هل يمكن لشخصيتك أن تهدّد مسارك المهني؟

7 دقائق
تهديد المسار المهني
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

عندما نأخذ بالحسبان العوامل المطلوبة للنجاح في العمل، غالباً ما نركز على نقاط القوة الفطرية والمتأصلة: أي الذكاء الحاد، والقدرة على التعلم، وامتلاك الطموح لتحقيق الإنجازات، والمهارات الاجتماعية المطلوبة لتطوير علاقات قوية. لكن هذه الخصال دائماً ما تترافق بنقاط ضعف أخرى – وهي جوانب في شخصية الإنسان قد تبدو غير مؤذية، بل وتعتبر حتى بأنها ميزة في بعض الظروف، ولكن إذا ما تركت لتخرج عن السيطرة فإنها يمكن أن تترك آثاراً كارثية على المسار المهني أو على المؤسسة، فماذا عن تهديد المسار المهني للأفراد؟

قبل عقدين من الزمان، كان عالما النفس روبرت وجويس هوغان قد وضعا قائمة بهذه السمات والخصال “المتعلقة بالجانب المظلم” للإنسان، وهي عبارة عن 11 خصلة تتفاوت ما بين “المتحمس” و”المطيع”. ولكن إذا ما شابتها المبالغة، فإنها تصبح شبيهة بأكثر اضطرابات الشخصية شيوعاً (راجع الفقرة الجانبية بعنوان “تعريف الخصال المرتبطة بالجوانب المظلمة في شخصية الإنسان”). ومنذ ذلك الحين، أصبحت هذه الأداة التقويمية التي وضعها هذان العالمان تحت عنوان “استبيان هوغان لقياس التطور”، وحصلت على ترخيص من الشركة التي تحمل الاسم ذاته، والتي أعمل معها، تستعمل على نطاق واسع ضمن حقل علم النفس الصناعي والمؤسسي كأسلوب لتحديد احتياجات الأفراد في مجال التطوير.

بعد أن وضعنا قائمة تضم الملامح الشخصية لملايين الموظفين والمدراء والقادة، بتنا نعلم أن معظم الناس يُظهرون ثلاثاً على الأقل من هذه الخصال المرتبطة بالجانب المظلم في شخصيتهم، كما أن 40% منهم يحصلون في واحدة أو اثنتين من هذه الخصال على علامة مرتفعة بما يكفي لكي تعرّضهم لخطر حصول اضطراب في مساراتهم المهنية – حتى لو كانوا حالياً ناجحين وفعالين. والنتيجة تكون عبارة عن سلوك مضطرب ومتفشي في العمل.

تهديد المسار المهني

يميل القادة، مخطئين، إلى عدم النجاح في تقويم الجوانب المظلمة الموجودة لديهم شخصياً، وتحديداً بعد اكتسابهم للمزيد من السلطة والارتقاء على السلم الوظيفي. وينظر البعض إلى تطورهم المهني بوصفه تشجيعاً لعاداتهم السيئة أو نوعاً من المصادقة عليها. ولكن في نهاية المطاف، قد تتسبّب نقاط الضعف هذه في خروجهم عن السكة الصحيحة، وربما تخرج فرقهم ومؤسساتهم أيضاً عن السكة الصحيحة. على سبيل المثال، قد يعطي القادة “الحذرون” انطباعاً وهمياً بالسيطرة وإدارة المخاطر على المدى القصير، لكن الإفراط في الحذر قد يتسبّب بعزوفهم عن المجازفة إلى الحد الذي يجعلهم يعيقون التقدم والابتكار. كما أن كونك شخصاً “متحمس” قد يساعدك في إظهار الشغف والحماس تجاه زملائك ومرؤوسيك في العمل، لكن ذلك قد يجعل منك شخصاً متقلباً، لا يمكن التنبؤ بسلوكه، وهذا أمر مرهق للآخرين. وبالنسبة لـ “الاجتهاد” فإنه يساعدك في إيلاء الاهتمام للتفاصيل والسعي الحثيث لإنتاج عمل فائق الجودة، ولكن إذا زاد الاجتهاد عن حده فإنه قد ينقلب ويتحول إلى شكل من أشكال المماطلة والهوس بأداء الأشياء على أكمل وجه.

يشير بحث امتد على مدار عقود من الزمن حول موضوع تهديد المسار المهني إلى أنه من الصعب عليك تغيير الجوانب الأساسية في شخصيتك بعد عمر الثلاثين. ولكن من خلال الوعي الذاتي، وتحديد الأهداف بطريقة مناسبة، والمثابرة  بوسعك ترويض الجوانب المظلمة في شخصيتك في الأوضاع الحرجة، من خلال تغيير سلوكياتك.

فهم الجانب المظلم

يمكن تقسيم الخصال المرتبطة بالجانب المظلم لدى الإنسان إلى ثلاث فئات. في الفئة الأولى، هناك الخصال المُنفِّرة للآخرين. فالشخص “متحمس” والمزاجي، على سبيل المثال، يترك هذا النوع من الأثر على الناس. وكذلك هو حال الشخص “المتشكك” والذي يمتلك نظرة ساخرة تجاه الأمور، وهذا شيء يصعّب عملية بناء الثقة. والمثال الآخر هو الشخص “المتروّي” الفاعل والمنفعل الذي يتظاهر بأنه مرتاح ومؤدب، لكنه فعلياً يقاوم التعاون بل ويمارس الطعن في الظهر.

الخصال المرتبطة بالجوانب المظلمة للأفراد

خصال التملق

أما الخصال الموجودة في الفئة الثانية، فهي في المقابل، الخصال المغرية للآخرين والتي ترمي إلى جذب انتباههم. وغالباً ما تكون موجودة لدى القادة الحازمين من أصحاب الكاريزما الذين يجمعون الأتباع من حولهم أو يكسبون الحظوة لدى مدرائهم من خلال قدرتهم على “شق طريقهم نحو الأعلى”. لكن هذه الخصال قد تنطوي أيضاً على تبعات سلبية لأنها تقود الناس إلى المبالغة في تقدير قيمتهم الذاتية وإلى التحليق عالياً جداً. ومن الأمثلة الجيدة على ذلك الأشخاص “الجريئون” والواثقون إلى حد الغرور؛ والأشخاص “الأشقياء” الذين يمتلكون شهية كبيرة للمجازفة المتهورة.

تحتوي الفئة الثالثة على خصال التزلف والتملق، والتي يمكن أن تكون ذات دلالة إيجابية عند الإشارة إلى الأتباع، لكنها نادراً ما تكون ذات معنى إيجابي عندما يوصف القادة بها. فالموظفة المجتهدة، على سبيل المثال، قد تحاول ترك انطباع إيجابي لدى مديرها من خلال الاهتمام الدقيق بالتفاصيل الصغيرة، لكن ذلك قد يُترجم على شكل انهماك بالمسائل المتناهية الصغر أو إدارة أدق التفاصيل نيابة عن مرؤوسيها. كما أن الشخص المطيع الذي يتوق إلى إسعاد من هم في السلطة يمكن أن يتحول بسهولة إلى شخص خاضع ومنقاد ومذعن.

ليست كل الصفات المرتبطة بالجانب المظلم متساوية. ففي تحليل عالمي شمل أكثر من 4,372 موظفاً يشغلون 256 وظيفة في عدد من القطاعات، تبيّن بأن الخصال المنفّرة كانت تترك وباتساق آثاراً سلبية على مواقف الفرد من العمل، وعلى أسلوبه القيادي، وآلية اتخاذ القرارات لديه، ومهارات التواصل الشخصي مع الآخرين (والتي تمثلت في حصوله على تقويمات أداء سيئة وعلى نتائج سلبية في المراجعات الشاملة (مراجعات 360 درجة كما تسمى). لكن الخصال المغرية كانت في بعض الأحيان تترك آثاراً إيجابية. فعلى سبيل المثال، غالباً ما يحصل القادة “النابضون بالحياة” والباحثون عن الاهتمام على علامات أفضل من مدرائهم بالمقارنة مع نظرائهم الأكثر “تحفظاً”. كما أن الرؤساء التنفيذيين “الشجعان” والشديدي الثقة بأنفسهم يحققون مستويات أعلى من النمو في مشاريعهم الريادية. وتختلف الخصال المرتبطة بالجانب المظلم في تبعاتها. فالقائد “الشقي” المجازف المعرّض للضغوط لتحقيق نمو مالي يمكن أن يدمّر مؤسسة بأكملها بقرار واحد متهور. ويمكن للقائد المتحمس وببساطة أن يدمر مستقبله المهني بنوبة غضب عارم علنية واحدة.فريق عمل يمضي إلى الأمام

من الجدير بالذكر حول موضوع تهديد المسار المهني أن الغياب الكامل لهذه الخصال يمكن أن يكون مؤذياً أيضاً. فالمدير الشديد الهدوء والتهذيب، وذو المزاج المستقر وغير المتقلب – أي الشخص الذي أبعد ما يكون عن الانفعال – يمكن أن يُنظر إليه بوصفه شخصاً مُضجراً أو غير ملهم. وبالتالي، فإن الأمر الأساسي هو ليس في تخلصك من نقاط الضعف الموجودة في شخصيتك، وإنما في إدارتها وتسخيرها لخدمتك. فالعلامة الصحيحة قلما تكون هي الأدنى أو الأعلى، وإنما العلامة المعتدلة.

كيف تتعامل مع الجوانب المظلمة في شخصيتك

إذا لم تكن قادراً على استكمال تقويم نفسي كامل بهدف تحديد العوامل التي يُحتمل أن تخرجك عن مسارك المهني، بمقدورك إجراء اختبار على نسخة مختصرة (باللغة الإنجليزية) من “استبيان هوغان لقياس التطور “على الموقع الإلكتروني  (www.hoganx.io)، (والذي يتطلب التسجيل في الموقع)، أو بوسعك ببساطة أن تقارن أنماط سلوكك المعتادة مع الملامح الأساسية للخصال المبيّنة في الفقرة الجانبية في هذه المقالة. لا بل أفضل من ذلك: أطلب من مدرائك، وزملائك، ومرؤوسيك وزبائنك أن يقدموا لك رأياً تقويمياً صادقاً ونقدياً بخصوص مدى ميلك إلى إظهار هذه الخصال. قل لهم بأنك تريد تحسين نفسك وبأنك بحاجة إلى صراحتهم. اسألهم كيف يرونك عندما لا تكون في أفضل حالاتك؟ هل تبدو أي من الخصال مشابهة لك قليلاً (أو كثيراً)؟ بوسعك أن تذكر نمطاً لاحظته أو كان الآخرون قد علقوا عليه. وبمقدورك أن تحسّن وعيك الذاتي من خلال الآليات الرسمية لتلقي الآراء التقويمية، مثل تقويمات الأداء، ومراجعات 360 درجة، وكذلك من خلال التدقيق في الأمر مع مديرك، ومن خلال جلسات الإحاطة الخاصة بالمشاريع. والعنصر الأساسي الذي يمكّنك من جمع معلومات دقيقة هو أن تدرك بأن الناس يميلون عموماً إلى تحاشي تقديم الآراء النقدية، وخاصة إلى القادة، ما لم تكن السلوكيات فظيعة جداً. لذلك، إضافة إلى طمأنتهم بأنك ترحب بآرائهم التقويمية الصريحة، يجب أن تصغي إليهم بإمعان بحثاً عن أي ملاحظات نقدية تقال بأسلوب مهذب غير مباشر أو عفو الخاطر.التحول لشخص منضبط

تذكّر أيضاً بأن الناس المقرّبين منك في حياتك الشخصية أكثر اطلاعاً على الأغلب من زملاء العمل على الجوانب المظلمة في شخصيتك، لذلك اطلب رأيهم الصريح أيضاً. فأنت غالباً ما تظهر أفضل سلوكياتك في مكان العمل. أما في حياتك الخاصة، وعندما تكون مرتاحاً للتصرف على سجيتك، ولا تكون مقيّداً نسبياً باللياقات الاجتماعية، لذا تكون أميل إلى إبداء خصالك الحقيقية.

من الأهمية الكبرى بمكان تحديد مناطق الخطر من أجل ضبط موضوع تهديد المسار المهني لدينا. فمع تغيّر وضعك – كأن يتغير مديرك، أو أن تحصل على ترقية، أو أن تبدل شركتك التي تعمل فيها – فإن بعض الخصال المختلفة التي قد تخرجك عن مسارك المهني قد تصبح أكثر بروزاً، والسياق هو الذي سيقرّر ما إذا كانت هذه الخصال أكثر أم أقل إشكالية. على سبيل المثال، حصولك على علامة مرتفعة في صفة “واسع الخيال” قد يكون أمراً مفيداً إذا كنت تتولّى منصباً يعتمد على الابتكار، أو إذا كنت تعمل تحت إمرة مدير من رواد الأعمال، لكنه سيكون بمثابة خصلة مقلقة إذا كنت تعمل في مجال إدارة المخاطر أو كان مديرك شخصاً محافظاً. كما أن التوتر يُبرز إلى السطح الخصال المرتبطة بالجانب المظلم لدى الإنسان من خلال الضغط على الموارد الذهنية، حيث يجعلنا أقل قدرة على ممارسة ضبط النفس المطلوب من أجل السيطرة على أسوأ النزعات الموجودة لدينا. وعندما نكون معرضين لضغوط ضعيفة جداً – أي عندما نكون في حال استرخاء كبير – فإننا قد نُظهرُ بعض الخصال المظلمة التي ننجح في إخفائها عندما نكون أكثر تركيزاً.

تتمثّل الخطوة التالية في استباق هذه العناصر التي تخرجك عن مسارك المهني بتغيير سلوكك من تلقاء نفسك. ربما ينبغي عليك أن تتلمّس طريقك نحو ذلك من خلال الخطوات التقريبية المتتالية – مثل تتبّع تصوّرات الآخرين، وإطلاق الأحكام السليمة، وممارسة قدر أكبر من القياس، وهكذا دواليك. ولا يتمثل الهدف هنا في إعادة بناء شخصيتك، وإنما في السيطرة عليها في الأوضاع الحرجة.

التقدم في المسار المهني

قد ينطوي التغيير على الانخراط في سلوك جديد. على سبيل المثال، إذا كنت شخصاً شديد “المحافظة”، مما يجعل الآخرين في حالة دائمة من التساؤل عما يدور في رأسك، التزم بأن تُسمِعَ صوتَك مرة واحدة في كل اجتماع، أو أن تستعمل البريد الإلكتروني لإيضاح أفكارك بخصوص المسائل الحرجة، أو أن توصل رأيك عبر الآخرين. وقد تعمل أيضاً على التخلص من بعض السلوكيات. فعلى سبيل المثال، إذا كنت شخصاً “نابضاً بالحياة”، فقد ترغب في تحاشي جلسات النميمة واللغو والقيل القال التي تحصل في أروقة الشركة مثلاً، أو قد تمتنع عن التطوع لتقديم عروض هامة بحيث يتمكن أحد زملائك أو مرؤوسيك من أن يتقدم إلى الواجهة. ربما قد تُشعرك هذه التغيرات بحالة من عدم الارتياح في بادئ الأمر، لكن كلما تمرنت أكثر، كلما ستشعر بأن هذه السلوكيات الجديدة طبيعية، وكلما زاد احتمال أن تصبح بمثابة العادة لديك.

إذا ما أردت السيطرة على خصال الجانب المظلم لديك على المدى البعيد، فإنك بحاجة إلى النظر إلى إدارة سمعتك بوصفها قضية مركزية في تطوّرك. قد يبدو ذلك بمثابة استراتيجية سطحية للتغيير، لكن تقدّمك على مسارك المهني هو أمر مرتبط بنظرة الناس إليك. وعندما تؤثر خصال الجانب المظلم لديك على تصوّرات الناس عنك، فإنهم يتحوّلون إلى عوائق تقف حجر عثرة أمام نجاحك المهني وحُسن قيادتك. والمؤسف في الأمر، أن الزلات البسيطة حتّى – مثل تجاهل آراء الآخرين السلبية عندما تكون “جريئاً”، أو الرد بتهوّر على رسالة إلكترونية غير سارّة عندما تكون “متحمس”، أو الانسياق وراء الأفكار الغريبة عندما تكون “واسع الخيال” – يمكن أن تلحق ضرراً كبيراً بسمعتك.

المؤكّد في الأمر حول موضوع تهديد المسار المهني للأفراد، هو أن ترويض الجانب المظلم داخلك يتطلّب بذل جهد كبير. ومعظم الناس لا يريدون أن يتغيّروا حقاً، وإنما يريدون أن ينظر إليهم على أنهم “قد تغيّروا”. ولكن إذا استطعت تحديد الخصال والصفات التي تتسبّب في تعثّرك، واستمريت في تعديل سلوكك استجابة للآراء النقدية الموجّهة إليك، فإنك سوف تعزّز سمعتك إلى حدٍ كبير، وسوف تعزّز معها مسارك المهني المستقبلي وقدراتك القيادية الكامنة.

اقرأ أيضاً:

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .