من النادر أن يكون نقص الأفكار العقبة الكبرى التي تواجه الابتكار في الشركة، فقد أجرت شركتي استطلاعاً للمبتكرين في الشركات، وقال 6% منهم فقط إن أكبر مشكلاتهم هو عدم توافر ما يكفي من الأفكار، لكن لا تحمل الأفكار كلها القيمة نفسها، وقد تأخذ الأفكار الضعيفة أو المكررة اهتماماً أكثر من اللازم. في كثير من الأحيان، تشمل هذه الأفكار عدة أقسام وترتبط بالاتجاهات الناشئة، وتتطلب العمل على تنميتها والتعاون في تنفيذها مع جهات خارجية. المهم هو اختيار الأفكار الملائمة ودعمها وتطويرها.
ما الذي عليك فعله إذاً؟
خلال البحث الذي أجريته من أجل كتابي "القائد المبتكر: دروس تفصيلية من أفضل المبتكرين لك ولمؤسستك" (Innovative Leader: Step-by-Step Lessons from Top Innovators for You and Your Organization)، تبينت لي 4 ركائز للابتكار، وأجريت بالتعاون مع شريكيّ في تأليف الكتاب، جنيفر لو لاو وهاري ناير، مقابلات مع 50 قائداً في مجموعة متنوعة من القطاعات، من شركات التكنولوجيا الكبرى مثل جوجل ومايكروسوفت إلى الرئيس التنفيذي لأكبر بنك ومدير التعليم في المدارس الابتدائية في سنغافورة، ولاحظنا أن أنماط الابتكار الناجح تتكرر في بيئات متميزة للغاية.
إذا كنت تواجه صعوبة في تبني الأفكار الملائمة، فإن هذه الركائز تحسّن فرصك في الحصول على أفكار عالية الجودة في مسارك نحو الابتكار.
استشعار الاتجاهات
عادة ما تتبع الشركات الاتجاهات السائدة (الترند)، لكن العديد منها ينتظر حتى يكون الاتجاه قد قطع شوطاً كبيراً في دورة حياته، وهذا قد يكون مكلفاً ومحفوفاً بالمخاطر؛ فقد يكون الاتجاه أثّر في القيم السوقية فعلاً، وربما بلغ ذروته. على سبيل المثال، اشترت شركة نستله شركة جيني كريغ ( Jenny Craig) للأنظمة الغذائية الخالية من الدهون في عام 2006 مقابل 600 مليون دولار تقريباً، ولكن هذا القرار جاء بعد ابتعاد اتجاهات فقدان الوزن عن الأنظمة الغذائية القليلة الدهون وفقاً لاكتشافات جديدة في علم التغذية. وبعد 7 سنوات، باعت شركة نستله شركة جيني كريغ بسعر رخيص، حيث تخلّت عن العديد من العلامات التجارية ذات الأداء الضعيف.
هناك أوجه أخرى للفشل في استشعار الاتجاه السائد، فقد تناقش الشركات الاتجاهات بصورة مجردة، مثل شيخوخة السكان، دون ربطها بتغيرات محددة في احتياجات العملاء، أو قدرات الموردين، أو التحديات التشغيلية، أو الضغوط التنافسية. وبدلاً من ذلك، قد يصبح استشعار الاتجاه السائد سبيلاً للمتعنتين ليفرضوا آراءهم الخاصة على القطاع ويستخلصوا نتائج استراتيجية مهمة بناءً على إشارات غامضة، مثل قول إن نمو الذكاء الاصطناعي يتطلب من الشركات تطوير المزيد من قدرات تكنولوجيا المعلومات داخلياً. يمكن أن يؤدي ذلك إلى أخطاء باهظة الثمن، حيث تدفع الشركات مبالغ زائدة مقابل أصول تتبع اتجاهاً سائداً ولكنها تفتقر إلى نقاط قوة أخرى مثل التمايز التنافسي أو الاقتصادات المواتية. ربما كان أكثر اندماج كارثي على الإطلاق هو اندماج شركتي تايم وارنر (Time Warner) وأيه أو إل (AOL) خلال فترة فقاعة الدوت كوم.
ما يجب فعله بدلاً من ذلك
في المقابل، لنأخذ شركة بيبسيكو (PepsiCo) المتعددة الجنسيات الرائدة في مجال الأغذية والمشروبات، التي أقامت مسابقة لعلامة رقائق البطاطس ليز (Lay’s) بين عامي 2012 و2018، بحثاً عن أفكار من المستهلكين حول النكهة الجديدة التالية. لم تكن الشركة في الواقع بحاجة إلى أفكار جديدة إذ كان لديها العديد من الأفكار، ولكن هذه كانت طريقة ممتازة لتحديد النكهات الرائجة حينها والأسواق المهتمة بها (فازت في السنة الأولى نكهة الخبز بالثوم مع الجبنة).
في نهاية المطاف، كانت شعبية البرنامج الكبيرة أحد أسباب إنهائه، إذ كانت الشركة تتعامل مع نحو 3.8 ملايين مشاركة سنوياً، ما تطلب الكثير من الجهد والوقت. مثّلت المسابقة برنامجاً فعالاً لاستشعار الاتجاه، إذ أظهر الاتجاهات السائدة مباشرة ولم يكن مكلفاً وأنتج آثاراً محددة وكان موضوعياً. سواء كنت ترعى مسابقة، أو تذهب لاستكشاف الفرص في مؤتمرات تتعلق بالقطاعات المجاورة، أو تتحدث إلى المستخدمين الأكثر شغفاً لمنتجك أو تتبنى طرقاً أخرى؛ هذه هي المعايير التي تقود عمليات البحث الفعالة عن الاتجاهات السائدة.
الشراكات الاستراتيجية
ليس عليك أن تحصر الابتكار بفريقك أو مؤسستك، فقد تنتج الابتكارات العظيمة عن التعاون مع الموردين أو العملاء أو الجامعات أو الشركات الناشئة أو الشركات التي تستخدم التكنولوجيا ذات الصلة، بطريقة مختلفة تماماً.
على سبيل المثال، كانت شركة الجينز ليفاي شتراوس (Levi Strauss) تتعاون مع شركة جوجل لمعرفة ما يمكن أن تحققه الملابس الذكية للمستخدمين، لكن هذا يتطلب العمل بتركيز وتفانٍ، وهذا يعني أن عليك العثور على أفراد داخل الفريق يمكنهم إنجاز المهمة الطويلة الأمد المتمثلة في بناء العلاقات وإجراء محادثات تأملية، وتحديد القدرات التي قد لا تكون واضحة على الفور لدى الشركاء. لكن إياك أن تفعل مثلما فعلت شركة ياهو، التي رفضت التعامل مع شركة طموحة جديدة تتباهى بنموذج أعمال مختلف، ألا وهي شركة جوجل.
ما يجب فعله بدلاً من ذلك
راقب المتخصصين في الشراكات التكنولوجية الاستراتيجية واطلب منهم العمل بالتعاون مع فرق العمل الأساسية التي يمكنها الاستفادة من هذه الشراكات لتحقيق الابتكار. على سبيل المثال، يمتلك العديد من شركات الأدوية هذا النوع من مكاتب الشراكة بالقرب من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، وهو نهج يمكن لمجموعة واسعة من القطاعات تكراره. ويسهّل تعاون شركة جونسون آند جونسون (Johnson & Johnson) مع الجامعات الاستثمارات والشراكات البحثية ويوفر أيضاً مختبرات وخدمات دعم للشركات الناشئة الواعدة دون الحاجة إلى شراء حصة في الأسهم، يمنح ذلك شركة جونسون آند جونسون ميزة الاستفادة من الفرص المستقبلية في الشركة الناشئة عند ظهورها. وكانت ثمار البرنامج كبيرة، فمنذ عام 2023، أسفرت 840 حالة احتضان للشركات في هذه الشبكة عن عقد أكثر من 290 صفقة أو شراكة مع شركة جونسون آند جونسون.
برامج رواد الأعمال الداخليين
ماذا يفعل الموظفون أصحاب الأفكار الكبيرة؟ في كثير من الأحيان يضطرون إلى تقليص أفكارهم حتى تحصل على الموافقة، أو يغادرون المؤسسة ببساطة. يشهد التاريخ كيف ترك ستيف ووزنياك شركة آتش بي (HP) لأنها لم تهتم بتصميمه الأولي لجهاز الكمبيوتر الشخصي، آبل 1، إذ رفضته 5 مرات. قد تتردد المؤسسات التي تركز على أعمالها التجارية الأساسية وأنشطتها اليومية في تطبيق الأفكار لأنها لا تناسب نموذجها التشغيلي وقد تستنزف الموارد وتستغرق وقتاً طويلاً جداً لتؤتي ثمارها. ولمواجهة هذه التحديات، تحتاج الشركات إلى توفير طريقة منظمة لرواد الأفكار لبناء مفاهيمهم دون المبالغة في الالتزام بها قبل أن تصبح جاهزة.
ما يجب فعله بدلاً من ذلك
ادعم رواد الأعمال الداخليين (أي رواد الأعمال داخل الشركة): يتمتع موظفو شركة جوجل، الذين قد يميلون إلى المغادرة وإنشاء شركاتهم الناشئة، بخيار التنافس للحصول على التمويل وفرصة العمل على مفاهيمهم مدة 6 أشهر، مع ضمان قدرتهم على استعادة وظائفهم القديمة بعد ذلك. تعتمد الإدارة في تقييمها للأفكار على أساس عدد الموظفين الذين يختارون العمل عليها، وإذا فشل المشروع، فلن تعاقب الأفراد المسؤولون عنه. إن البريد الإلكتروني جي ميل (Gmail) مثال رائع لكيفية دعم جوجل لرواد الأعمال الداخليين، فعندما أجرينا مقابلة مع نائب الرئيس للاستراتيجية والعمليات التجارية في جوجل، مات فوكون، أخبرنا بأن هذا هو المشروع الوحيد الذي جعله يؤمن بأن الشركة جادة بشأن الابتكار.
مجتمعات الابتكار
غالباً ما تحدث الابتكارات عندما يجتمع أفراد بخبرات مختلفة ويتبادلون الأفكار، لكن شركات عديدة تفتقر إلى الطرق التي تتيح للمبتكرين التواصل بصورة عفوية وغير رسمية، الأمر الذي يصعّب الابتكار. غير أن تزويد الأفراد ذوي الاهتمامات الابتكارية المشتركة بوسيلة للتواصل وتبادل الأفكار لا يكلف الكثير من المال والوقت، وهو يساعد في تحفيزهم على أقل تقدير، وفي أحسن الأحوال قد يؤدي إلى ظهور أنواع جديدة من التعاون المتعدد التخصصات، ما يفتح المجال أمام عوامل التغيير التي لم تكن مرئية في السابق. لا تتبع خطى شركة أتاري (Atari)، التي تخلى عنها ستيف جوبز بسبب الإحباط قبل أن يصبح هو أيضاً مؤسساً مشاركاً لشركة آبل لاحقاً.
ما يجب فعله بدلاً من ذلك
عزز مجتمع المبتكرين. لنأخذ على سبيل المثال شركة علوم الحياة الألمانية، باير (Bayer)، إذ أنشأت مجتمعاً داخلياً يضم 700 مبتكر حول العالم يستخدمون الموارد المشتركة، ويتنافس بعضهم ضد بعض في مسابقات، ويرشحون ممثلين محليين للمشاركة في اجتماع سنوي. تعمل هذه الاتصالات بعد ذلك على تمكين المناقشات حول طرق التطبيق المتداخل للأساليب ونماذج الأعمال والإمكانات الأخرى التي يمكن تطبيقها في وحدات الأعمال المختلفة، على سبيل المثال، ساعد البرنامج على إنشاء خيارات التمويل الزراعي المتاحة الآن في جميع أنحاء العالم، التي ترجع جزئياً إلى فكرة نشأت في أقسام تمويل الشركات والتسويق في شركة باير باليونان.
لا يحدث الابتكار صدفة، إذ يعتمد القادة الذين تناولناهم في بحثنا على آليات ملموسة لتحديد الأفكار الملائمة وفسح المجال لتنميتها ويرصدون نقاط التقاطع بين الأفكار داخل الشركة بما يضمن ازدهار الابتكار في جميع أنحاء مؤسساتهم. يمكن لهذه الركائز الأربع أن تساعد في تحويل الابتكارات الناجحة المتفرقة إلى قدرات ثابتة.