4 خطوات لصياغة الاستراتيجية في عالم يكتنفه الغموض

7 دقائق
التخطيط للمستقبل
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: شهدت السنوات القليلة الماضية اضطرابات غير مسبوقة أدت إلى زعزعة بيئة العمل، وتجد الشركات أن التخطيط للمستقبل في هذه الأجواء باتت مسألة شبه مستحيلة. وتتطلب مثل هذه البيئة الحافلة بالتقلبات نهجاً جديداً لوضع الاستراتيجية. ويتطلب تحويل عالم مُحاط بالغموض إلى عالم يحفل بالفرص تغيير قادة الشركة لطريقة تفكيرهم والنظر إلى الأمور بعقلية جديدة. تحتاج الشركات إلى نهج مختلف لوضع الاستراتيجية، نهج يعتمد بدرجة أقل على النظر إلى ما يمكن أن تفعله الشركة ويركّز بصورة أكبر على تخيل ما يمكن أن تفعله، ثم بذل كل جهد ممكن لتحقيق هذا الخيال على أرض الواقع، مهما بدا متعارضاً مع الافتراضات السابقة والمنهجيات المعمول بها منذ زمن. ويقدم كاتب المقالة نهجاً يتألف من 4 خطوات لإعادة تعريف الاستراتيجية.

 

غنيٌ عن القول أننا نعيش حقبة يكتنفها الغموض. فقد شهدت السنوات القليلة الماضية اضطرابات غير مسبوقة، بداية من جائحة “كوفيد-19” مروراً بالحرب في أوكرانيا واضطراب سلاسل التوريد وهياكل رأس المال، ولا تلوح في الأفق أي بوادر تشير إلى قرب انتهاء هذه الاضطرابات. وهكذا تكثُر التحديات الماثلة أمام الشركات التي تجد أن التخطيط للمستقبل عملٌ شبه مستحيل. وتتطلب مثل هذه البيئة الحافلة بالتقلبات نهجاً جديداً لوضع الاستراتيجية.

لكن هل يستحق الأمر محاولة التنبؤ بما لا يمكن التنبؤ به؟ من المؤكد أن حالة عدم اليقين تعني ارتفاع حدة المخاطر، ولكنها قد تشير أيضاً إلى وجود فرص متاحة. وإذا تم التعامل معها بشكل صحيح، فسوف تتيح أمام المؤسسات فرصة للتوسع خارج حدود أعمالها الحالية، وربما في اتجاهات غير متوقعة.

وبالطبع، فإن الكلمات السحرية هنا: “إذا تم التعامل معها بشكل صحيح”. ويتطلب تحويل عالم مُحاط بالغموض إلى عالم يحفل بالفرص تغيير قادة الشركة لطريقة تفكيرهم والنظر إلى الأمور بعقلية جديدة. وتحتاج الشركات إلى نهج مختلف لوضع الاستراتيجية، نهج يعتمد بدرجة أقل على النظر إلى ما يمكن أن تفعله الشركة ويركّز بصورة أكبر على تخيل ما يمكن أن تفعله، ثم بذل كل جهد ممكن لتحقيق هذا الخيال على أرض الواقع، مهما بدا متعارضاً مع الافتراضات السابقة والمنهجيات المعمول بها منذ زمن.

كيفية إعادة التفكير في الاستراتيجية

يُعد رسم صورة واضحة المعالم لتصورات العملاء أمراً بالغ الأهمية عند وضع الاستراتيجية. ما الذي يريده عملاؤك حقاً؟ بدلاً من إعداد ملفات تعريفية لا نهاية لها للعملاء، يجب على الشركات أن تفكر فيما يريد الأفراد تحقيقه في ظروف معينة، أو ما يُطلَق عليه إيجازاً “المهمة المطلوب أداؤها“، على حد وصف كلايتون كريستنسن وتادي هول وكارين ديلون وديفيد دنكان.

ومن المهم أيضاً أن يتم إشراك المؤسسة بأكملها في عملية تطوير الاستراتيجية، إذ لا يُعدّ هذا عملاً يؤديه الفريق المختص بوضع الاستراتيجية الكلية للمؤسسة على مستوى الإدارة العليا الذي يعمل في عزلة تامة عن باقي الموظفين. يجب على الشركات الاستفادة بدلاً من ذلك من قوة المؤسسة القابلة للتكيف من أجل التوصل إلى الأفكار المبتكرة والسماح بظهور الحلول. وبطبيعة الحال، فمن المهم أيضاً امتلاك المهارات المناسبة داخل المؤسسة. لكن التفاعلات بين الأفراد المختلفين غالباً ما تكون أكثر أهمية من الأفراد أنفسهم.

علاوة على ذلك، يجب أن تكون عملية وضع الاستراتيجية ومراجعتها عملية مستمرة. حيث يتم تحديد النتيجة النهائية التي تريد تحقيقها، أو ما يسميه خبراء الاستراتيجيات العسكرية هدف القائد، ثم يتم تعديل الاستراتيجية وتكييفها على نحو مستمر. قد يكون الهدف في السياق العسكري هو احتلال تلة معينة، لكن الاستراتيجية المطلوبة لتحقيق هذا الهدف النهائي ليست ثابتة. على سبيل المثال، لا تتمثل الاستراتيجية في أن نحتل التلة عن طريق عبور ذلك الجسر، لأن الجسر المعني قد لا يكون موجوداً عند الوصول إلى الموقع المستهدف، وبالتالي فقد يتعين عليك تغيير الطريق إلى تحقيق هدفك المعلن استجابة للواقع على الأرض. وبالمثل، يجب على الشركات في سياق الأعمال التجارية تحديد أهدافها أولاً، ولكن دون أن تقرر مسبقاً كيفية تحقيقه. إذ يجب عليها بدلاً من ذلك أن تعتمد على الخبرة التي تكتسبها طوال الطريق، إلى جانب اعتمادها على العبقرية الجماعية للعاملين في المؤسسة.

ويشكّل هذا النهج الجديد لتحديد الاستراتيجية عاملاً أساسياً في تمكين الشركات من الازدهار في سوق تسير بخطى متلاحقة وتتغير باستمرار وتشهد توجهات عالمية بشكل متزايد. واستناداً إلى خبرتي في دعم الشركات، أنصح باتباع نهج يتألف من 4 خطوات:

1. البحث عن السؤال الكبير

تتمثل الخطوة الأولى في صياغة السؤال الصحيح، السؤال الذي تسعى استراتيجيتك إلى الإجابة عنه بعد ذلك. يتحدث جيم كولينز وجيري بوراس عن أهداف كبيرة ملهمة وجريئة. ولكم أحب التفكير في الأسئلة الكبيرة الجريئة والملهمة.

والسؤال الكبير هو السؤال الذي يوسع نطاق عملك بطريقة تؤدي إلى زيادة قدرته على خلق القيمة. ويجب ألا نكتفي هنا بالسماح بالأحلام فحسب، إنما يجب تشجيعها والحثّ عليها. قد نستمد المصدر الرئيسي للإلهام من مشكلات العملاء ورغباتهم التي تتغير طوال الوقت بطبيعة الحال. لذا بدلاً من محاولة تخمين ما يريده العملاء، فإن ثمة فكرة أفضل تتمثّل في سؤالهم عن المشكلات أو الإحباطات التي واجهوها، ثم العمل باستمرار على حل هذه المشكلات. يمكنك أيضاً أن تسأل أصحاب المصالح الآخرين بانتظام، كالمستثمرين والهيئات الحكومية والمجتمعات المحلية، وكذلك موظفوك بطبيعة الحال، للحصول على أفكار جديدة.

ستكون الأفكار التي تبحث عنها موجودة بالفعل في كثير من الأحيان، ولكنها ربما تعرّضت للتجاهل والتهكُّم بداعي أنها بعيدة كل البعد عن العمليات الحالية. ولقد توليتُ مؤخراً قيادة مشروع استشاري لإحدى كبرى شركات الطيران الدولية التي كانت تدرك منذ فترة طويلة أن طلب العملاء على الرحلات الجوية أصبح الآن أكثر تقلباً وتذبذباً مقارنةً بما كان عليه الأمر في الماضي. لكن نظراً للطريقة التي يتم بها تحديد جدول مواعيد رحلات شركات الطيران الرئيسية في القطاع بأكمله، مع وجود جدوليّ مواعيد ثابتَين فقط بشكل عام في السنة، فقد تم تقييد قدرتها على إبداء المرونة. وبدلاً من التساؤل عن كيفية إيجاد حل جزئي للمشكلة، ربما من خلال تقديم جدول مواعيد أو جدوليّ مواعيد إضافيين كل عام، بدأنا من الناحية الأخرى للمشكلة بطرح سؤال جذري: “كيف يمكننا تقديم رحلات طيران فورية، أينما ومتى يريد العميل حجز رحلة طيران؟”.

لم تأتِ فكرة رحلات الطيران الفورية من العدم: لقد ظهرت في مناسبات مختلفة في الماضي، ولكن تم رفضها دائماً بدعوى أنها بعيدة كل البعد عن الأعمال الأساسية للشركة وقدراتها الحالية، التي تضمنت تقديم رحلات منتظمة على أساس جداول مواعيد ثابتة، شأنها في ذلك شأن كل شركات الطيران الكبرى الأخرى. كان الجميع يعلم أن تقديم رحلات طيران فورية يمكن أن يفتح المجال أمام ظهور فرص جديدة لخلق القيمة. لكن السؤال عن كيفية تنفيذ هذه الفكرة كان أكبر وأكثر إلهاماً وأجرأ من أن تستوعبه العقلية الحالية في شركة الطيران.

2. تقسيمه إلى أسئلة فرعية

بعد ذلك، قسّم السؤال الاستراتيجي الكبير إلى أسئلة فرعية تتعلق بأجزاء مختلفة من عملياتك أو آلية عملك. يسمح لك هذا بترسيخ عملية وضع الاستراتيجية داخل المؤسسة. كما أنه يفتح الباب للحصول على الإلهام من خارج قطاعك. قد تكون جلسات العصف الذهني، مثل تلك التي وصفها هال غريغرسن، مفيدة للغاية هنا، مع التركيز في هذه المرحلة على طرح أسئلة جديدة بدلاً من البحث عن إجابات.

وقد طرحنا في مشروع شركة الطيران السؤال الكبير على مختلف فرق العمل داخل الشركة، مثل إدارة شبكات الخطوط الجوية والفرق المسؤولة عن تحديد جداول مواعيد أطقم الطيران، وما إلى ذلك، لمعرفة ردود فعلهم حياله. وكانت إجابتهم في أغلب الأحيان على فكرة تقديم رحلات طيران فورية هي “مستحيل!”. ثم طلبنا إليهم أن يخبرونا بالسبب. وقد أخبرونا بما يتعين على شركة الطيران فعله حتى يكون ذلك ممكناً، وكشفوا عن بعض المعلومات التي لم نأخذها في الاعتبار.

أرأيت الخدعة؟ بدلاً من محاولة استمالة فرق العمل وإقناعهم بالفكرة، سألناهم عن سبب استحالة تنفيذها. ويجد الإنسان دائماً أن الإجابة عن هذا السؤال أسهل ما يمكن، ويستطيع أيضاً الابتكار من خلال التفكير في الأمر من زوايا ربما لم يفكر فيها من قبل. والأفضل من ذلك، أن يتم طرح فكرة يعتقد الجميع أنها سخيفة وبحثها على سبيل المزاح أو باعتبارها عملية مسلية بغرض اللعب، واللعب هو سر الإبداع.

يسفر هذا التمرين عن نتيجة رائعة هي عبارة عن سلسلة من الأسئلة الفرعية مصنَّفة في مجموعات حسب مجال الموضوع. كان أحد الأسئلة الفرعية التي انبثقت من المناقشات حول الرحلات الجوية الفورية: كيف يمكننا تحديد اتجاهات الطلب على الرحلات الجوية في وقت مبكر وتكييف الطاقة الاستيعابية والأسعار وفقاً لذلك؟ بعبارة أخرى، كيف يمكن للشركة أن تتعامل مع مختلف الأنشطة المتعلقة بإدارة العائدات التي إذا غابت عن المشهد فلن تنطلق الرحلات الجوية الفورية من منظور العمل التجاري إلى المستوى التالي؟

3. توليد الأفكار

تتمثّل الخطوة الثالثة في تسجيل كل سؤال فرعي والبدء بعملية توليد الأفكار والخيارات الاستراتيجية المتاحة. الأهم من ذلك أنك لم تعد تفكر في الأسئلة أو ضبطها أو التساؤل عمّا إذا كانت هناك أي أسئلة مفقودة، كل ما هنالك أنك تبحث ببساطة عن أفكار استراتيجية. ويمكن أن يأتي الإلهام من داخل المؤسسة وخارجها، من خلال البحث عن أفضل مستويات الأداء في القطاع الذي تعمل به شركتك وفي غيره من القطاعات.

كان هذا النهج مفيداً للغاية عند العمل مع شركة الطيران. وبالنسبة للسؤال الاستراتيجي الكبير حول كيفية إتاحة رحلات طيران فورية، فلا توجد أمثلة خارجية يمكن الاقتداء بها، إذ لم يقدم أي من منافسي الشركة مثل هذه الخدمة من قبل. لكن عندما نظرنا إلى الأسئلة الفرعية، وجدنا الكثير من الأمثلة. على سبيل المثال، عدما ألقينا نظرة على مجال إدارة العائد، وجدنا أن الكثير من الشركات الحديثة قد نجحت في توقّع معدلات الطلب لدى العملاء واستطاعت تعديل الأسعار وفقاً لأسعار وسائل النقل الأخرى، مثل الحافلات. جاء الإلهام أيضاً من قطاعات أخرى. على سبيل المثال، تحرص الشركات العاملة في قطاع الأزياء الذي يسير بخطى متسارعة اليوم على تجديد تشكيلاتها أكثر من 12 مرة في السنة، على عكس تشكيلات الربيع/الصيف والخريف/الشتاء التي كانت قاعدة مستقرة فيما مضى (مثل النظام السنوي لجدوليّ المواعيد الذي اعتادت الشركات العاملة في قطاع الطيران تطبيقه في الأيام الخوالي).

4. تحديد أفضل الخيارات

أخيراً، حدد الخيارات الاستراتيجية المستمدة من الخطوة السابقة التي تقدم أفضل إجابة لكل سؤال من الأسئلة الفرعية. وننصح في هذا السياق باتباع نهج يحدّد شكل النجاح للعملية المعنية أولاً، ثم تنفيذ الحل الجديد بالتوازي مع الحل الحالي. وبمجرد أن يثبت الحل البديل أفضليته مقارنةً بالحل الحالي، تخلّ عن العملية الحالية تماماً. لا تفعل ذلك مرة واحدة ولكن احرص على فعله باستمرار مع تغير الفرص في السوق.

وسيؤدي التحدي المستمر للحلول الحالية إلى نتائج بعيدة المدى على استراتيجيتك. اسأل نفسك في كل عملية هذين السؤالين: هل هذا جزء من عرض القيمة الحقيقية لدينا؟ هل نمتلك القدرات والموارد لإتقان هذا المجال؟ وتتمثل النقطة المهمة هنا في أنك غير مطالب سوى بفعل الأشياء التي يمكنك الإجابة عنها بـ “نعم” في كلا السؤالين. وإذا لم تستطع التوصُّل إلى إجابات، فعليك أن تستعين بمصادر خارجية عن طريق الشراكات أو الاستحواذ، أو إنشاء شركة منفصلة.

وبالنسبة للسؤال الفرعي حول كيفية نقل إدارة عائدات شركة الطيران إلى المستوى التالي، اتضح أن الشركة يمكن أن تعزز هذا المجال بشكل كبير من خلال العمل مع شركة ناشئة للبيع بالتجزئة في مجال السفر تتمتع بقدرات رائعة فيما يخص توقّع الطلب والتنبؤ بكيفية تفاعل شركات الطيران مع هذا الإجراء من حيث التسعير والطاقة الاستيعابية. كانت الشركة الناشئة في الواقع منافساً لشركة الطيران فيما يخص بيع تذاكر الطيران بالتجزئة، لذلك كان أفضل حل استراتيجي لشركة الطيران يتمثّل في الحصول على حصة في الشركة الناشئة والاستعانة بمصادر خارجية من أجل تعهيد جوانب معينة من إدارة عائداتها للرحلات الجوية الفورية. عملت شركة الطيران في النهاية على تفويض الكثير من الأنشطة المختلفة المتعلقة بإدارة العائد لشريكها الجديد، بالإضافة إلى مجموعة كاملة من أعمال التطوير الجديدة والمثيرة القائمة على استخدام الذكاء الاصطناعي.

التطلع إلى آفاق المستقبل

عندما يتعلق الأمر بوضع الاستراتيجية، غالباً ما تقف قدرات الشركات حجر عثرة أمامها، وتركز على الأسئلة المرتبطة بما تفعله حالياً وكيف يمكنها فعله بشكل أفضل. لكننا نشجع الشركات على التطلع إلى آفاق المستقبل وفتح عقولها، بل وتجربة أفكار قد تبدو سخيفة بطريقة مرحة ومبتكرة. اتبع خطواتنا الأربع وقد تجد أن الفكرة التي استبعدتها سابقاً بدعوى أنها غير عملية أو باهظة التكلفة أصبحت فجأة ممكنة ومربحة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .