فعله؟

التطور الحتمي لشركة “فيسبوك”

يعني التزام شركة “فيسبوك” بهدفها الأساسي أن عليها الاستمرار بتمكين الناس من التواصل فيما بينهم وربطهم بطرق أقوى. يمكنها تنمية قاعدة المستخدمين وتمكين تواصل مزيد من الناس الذين لن يتمكنوا من التواصل لولاها، ويمكنها دفع قاعدة المستخدمين الحالية للتواصل بصورة مكثفة باستخدام منصة “فيسبوك” أكثر، أي عن طريق زيادة التفاعل. يعمل هذان الأمران على زيادة عائدات الإعلانات بصورة مباشرة، وهذا هو الوضع السائد الذي تحقق شركة “فيسبوك” القيمة عن طريقه، أي إنها تجني المال من قاعدة المستخدمين الذين يستخدمون منصة “فيسبوك” مجاناً، وقد كتبتُ عن هذا الأمر مع مؤلف مشارك.

تكمن المشكلة في أنه حتى لو كان دافع شركة “فيسبوك” هو خلق القيمة للمستخدمين عن طريق تمكين الناس من التواصل فقط ومن دون أن يكون لديها أي حافز لتحقيق القيمة عن طريق الإعلانات، فهي لا تزال على وشك مواجهة كارثة، والصعوبات التي تواجهها الشركة هي نتيجة أساسية لتمكين الناس من التواصل.

لفهم السبب دعنا نفكر في طرق تغير شركة “فيسبوك” منذ أيامها الأولى الشاعرية.

الأصدقاء القدامى

في البداية كانت منصة “فيسبوك” تتيح تواصل المستخدمين مع دوائرهم الاجتماعية الواقعية الموسعة، أي معارفهم المحليين. وبما أنني من أبناء جيل الألفية فقد انضممت إلى منصة “فيسبوك” في مرحلة الثانوية العامة على اعتبارها امتداداً لعلاقاتي القائمة بالفعل مع أصدقائي، وفي هذا العالم تسهّل منصة “فيسبوك” الآثار المباشرة لوجود الشبكات، أي توليد المحتوى المتبادل بين الأطراف؛ أنشئ محتوى موجهاً لأصدقائي وهم ينشئون محتوى موجهاً لي. قد أنشر بعض الصور من حفل التخرج، وقد ينشر أصدقائي صوراً مختلفة قليلاً من حفل التخرج نفسه، وسنكتب جميعنا تعليقات عن روعة مظهر الجميع في الصور. وحتى إن بدا أحد ما بمظهر سيئ في إحدى الصور، فلن يكتب له أحد شيئاً مثل: “ومع ذلك كان كلّ منا مضطراً إلى رؤية الآخر على أرض الواقع”.

كانت هذه النسخة من منصة “فيسبوك” مقيدة ببعض القيود المهمة: أولاً، لم تمكّني من الوصول فعلاً إلى أي شيء لم يكن بإمكاني الوصول إليه على أرض الواقع. عندما نما لدي الاهتمام بعمل تنسيق الموسيقى (دي جيه)، وهو اهتمام بمجال محدد، لم أتمكن من التواصل مع المحترفين في هذا المجال على المنصة لأني لم أعرف أياً منهم ضمن شبكة أصدقائي المقربين على أرض الواقع. ثانياً، كانت كمية المحتوى محدودة، لم يتوفر في المنصة سوى عدد كبير من صور حفلة التخرج. ثالثاً، لا يملك المستخدمون المنتظمون موارد لتوليد محتوى “عالي الجودة”، لم يكن بإمكان أحد تعديل كل هذه الصور على نحو احترافي. في هذا العالم كانت الروابط ضعيفة نسبياً بمعنى أنها لا تحقق الحالة المثلى للتفاعل الكثيف المستمر الذي يدفعني لاستخدام المنصة على نحو متواصل.

أصدقاء جدد

تمكنت شركة “فيسبوك” من حلّ هذه المشكلة عن طريق إدخال ملايين ثم مليارات من المستخدمين، ثم عملت على تسهيل تواصلهم مع الآخرين في جميع أنحاء العالم. وفجأة، عن طريق الآثار الأقوى لوجود الشبكات التي ولدتها قاعدة المستخدمين الأكبر، أصبح بإمكان المستخدمين أصحاب الاهتمامات بمجالات محددة الوصول إلى كتلة الزبائن الحرجة والتواصل معها، والآن يتوفر عدد كبير من خبراء تنسيق الموسيقى (الدي جيه) على منصتي “فيسبوك” و”إنستغرام” لأتواصل معهم.

لكن هذا التواصل العالمي ليس جيداً دائماً؛ المستخدمون ذوو الاهتمامات الخطرة على أنفسهم وعلى الآخرين يستطيعون التواصل فيما بينهم بسهولة وتعزيز اهتماماتهم هذه. فالمستخدم الذي يحمل أفكاراً انتحارية يستطيع اليوم طلب النصح من آخرين يحملون نفس أفكاره، والمستخدم الذي يملك آراء عنصرية يستطيع اختيار أن يحيط نفسه بعنصريين آخرين. وما إن يتمكن هؤلاء المستخدمون من الاتصال بالآخرين يصبح بإمكانهم التجمع وتشكيل كتلة حرجة وتنسيق النشاطات، وقد تتراوح هذه النشاطات ما بين النشاطات الحميدة نسبياً ولكنها مضرة، مثل خطط التسويق متعددة المستويات، وتنسيق فعاليات مثل هجوم 6 يناير/كانون الثاني على مبنى الكابيتول الأميركي عام 2021 الذي تم تنظيمه عبر العديد من شبكات التواصل الاجتماعي لكن أذكته مجتمعات الإنترنت المكونة من مستخدمين استهوتهم نظرية المؤامرة التي تهدف إلى تزوير الانتخابات الرئاسية.

لا أصدقاء

حدث تغيير مهم آخر أيضاً؛ مع تطور منصة “فيسبوك” بدأت بالاعتماد بشدة على الآثار غير المباشرة لوجود الشبكات. وبدلاً من أن يولّد الأقران محتوى متبادلاً أدت قاعدة العملاء الواسعة من مستهلكي المحتوى إلى تحفيز منتجي المحتوى “الاحترافي” للاستمرار بإنشاء المحتوى الاحترافي الذي يؤدي إلى استخدام منصة “فيسبوك” والتفاعل معها بصورة متواصلة.

تترتب عدة تبعات ضارة على الاعتماد على منتجي المحتوى الاحترافي في تحفيز الآثار غير المباشرة لوجود الشبكات؛ أولاً، يشجع النخبة من المشاهير وأشباه المحترفين “المؤثرين” على رسم صورة لا يمكن تحقيقها عن الجسد ونمط الحياة واعتبارها الصورة الطبيعية، الأمر الذي تقول أبحاث شركة “فيسبوك” نفسها إنه يؤدي إلى تفاقم الاكتئاب والقلق والأفكار الانتحارية لدى الشباب. ثانياً، يضفي الطابع الاحترافي على توليد روابط “طُعم النقر” (clickbait)، إذ تمتلك الشركات الإعلامية التقليدية والجهات المعادية بمجملها حافزاً لضخّ محتوى وعناوين رئيسية تستغل فضول المستخدمين وردود فعلهم العاطفية. ثالثاً، يمنح المتطرفين المحترفين القدرة على نشر رسائل خطيرة صريحة على نطاق واسع، خذ مثلاً تنظيم الدولة (داعش) الذي استخدم منصة “فيسبوك” بصورة فعالة في جهود تجنيد عناصره عن طريق نشر مقاطع فيديو للعنف البشع لقيت صدى لدى الشباب المتمرد.

التحدي الذي تواجهه شركة “فيسبوك” ونواجهه نحن كمجتمع هو أن كل ما يمكن أن تفعله شركة “فيسبوك” لحلّ “مشكلتها” يعمل بما يتضارب مباشرة مع الطرق التي تتبعها لخلق القيمة ومع رسالتها الأساسية. يطالب منتقدو شركة “فيسبوك” في الأساس بتمكين عدد أقل من الناس من التواصل وجعل تواصلهم أقل كثافة، لكن هذا ينتهك الفكرة الجوهرية لما اعتزمت شركة “فيسبوك” فعله دائماً؛ هذا هو فخ الفيسبوك.

تحدي المساءلة

ما الذي ستفعله شركة “فيسبوك” بشأن هذه المشكلة؟ وإلى أي درجة يمكننا كمجتمع تحميل شركة “فيسبوك” المسؤولية عنها فعلياً، سواء عن طريق الضغط الشعبي أو السياسة التنظيمية أو غيرها من الوسائل؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، دعنا نفكر في دور شركة “فيسبوك” في تسهيل الاتصالات التي ينشئها المستخدم بمقابل الاتصالات التي تنشئها الخوارزميات.

الاتصالات التي ينشئها المستخدم هي التفاعلات المباشرة بين الأطراف التي عملت المنصة على تسهيلها في البداية. عندما بدأت منصة “فيسبوك” كسجل لطلاب جامعة “هارفارد”، كان بإمكان المستخدم استعراض جميع الطلاب الآخرين واختيار عدد قليل ممن يود رؤية المحتوى الذي يشاركونه. كانت منصة “فيسبوك” التي تحتوي على اتصالات من إنشاء المستخدمين تقتصر على الاتصالات المحلية وتولد تأثيرات مباشرة لوجود الشبكات بنسبة أكبر.

لكن مع توسع المنصة تزداد صعوبة أن يدقق المستخدم في جميع المستخدمين الآخرين ويختار الاتصالات ذات القيمة الأكبر بالنسبة له، ولضمان أن تتمكن منصة “فيسبوك” من الوصل بين المستخدمين على نحو فعال استخدمت الاتصالات التي تنشئها الخوارزميات. يستخدم محرك الاقتراحات هذا البيانات التي يقدمها المستخدمون للمنصة في اقتراح أصدقاء ومجموعات جديدة ونشر الأخبار ونتائج البحث، هذا التدخل الجائر ضروري للسماح بتشكيل الاتصالات العالمية وتوليد الآثار غير المباشرة لوجود الشبكات، ولإتاحة التواصل الذي يرغب فيه المستخدمون وسيتفاعلون معه بقوة أكبر.

ما الذي يجعل التمييز مهماً؟

يساعدنا التمييز بين المشكلات الناتجة عن الاتصالات العضوية التي ينشئها المستخدم والاتصالات الناشئة عن الخوارزميات التي تستخدمها منصة “فيسبوك” على فهم ما يمكن تحميل شركة “فيسبوك” المسؤولية عنه بصورة معقولة، لكنه للأسف لا يوفر حلولاً سهلة.

يمكننا مساءلة شركة “فيسبوك” فقط فيما يخص اليد الثقيلة التي تستخدمها لتسهيل الاتصالات، حتى إن كان القيام بذلك يتعارض مع رسالة شركة “فيسبوك”. مثلاً، إذا قالت البيانات إن البعض يحبون التواصل مع طرف أو محتوى محرّض فليس من الضروري أن تلفت منصة “فيسبوك” انتباهي إلى هذا المحتوى، إذن فخيار عدم تعريض المستخدمين لمحتوى جديد لن يبحثوا عنه من تلقاء أنفسهم يعدّ خياراً مباشراً نسبياً.

تصبح مسألة تحميل المسؤولية أقل وضوحاً عندما نفكر في احتمال أن يقترح المحرك اتصالات يرغب فيها مستخدم معين بالفعل وفقاً لما كشفته البيانات المتعلقة بنشاط المستخدم الخاص. تتضمن رسالة شركة “فيسبوك” أن عليها السعي إلى تسهيل هذه الاتصالات عمداً، ولكن هذه الاتصالات ستعزز سلوك المستخدم ونظرته إلى العالم. وإذا أظهر مستخدم ذو ميول سياسية معتدلة اهتماماً بالقراءة عن الشؤون السياسية الوطنية، فما مقدار المحتوى السياسي الذي يمكن أن تقترحه منصة “فيسبوك” قبل أن يتحول إلى محتوى متطرف أو حتى خَطِر؟ نعم، يمكن لشركة “فيسبوك” وضع حدود لطريقتها في تقديم هذه الاقتراحات، وأحد الأسباب هو عدم قدرة المستخدمين على تحميل أنفسهم المسؤولية، لكن ليس لدى شركة “فيسبوك” حدوداً واضحة تلتزم بها.

بيد أن المساءلة الواضحة تصبح عديمة الجدوى تماماً عندما يقوم المستخدمون بإنشاء الاتصالات من تلقاء أنفسهم. للتعامل مع الاتصالات الإشكالية التي ينشئها المستخدم بنفسه، ستضطر منصة “فيسبوك” لفرض رقابة على المحتوى وحظر المستخدمين الذين ينشئون المحتوى الذي نعتبره إشكالياً. ثمة معايير واضحة، يجب منع التخطيط الصريح للنشاط العنيف بالطبع، لكن القسم الأكبر من المحتوى الضار المحتمل يقع في منطقة رمادية ضخمة. خذ مثلاً المنطقة الرمادية القاتمة المتمثلة في المحتوى المناهض للقاح؛ إذا أردنا مثلاً أن تفرض منصة “فيسبوك” الرقابة على المعلومات المضللة الصريحة، فما الذي يجب فعله بشأن المحتوى الدقيق القائم على الأدلة الذي يصف الآثار الجانبية للقاح؟ يمكن لمنصة “فيسبوك” تعديل خوارزميتها لإلغاء الاقتراحات المتعلقة بهذا المحتوى، ولكن إذا كان المستخدمون يبذلون قصارى جهدهم للعثور عليه فهل يمكن للمنصة أو يجب عليها فرض الرقابة عليه؟ وهل نرغب في أن تقوم بذلك؟

هذا هو أبرز ما تعاني منه شركة “فيسبوك”. كان سلوك الشركة متضارباً وعديم الشفافية بصورة متكررة فيما يتعلق بالطرق التي تتبعها لمراقبة المحتوى. حاول زوكربيرغ أن يحيل المسؤولية إلى لجنة شبه مستقلة للمراقبة، لكن النقاد يتهمون شركة “فيسبوك” بتعمد عدم منح اللجنة الموارد أو السلطة اللازمة للقيام بعملها بشكل شامل وفعال.

لكن هذا التهرب ينجم عن تحدي المساءلة المتأصل في الشبكات الاجتماعية. نعم يمكننا تحميل شركة “فيسبوك” المسؤولية عما تبذل جهدها لوصلنا به، لكن هل يمكننا تحميلها مسؤولية ما نبذل جهدنا للاتصال به؟ وعلى اعتبار شركة “فيسبوك” ملتزمة برسالتها المتمثلة بتمكين الناس من التواصل، من الواضح أنها لا ترغب في أن تتحمل مسؤولية الاتصالات التي يرغب فيها المستخدمون بحق بغضّ النظر عن اقتراح المنصة لها أو عثورهم عليها بأنفسهم.

ما الذي يمكن لشركة “فيسبوك” فعله؟

بصفتي أستاذاً للاستراتيجية فقد أكون أكثر تعاطفاً مع شركة “فيسبوك” من الآخرين. فهي تتبع استراتيجية لتمكين الناس من التواصل ولدت قيمة كبيرة، لكن هذه الاستراتيجية نفسها تدخل الشركة في كثير من المتاعب اليوم. ثمة مفاضلات صعبة على جميع الأطراف. ليس لدى شركة “فيسبوك” حل واضح برأيي، لكن أمامها 3 مسارات واسعة يمكنها اتباع أحدها، أو ربما كلها بصورة متزامنة.

التحدث عن المفاضلات بشفافية

في جهودها السابقة لإبراز المسؤولية، أشارت شركة “فيسبوك” ضمنياً إلى أنها تملك حلولاً للمشكلات التي تخلقها، لكن يبدو أنها لا تملك هذه الحلول حالياً. يتمثل أحد المسارات في التزام شركة “فيسبوك” بدرجة أكبر من الشفافية حول المفاضلات الأساسية التي تترافق مع استخدام شبكات التواصل الاجتماعي عن طريق نشر أبحاث توثق مسائل محددة، كمسألة صورة الجسد ومنصة “إنستغرام”، إلى جانب مناصرتها المستمرة للقيمة التي تترافق مع تمكين الناس من التواصل. يمكن أن تشكل هذه الرؤى دليلاً توجيهياً للجهات التنظيمية وتضع شركة “فيسبوك” في وضع جيد لأخذ القوانين في اتجاه يصب في صالح القطاع، ويمكن أن تشكل القوانين التي تفرض التزامات الامتثال المكلفة قيوداً على حرية دخول السوق التي تحمي الشركات القائمة مثل شركة “فيسبوك”، مثل قواعد“اللائحة العامة لحماية البيانات” (GDPR) في أوروبا.

تكثيف المراقبة على نطاق واسع

من أجل فرض رقابة شاملة على المحتوى بأكمله، سيتعين على شركة “فيسبوك” مواصلة تقدمها فيما يتعلق بالخوارزميات التي تتحرى المحتوى غير المرغوب فيه وزيادة عدد المراقبين من البشر إلى عشرة (أو عشرات) أضعاف عددهم الحالي. منذ عام 2020 وظفت شركة “فيسبوك” 15,000 مراقب بشري يراجع المئات من عناصر المحتوى يومياً، وستحتاج إلى أكثر من هذا العدد بكثير. سيكلف ذلك مليارات الدولارات، ولربما كان الأمر الأصعب بالنسبة للشركة هو يفرض عليها تحديد المحتوى الذي يجب فرض قيود عليه؛ فاحتضان المحتوى الذي ينشره شخص ما يعني فرض الرقابة على المحتوى الذي ينشره شخص آخر. ومع ذلك لا يمكن لأي جهد لفرض الرقابة فعل الكثير فيما يتعلق بالمحتوى الذي ينتشر في المحادثات المشفرة على منصة “واتساب” أو “مسنجر”.

تحمُّل المسؤولية على النحو الملائم

يجب أن تضع شركة “فيسبوك” حدوداً واضحة للجوانب التي تريد (وتستطيع) حمل المسؤولية عنها في منصتها، وتفويض المساءلة بوضوح إلى الحكومات والهيئات المستقلة والمستخدمين حيث لا تريد حمل المسؤولية. بالنسبة للاتصالات التي تنشئها الخوارزميات فهي غالباً عبارة عن عمليات داخل صندوق أسود، وسيكون من غير العملي تفويض تحمل المسؤولية عن هذه التكنولوجيا لأنها جزء أساسي من الملكية الفكرية لشركة “فيسبوك”، ولذلك يجب أن تستعد الشركة لحمل مسؤولية الاتصالات التي تعززها هذه الخوارزميات.

ولكن لم توضح شركة “فيسبوك” من هو المسؤول في الاتصالات التي ينشئها المستخدم وتضم محتوى غير مرغوب فيه، وعلى الرغم من أن مجلس الرقابة شبه المستقل يدفعها نحو تفويض المساءلة، فهذه العملية لا تزال غامضة وغير مكتملة؛ يقوم مجلس الرقابة بمراجعة القرارات المتخذة حول محتوى منصة “فيسبوك” بعد تقديم الطعون عليها، ولا يزال المجلس معتمداً مالياً على شركة “فيسبوك” وهو أصغر من أن يتمكن من العمل على نطاق واسع.

كي تتمكن شركة “فيسبوك” من المضي قدماً، يمكنها أن تتحمل المسؤولية بصدق عن طريق تكثيف جهودها في فرض الرقابة على نطاق واسع، أو منح هذه المسؤولية بصورة علنية تتسم بالمصداقية إلى سلطة خارجية، أو ترك هذه المسؤولية في أيدي المستخدمين الأفراد عن طريق اتخاذ موقف والدفاع عن رسالتها الأصلية المتمثلة في تمكين الناس من التواصل بحرية وبأي طريقة يريدون. تتبع الشركة حالياً هذه الإجراءات الثلاثة معاً بصورة غامضة، ليفضي الأمر إلى عدم حمل أحد المسؤولية على الإطلاق.

أكبر من “فيسبوك”

تعتبر شركة “فيسبوك” بمثابة مانعة صواعق مناسبة لصدّ الغضب، لكنها قد تختفي من على وجه الأرض غداً وسنستمر بمواجهة هذه المشكلات مراراً وتكراراً. يعتبر “فخ الفيسبوك” جوهرياً في الشبكات الاجتماعية ككلّ، وهو يعكس عواقب التكنولوجيا الرقمية التي تسهل إنشاء عالم قائم على التواصل؛

تطورت شركة “تويتر” على خطا شركة “فيسبوك” باستخدام الخوارزميات لإتاحة تواصل الناس حول العالم فتسببت بالعديد من العواقب السلبية التي تسببت بها “فيسبوك”، وقامت شركة “سناب” (تشات) (Snap)، التي كانت تعتمد في الأصل على تواصل الأصدقاء، بتغيير تصميم نظامها الأساسي بدرجة كبيرة بهدف تحفيز الآثار غير المباشرة لوجود الشبكات التي تزيد الوقت الذي يقضيه المستخدمون في مشاهدة المحتوى الاحترافي، وسرعان ما أصبحت شركة “تيك توك” شركة جبارة عن طريق استخدام خوارزمياتها التي تعتبر الأفضل في فئتها لوصل المستخدمين بالمحتوى الأكثر جاذبية على مستوى العالم من دون الحاجة إلى الاعتماد على شبكة من أصدقاء أرض الواقع.

يجب علينا جميعاً أن نفهم عواقب ما تعنيه إتاحة اتصال عدد أكبر من الناس بكثافة أكبر، وكي نتمكن من ذلك وتجاوز الفخ الذي وقعنا فيه، يجب على “فيسبوك” وجميع منصات الشبكات الاجتماعية الحالية والمستقبلية أن تفهم بصورة واضحة ما ستتحمل مسؤوليته. آن الأوان لتبدأ هذه الشركات، إلى جانب الحكومات والمستخدمين، بمعالجة “فخ الفيسبوك” بصورة مباشرة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .