كيف تتغلب على ثقافة الشعور الدائم بالانشغال؟

5 دقائق
ثقافة الشعور الدائم بالانشغال
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تزيد ثقافة الشعور الدائم بالانشغال في العمل من حدة المشكلات التي تعدُ بحلّها، سواء في المنزل أو في العمل. ومن الطبيعي أن نفترض أنّه كلما ازداد انشغالنا، ازداد التأثير الذي سنتمكّن من إحداثه؛ لكن في الحقيقة، أظهرت الدراسات أن ثقافة الشعور الدائم بالانشغال تقوّض الإنتاجية وتسرقنا من عائلاتنا وتمنعنا من تكوين علاقات أعمق مع زملائنا في العمل.

وكغيرها من ثقافات العمل الأخرى، تبدأ ثقافة الانشغال في المستويات العليا من الشركة، مع قادة يودّون أن يظهروا بمظهر القادة الناجحين والمهمين والمنتجين. إلا أن جذور ثقافة الشعور الدائم بالانشغال الضاربة في المستويات الدنيا هي ما يجعل التغلب عليها أمراً صعباً، وتتمثل في تنافس الموظفين المبتدئين للظهور بمظهر الموظف المجتهد التواق للمساهمة والحصول على ترقية.

وتوجد مشكلة أخرى أيضاً تتمثل في سهولة تجاوز الحدود التي تفصل بين العمل وبين حياتنا الشخصية، وذلك بفضل انتشار التقنيات التي تسمح لنا بالعمل والتواصل مع بعضنا البعض من أي مكان وفي أي وقت.

استراتيجيات لمكافحة ثقافة الشعور الدائم بالانشغال

ما الذي يمكن للقادة فعله إذاً لمكافحة ثقافة الشعور الدائم بالانشغال المضرة تلك؟ لا توجد إجابة سهلة عن هذا السؤال، ولكن يمكن للاستراتيجيات التالية أن تساعدنا:

تحفيز الموظفين على وضع حدود فاصلة بين العمل والحياة الشخصية

يجب على الشركات محاربة ثقافة الشعور الدائم بالانشغال وإبداء التزام واضح بتحقيق تلك الغاية. ويمثل مدح الموظفين ومنحهم أيام عطل إضافية بداية جيدة، لكن غالباً ما يُنظر إلى تلك الإجراءات أنها لفتات رمزية. ويبدو أن الحل الأمثل يتمثل في إعطاء الموظفين بعض المال لتحفيزهم على تقليل انشغالهم.

وعلى الرغم من أن هذا الحل يبدو غير منطقي، قد يكون هو الحل الأنسب لمشكلة أصبحت خطيرة. إذ يُرسل أكثر من أربعة أخماس الموظفين رسائل بريد إلكترونية مرتبطة بالعمل في أثناء عطلة نهاية الأسبوع. ويتّبع ما يقرب من 6 من كل 10 موظفين النهج ذاته في أثناء إجازاتهم؛ في حين يتفقد أكثر من نصفهم رسائل بريدهم الإلكتروني بعد الساعة الحادية عشر مساء.

وفي حال كنت قلقاً على صحة موظفيك ورضاهم وإنتاجيتهم، ستجدُ أن تلك السلوكيات تحمل بين طياتها مشكلات كبيرة. والخبر السار هو أنها سلوكيات يمكن للمدراء تتبعها واستخدامها بسهولة لحث الموظفين على وضع حدود فاصلة بين العمل والحياة الشخصية.

وقد اتبعت إحدى الشركات التقنية وهي شركة “فول كونتاكت” (FullContact)، ذلك النهج منذ سنوات، حيث يمكن للموظفين في الشركة الحصول على بدل إجازة سنوية قدره 7,500 دولار أميركي عند اتباعهم ثلاث قواعد بسيطة، ألا وهي: الإحجام عن التحقق من رسائل العمل والإحجام عن العمل والإحجام عن البقاء في المنزل أثناء الإجازات والعطلات (وحتى الإحجام عن ذلك أثناء الإجازات التي يقضيها الموظفون في المنزل). ويُطلق على ذلك التعويض في عالم الأعمال اسم “بدل إجازة مدفوعة الأجر”، ويجري صرف هذا البدل من خلال تنفيذ عدة خطوات تتمثل في مشاركة الصور الملتقطة أثناء الإجازة ومراقبة قناة التواصل والإبلاغ الذاتي.

ويقول براد مكارتي، مدير إدارة الاتصالات بالشركة في تعليق أدلى به لصحيفة “واشنطن بوست” بعد سنوات قليلة من إطلاق البرنامج أنه كان “ناجحاً للغاية”، وأضاف أنه عند عودة الموظفين من تلك الإجازات، كانوا “أكثر إشراقاً وعملوا بجد أكبر وكانوا أكثر حماساً للعودة إلى مزاولة أعمالهم المعتادة”.

ويوجد نهج شائع آخر يتمثل في منح إجازات تفرغ مدفوعة الأجر. ففي عام 2011، عرض 4% فقط من أصحاب العمل إجازات تفرغ مدفوعة الأجر لموظفيهم. وبحلول عام 2017، اتبع أكثر من أربعة أضعاف تلك النسبة من أرباب العمل النهج ذاته.

وبما أنه من غير الضروري دفع تعويض لفترة إجازة التفرغ غير المستخدمة عند انتهاء فترة التوظيف، ستكون الشركات قادرة على منح موظفيها سياسات أكثر سخاء في حال اعتبرت ذلك الوقت غير المستغل إجازة تفرغ بدلاً من إجازة اعتيادية. بالإضافة إلى ذلك، تُعتبر إجازات التفرغ وسيلة مقبولة ثقافياً ولاسيما في المجال الأكاديمي، وهدفها توفير وقت للموظف يتفرغ فيه لتطوير الذات دون أن يكون مرتبطاً بالعمل بشكل مباشر. وبالتالي، قد تكون استراتيجية تحويل الإجازات إلى إجازات تفرغ مفيدة في مساعدة الموظفين في تقليل مشاعر الحرج التي تنتابهم عند طلب إجازة.

التركيز على مساهمة الموظفين الجوهرية

لا بد لنا أن نرفض تأدية المهام التي لا تتماشى مع واجباتنا الأساسية لكي نحارب ثقافة الشعور الدائم بالانشغال، وعلى القادة أن يكونوا قدوة في هذا الصدد، إذ لن يشعر الفريق بالارتياح عند رفضهم أداء الواجبات الثانوية ما لم يروا القادة يقومون بذلك أولاً.

هل تستمتع بأيام العطلة عند حصولك عليها أم أنك تستغلها لأداء أعمال لا تُعتبر ذات أهمية كبيرة؟ هل تتخلى عن أداء المشاريع الثانوية في وقت مبكر، تلك المشاريع التي تكون مفيدة بقدر ما تخدم عملك الأساسي فقط؟ هل يعرف جميع زملائك في العمل واجباتك الأساسية؟ يجب على كل الموظفين أن يعرفوا ماهية واجباتك وأن يلاحظوا التزامك بها، حتى أولئك الذين لا تعمل معهم بشكل مباشر.

وغالباً ما يكون اتخاذ موقف صارم هو الأكثر فاعلية في هذا الصدد. يقول الخبير الاستراتيجي في شؤون القيادة غريغ ماكيون في كتابه الذي يحمل عنوان “‫العودة للجوهر: السعي المنضبط لبذل الأقل‬” (Essentialism: The Disciplined Pursuit of Less) أن محاربة ثقافة الانشغال وخلق بيئة عمل أكثر صحة وإنتاجية تتطلب من القادة أن يُبدوا موافقتهم على أهم 10% من المهام الموكلة إليهم فقط. أظهر من خلال أفعالك مدى أهمية واجباتك الأساسية ومقدار الأولوية التي توليها لتلك الواجبات، واجعل رفض الأعمال الإضافية شعارك في الحياة.

وهذا هو النهج الذي اتبعه المؤسس المشارك لشركة “سي دي بيبي” (CD Baby) ديريك سيفرز، إذ كان يرفض تأدية المهام الإضافية بشكل قاطع في حال لم تكن مهمة لدرجة تدفعه إلى الموافقة على أدائها دون تردد، ويدرك سيفرز أن ما يقوض عمله هو الفرص التي لا ترقى إلى مستوى القبول المطلوب وليس الفرص السيئة.

الاعتماد على المؤثرين الخارجيين

عادة ما تتطور ثقافات الشركات بشكل غير رسمي، وذلك من خلال تعزيز التفاعلات داخل الشركات وتواليها؛ ولا يمكن لأي فرد تغيير ثقافة مؤسسة كبيرة بمفرده. بل إن ما يُحدث التغيير بنجاح هو ضغط الأقران الإيجابي الذي ينتج عن العلاقات الاجتماعية بدلاً من التوجيهات الصادرة من القمة إلى القاعدة.

على سبيل المثال، تأمل الأسلوب الذي اتبعته شركة “بن آند جيريز” (Ben & Jerry’s) في حثّ العاملين لديها على استخدام غرف القيلولة. شعر الموظفون في البداية بالإحراج الشديد من استخدام تلك الغرف لدرجة أنهم استخدموا أسماء وهمية مثل “دونالد داك” على استمارة الاشتراك. وبعد إلغاء استمارة الاشتراك تلك، أدركت شركة “بن آند جيريز” وجود نظام أكثر بساطة يمكنه أن يُظهر للجميع أن الغرف قيد الاستخدام دون الكشف عن هويات مستخدميها. وأوضح المتحدث الرسمي للشركة بقوله: “إذا كان الباب مغلقاً، ستعلم أن الغرفة قيد الاستخدام”. وأدركت الشركة أن الأولوية القصوى تكمن في جعل استخدام الغرف خطوة مريحة للجميع دون أن يضطر الموظفون إلى حجز الغرف مسبقاً.

وفي مثال مشابه، كان مؤسس شركة “غاب وايرليس” (Gabb Wireless)، ستيفن دالبي، الذي التقيت به خلال انخراطي في عالم الأعمال غير الهادفة للربح، يجد صعوبة بالغة في إبقاء هاتفه بعيداً عنه بعد الانتهاء من العمل إلى أن سأله ابنه البالغ من العمر 6 سنوات سؤالاً حاسماً: “ما رأيك أن نلعب معاً يا أبي، أم أن هاتفك أهم مني؟” وعلى الرغم من أن الهدف وراء تأسيس شركة “غاب” هو مساعدة الشباب في قضاء وقت أقل أمام شاشاتهم، واجه ستيفن نفسه صعوبة في التوقف عن العمل على هاتفه. ولحل تلك المشكلة في الثقافة وفي نفسه وفي فريقه، شجع موظفيه على اتباع عادات يومية بسيطة، مثل تناول وجبات العشاء دون أي أجهزة؛ وتحدث عن وجبات العشاء تلك في العمل، مذكّراً موظفيه أن وضع حدود فاصلة بين العمل والحياة اليومية هو الهدف الأهم.

تتعرض جميع الشركات للانشغال، لكن سر النجاح يكمن في منع هذا الانشغال من أن يصبح انشغالاً ثقافياً مزمناً ومدمراً، بغض النظر عن مدى الإنتاجية أو الإيجابية التي قد يُسفر عنها ذلك الانخراط في العمل.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .