استراتيجية المحيط الأزرق

19 دقيقة
استراتيجية المحيط الأزرق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

إليكم هذه القصة التي تمهد لمفهوم استراتيجية المحيط الأزرق لدى بعض الشركات. غاي لاليبرت هو عازف أكورديون، ولديه موهبة المشي على السيقان الخشبية، وقادر على وضع النيران في فمه، وحالياً الرئيس التنفيذي لأحد أشهر المنتجات الثقافية الكندية وهي مؤسسة “سيرك دي سوليه”، التي تأسست عام 1984 على يد مجموعة من فناني الشوارع، ونظمت عشرات الاستعراضات التي تابعها حوالي 40 مليون شخص في 90 مدينة حول العالم. وقد حققت “دو سوليه” خلال 20 عاماً عائدات توازي ما حققه أشهر سيركَين عالميين في قرن معاً، وهما “رينغلينغ بروز” (Ringling Bros) و”بارنوم أند بايلي” (Barnum & Bailey).

وحدث نمو “سيرك دي سوليه” السريع في بيئة لم يكن يُتوقع فيها حدوث ذلك، إذ كان مجال عمل السيرك (ولا يزال) في تراجع مستمر مع ظهور الأشكال البديلة من الترفيه، على غرار الأحداث الرياضية والتلفزيون وألعاب الفيديو. وكان الأطفال، الذين يمثلون الدعامة الأساسية لجمهور السيرك، يفضلون لعب بلاي ستايشن على مشاهدة السيرك، فضلاً عن انتشار الاستياء المتزايد ضد استخدام الحيوانات التي كانت جزءاً لا يتجزأ من عروض السيرك، مدفوعةً بأنشطة جماعات حقوق الحيوان. وفيما يتعلق بالمؤدين، كان النجوم الذين استعانت بهم “رينغلينغ” وبقية مؤسسات السيرك الأخرى لجذب الحشود قادرين على وضع شروطهم الخاصة، وهو ما جعل تلك الصناعة تحتضر مع الانخفاض المستمر في الحضور والزيادة في التكاليف. وفوق هذا كله، كان على أي وافد جديد إلى هذا المجال منافسة عمالقة وضعوا معظم المعايير المتصلة بتلك الصناعة على مدار القرن الماضي.

استراتيجية المحيط الأزرق

كيف تمكنت “دو سوليه” من زيادة أرباحها بما يزيد عن 22 ضعفاً على مدار السنوات العشر الماضية في مثل هذه البيئة غير الجذابة؟ تظهر الإجابة في عبارة تذكرها مؤسسة “دو سوليه” وهي: “نحن نعيد اختراع السيرك”. فلم تجنِ “دو سوليه” أموالها عبر التنافس ضمن حدود الصناعة الحالية، أو عبر سرقة العملاء من “رينغلينغ” والآخرين، بل أنشأت بدلاً من ذلك فضاءً خاصاً بها في السوق لا منازع لها فيه بطريقة جعلتها تنأى بنفسها عن المنافسة. فقد جذبت مجموعة جديدة تماماً من العملاء تضم أفراداً بالغين وشركات كانت قد تحولت لارتياد المسرح أو الأوبرا أو الباليه، ولم تكن تقليدياً ترتاد عروض السيرك. وكان أولئك العملاء على استعداد لدفع سعر تذكرة يفوق بمرات سعر تذكرة السيرك التقليدية، بشرط الحصول على تجربة ترفيه غير مسبوقة.

ولفهم طبيعة إنجاز “دو سوليه”، عليك أن تدرك أن عالم الأعمال يتكون من فضاءين متمايزين، سنرمز إليهما بمحيطين شاسعين، الأول أحمر والثاني أزرق. وتمثل المحيطات الحمراء جميع الصناعات الحالية اليوم، التي هي السوق التقليدية المعروفة، وتكون فيها حدود معروفة ومقبولة للصناعة، والقواعد التنافسية للعبة مفهومة جداً. وفي هذه المحيطات، تحاول الشركات التفوق على منافسيها لاكتساب حصة أكبر من الطلب الحالي. ومع اكتظاظ الساحة، تقل احتمالات الأرباح والنمو، حيث تتحول المنتجات إلى سلع، وتسيل الدماء الافتراضية الناتجة عن المنافسة المحمومة التي لا هوادة فيها.

أما المحيطات الزرقاء فترمز إلى جميع الصناعات غير الموجودة اليوم، بمعنى آخر، السوق البِكر التي لم تلوث بالمنافسة بعد. ويتم في المحيطات الزرقاء خلق الطلب بدلاً من التعارك عليه، وتكون ثمّة فرصة كبيرة مربحة وسريعة للنمو. وتوجد طريقتان لإنشاء محيطات زرقاء. ففي حالات قليلة، يمكن أن تُنشئ الشركات صناعات جديدة تماماً، كما فعلت “إيباي” بصناعة المزاد عبر الإنترنت. ولكن في معظم الحالات، يتم إنشاء محيط أزرق من داخل محيط أحمر عندما تقوم شركة ما بتغيير حدود الصناعة الحالية، كما سيتضح لاحقاً مما فعلته “دو سوليه”، التي صنعت محيطاً أزرق جديداً ومربحاً داخل المحيط الأحمر الذي يمثل صناعة السيرك التقليدية، وذلك في اختراقٍ للحدود التي تفصل تقليدياً بين السيرك والمسرح.

ويتم في المحيطات الزرقاء خلق الطلب بدلاً من التعارك عليه، وتكون ثمّة فرصة كبيرة مربحة وسريعة للنمو.

وتعد “دو سوليه” مثالاً من بين أكثر من 150 حالة أخرى لمحيطات زرقاء درسناها في أكثر من 30 صناعة، مستخدمين بيانات تعود إلى أكثر من 100 عام. إذ قمنا بتحليل بيانات الشركات التي أنشأت تلك المحيطات الزرقاء وبيانات منافسيها الأقل نجاحاً التي بقيت في المحيطات الحمراء. ولاحظنا لدى دراستنا هذه وجود نمط تفكير استراتيجي ثابت كامن وراء إنشاء أسواق وصناعات جديدة، دعوناه “استراتيجية المحيط الأزرق”. ويختلف المنطق وراء استراتيجية المحيط الأزرق إلى حد ما عن النماذج التقليدية الخاصة بالمنافسة في فضاء السوق الحالي. وفي الواقع، يمكن القول إن فشل المدراء في إدراك الاختلافات بين استراتيجية المحيط الأحمر والأزرق هو أساس الصعوبات التي تواجهها العديد من الشركات خلال محاولتها التغلب على المنافسة.

وسنقدم في هذه المقالة مفهوم استراتيجية المحيط الأزرق ونصِف خصائصها المحدِّدة لها، ثم سنقوم بتقييم نتائج الأرباح والنمو للمحيطات الزرقاء ومناقشة لماذا يعتبر إنشاؤها ضرورة حتمية للشركات في المستقبل. ونؤمن بدورنا أن فهم استراتيجية المحيط الأزرق سيساعد شركات اليوم التي تعاني بدورها من أجل النجاح في عالم الأعمال المتسارع والمتوسع.

المحيطات الزرقاء والحمراء

لطالما كانت فكرة المحيطات الزرقاء سائدة رغم حداثة هذا المصطلح، فإذا عدنا بالزمن 100 عام إلى الوراء لمحاولة معرفة الصناعات المشهورة اليوم التي لم تكن وقتها معروفة، فسنجد أن القائمة تضم صناعات كثيرة وأساسية، مثل السيارات والتسجيل الموسيقي والطيران والبتروكيماويات والأدوية والاستشارات الإدارية. وكانت كل تلك الصناعات قبل 100 عام إما غير معروفة أو ظهرت لتوها. والآن، عُد بالزمن 30 عاماً فقط واطرح السؤال ذاته. ومن جديد، ستجد صناعات كثيرة تصل قيمتها حالياً إلى مليارات الدولارات لم تكن وقتها موجودة، مثل الصناديق الاستثمارية، والهواتف الخلوية، والتكنولوجيا الحيوية، وتجارة التجزئة ذات الحسومات، وتسليم الطرود السريعة، وألواح التزحلق على الجليد، والمقاهي العصرية، وأشرطة الفيديو المنزلية، وغيرها الكثير. كانت كل تلك الصناعات غير موجودة قبل ثلاثة عقود فحسب.

وهذه المرة، انتقل بالزمن 20 سنة إلى الأمام، واسأل نفسك: كم صناعة جديدة غير معروفة اليوم ستنشأ وقتها؟ وإذا كان يمكننا أخذ العبرة من التاريخ للتنبؤ بالمستقبل، فستكون الإجابة: صناعات كثيرة. ولدى الشركات قدرة كبيرة على إنشاء صناعات جديدة وإعادة إنشاء الصناعات القائمة، وهي حقيقة انعكست ضمن التغيرات العميقة الضرورية في طريقة تصنيف الصناعات، ففي عام 1997 تم استبدال نظام التصنيف الصناعي القياسي (SIC) الذي يرجع إلى نصف قرن، وحل محله نظام تصنيف الصناعة في أميركا الشمالية (NAICS) الذي أضاف 10 قطاعات جديدة إلى النظام السابق، ليصبح الإجمالي 20 قطاعاً صناعياً تعكس بدورها مجالات جديدة بزغت حديثاً، بمعنى آخر، المحيطات الزرقاء. فعلى سبيل المثال، كان قطاع الخدمات في ظل النظام القديم قطاعاً واحداً، بينما هو الآن سبعة قطاعات تتراوح من المعلومات إلى الرعاية الصحية مروراً بالمساعدة الاجتماعية. وبالنظر إلى أن أنظمة التصنيف هذه مصممة للتوحيد والاستمرارية، يوضح مثل هذا الاستبدال مدى أهمية مصدر النمو الاقتصادي الذي تشكله المحيطات الزرقاء.

وبالنظر إلى الأمام، يبدو واضحاً لنا أن المحيطات الزرقاء ستبقى محرك النمو مع تقلص الآفاق في معظم فضاءات السوق التقليدية – أي المحيطات الحمراء – باطراد. وقد أدى التقدم التكنولوجي إلى تحسين الإنتاجية الصناعية بشكل كبير، مما أتاح للموردين إنتاج مجموعة غير مسبوقة من المنتجات والخدمات. ومع انخفاض الحواجز التجارية بين الدول والمناطق، وتوفر المعلومات المتعلقة بالمنتجات والأسعار فوراً وعالمياً، بدأت الأسواق المتخصصة والملاذات الاحتكارية بالاختفاء. وفي الوقت نفسه، لا يوجد دليل يُذكر على أي زيادة في الطلب، على الأقل في الأسواق المتقدمة، إذ تشير إحصائيات الأمم المتحدة الحديثة إلى انخفاض عدد السكان في تلك البلدان، وهو ما يعني أن العرض صار يفوق الطلب في عدد متزايد من الصناعات هناك.

ومن المؤكد أن هذا الوضع قد تسبب في إضفاء الطابع السلعي على المنتجات والخدمات، وتسبب في تنافس محموم على خفض الأسعار والتقليل من هوامش الربح. فوفقاً لدراسات أُجريت مؤخراً، أصبحت العلامات التجارية الأميركية الكبرى في مجموعة متنوعة من فئات المنتجات والخدمات متشابهة كثيراً فيما بينها. وبما أن العلامات التجارية باتت أكثر تشابهاً، غدا الأفراد يقررون خيارات الشراء بشكل متزايد بناءً على السعر. ولم يعد الناس يصرون، كما كان الحال في الماضي، على أن يكون منظف الغسيل لديهم من علامة “تايد” التجارية. كما أنهم لم يعودوا يلتزمون بالضرورة باستخدام “كولغيت” عندما يكون هناك عرض ترويجي خاص من “كرست”، والعكس صحيح. ويصبح تمييز العلامات التجارية في الصناعات المكتظة أكثر صعوبة في حالتي الانتعاش والانكماش الاقتصاديين.

مفارقة الاستراتيجية

ولسوء الحظ، يبدو أن معظم الشركات تشعر بالإحباط في محيطاتها الحمراء. ففي دراسة لإطلاق الأعمال في 108 شركات، وجدنا أن 86% من هذه المشاريع الجديدة كانت توسيعاً لتشكيلة المنتجات، بمعنى آخر، تحسينات تدريجية لعروض الصناعة الحالية، و14% منها فقط كانت تهدف إلى إنشاء أسواق أو صناعات جديدة. وبينما تمثل الإضافات الخطية 62% من إجمالي الإيرادات، حققت فقط 39% من إجمالي الأرباح. وعلى النقيض، حققت نسبة الـ 14% المستثمَرة في خلق أسواق وصناعات جديدة 38% من إجمالي الإيرادات و61% من إجمالي الأرباح.

فلماذا إذاً هذا الخلل الكبير لصالح المحيطات الحمراء؟ يتمثل جزء من التفسير في أن استراتيجية الشركات متأثرة جداً بالاستراتيجية العسكرية، إذ تستخدم استراتيجية الشركات المفردات ذاتها المستخدمة في الجانب العسكري، على غرار تسمية الرئيس التنفيذي “المسؤول” المقيم في “المقر الرئيس” الذي يقود “القوات” على “الجبهات”. وفي حال رؤيتنا للأمر على ذلك المنوال، سترتبط الاستراتيجية في المحيط الأحمر بالمنافسة بشدة، وستدور فكرتها حول مواجهة أحد المعارضين وطرده من ساحة معركة محدودة المساحة. أما استراتيجية المحيط الأزرق، فهي على النقيض، إذ تدور حول ممارسة الأعمال التجارية دون وجود منافس. إنها تتحدث عن إنشاء أرض جديدة، وليس تقسيم الأراضي الحالية. ومن ثم، يعني التركيز على المحيط الأحمر قبول العوامل المقيدة الرئيسة للحرب، مثل التضاريس المحدودة والحاجة إلى التغلب على عدو للنجاح، وهو يعني إنكار القوة المميزة لعالم الأعمال، التي هي القدرة على خلق مساحة جديدة في السوق لا منافسة فيها.

ولقد تفاقم ميل استراتيجية الشركات للتركيز على الفوز ضد المنافسين بسبب النهضة السريعة التي حققتها الشركات اليابانية في السبعينيات والثمانينيات، إذ إنه أول مرة في تاريخ الشركات الغربية، كان العملاء يهجرونها بأعداد مهولة. ومع تصاعد حدة المنافسة في السوق العالمية، ظهرت مجموعة من استراتيجيات المحيط الأحمر، نصّت كلها على أن المنافسة هي جزء من صميم نجاح الشركات أو فشلها. واليوم، بالكاد يتحدث المرء عن الاستراتيجية دون استخدام لغة المنافسة، حيث يلخص مصطلح “الميزة التنافسية” ما سبق بأوضح شكل ممكن. وفي النظرة التنافسية للعالم، غالباً ما يتم دفع الشركات إلى التفوق على منافسيها والاستحواذ على حصص أكبر من مساحة السوق الحالية.

بالطبع، للمنافسة أهميتها، لكن الباحثين والشركات والمستشارين، عبر تركيزهم على المنافسة، تجاهلوا جانبين مهمين للغاية، بل يمكننا القول إنهما الجانبان الأكثر ربحاً: أحدها إيجاد الأسواق التي لا توجد فيها منافسة تذكر – أو المحيطات الزرقاء – وتطويرها، أما الآخر فهو الاستفادة من تلك المحيطات الزرقاء وحمايتها. وتختلف هذه التحديات جذرياً عن تلك التي كرس لها الاستراتيجيون معظم انتباههم.

نحو استراتيجية المحيط الأزرق

ما نوع المنطق الاستراتيجي اللازم للتوجيه نحو إنشاء محيطات زرقاء؟ في معرض محاولتنا الإجابة عن هذا السؤال، قمنا بالنظر إلى أكثر من 100 عام من البيانات الخاصة بإنشاء المحيطات الزرقاء، لمعرفة إن كانت توجد أي أنماط يمكن استحضارها. وثمّة بعض البيانات التي توصلنا إليها معروضة في فقرة “لمحة عن إنشاء المحيط الأزرق”، الذي يعرض نظرة عامة على إبداعات المحيط الأزرق الرئيسة ضمن ثلاث صناعات تمس حياة الناس عن كثب، وهي كل من: السيارات، أي كيف يذهب الناس إلى العمل، وأجهزة الكمبيوتر، أي ما يستخدمه الناس في العمل، ودور السينما، أي أين يذهب الناس للمتعة بعد العمل. ولقد وجدنا ما يلي:

لا تتعلق المحيطات الزرقاء بالابتكار التكنولوجي

قد تساهم أحياناً التقنيات الرائدة في إنشاء محيطات زرقاء، لكنها ليست العامل الوحيد. وتنطبق صحة ذلك حتى في الصناعات المعتمدة على التكنولوجيا. فكما يكشف المعرض، نادراً ما كانت المحيطات الزرقاء نتيجة ابتكار تكنولوجي جديد في حد ذاته في الصناعات التمثيلية الثلاث التي اخترناها، إذ كانت التقنيات موجودة بالفعل في كثير من الأحيان. فحتى خط التجميع الثوري لشركة “فورد”، كان من الممكن رؤية أثره في صناعة تعبئة اللحوم في أميركا. وكما هو الحال مع صناعة السيارات، لم تحدث المحيطات الزرقاء داخل صناعة الكمبيوتر من خلال الابتكارات التكنولوجية وحدها، بل من خلال ربط التكنولوجيا بما يقدره المشترون، إذ كان يتضمن ذلك غالباً تبسيط التقنية كما كان الحال مع جهاز “آي بي إم 650” وخادم الكمبيوتر الشخصي كومباك.

غالباً ما تخلق الشركات القائمة محيطات زرقاء، وعادةً ما تكون ضمن أعمالها الأساسية

كانت كل من “جنرال موتورز”، وصانعي السيارات اليابانيين، و”كرايسلر” شركات قائمة بالفعل عندما أنشأت محيطات زرقاء في صناعة السيارات. وكذلك كانت شركة “سي تي آر” (CTR)، التي أصبح اسمها لاحقاً “آي بي إم”، و”كومباك”. أما في صناعة السينما، فيمكن قول الشيء نفسه عن صالات عرض بالاس وأيه إم سي. ومن بين الشركات المذكورة في هذا القسم، كانت “فورد” و”آبل” و”ديل” و”نيكلوديون” هم فقط الوافدين الجدد في صناعاتهم، حيث كانت الشركات الثلاث الأولى شركات ناشئة، في حين كانت الرابعة جهة عريقة لكنها تدخل صناعة جديدة عليها. ويشير هذا إلى أن الشركات القائمة هي في وضع مواتٍ لخلق مساحات جديدة في السوق. علاوة على ذلك، كانت المحيطات الزرقاء التي صنعها شاغلوها عادة ضمن مجالات عملهم الأساسية. وفي الواقع، وكما نرى في المعرض، يتم إنشاء معظم المحيطات الزرقاء من داخل المحيطات الحمراء للصناعات القائمة، وليس من خارجها. ويتحدى هذا الرأي القائل إن الأسواق الجديدة تقع في مواقع بعيدة، إذ إن المحيطات الزرقاء تقع تماماً بجوار كل صناعة.

الشركة والصناعة هما وحدتا التحليل الخطأ

لدى وحدتي التحليل الاستراتيجي التقليديتان، الشركة والصناعة، قدرات توضيحية قليلة عندما يتعلق الأمر بتحليل كيف ولماذا يتم إنشاء المحيطات الزرقاء، إذ إنه لا توجد شركة ممتازة باستمرار، إذ يمكن أن تكون رائعة في يوم وفاشلة في آخر على اعتبار أن لكل شركة أياماً جيدة وأياماً سيئة، بمرور الوقت. وبالمثل، لا توجد صناعة ممتازة دائماً، حيث تكون الرغبة وراء خلق محيطات زرقاء نابعة إلى حد بعيد من الحاجة إليها.

ويعتبر الاصطلاح التحليلي الأكثر ملاءمة لشرح إنشاء المحيطات الزرقاء هو “الخطوة الاستراتيجية”، وهي مجموعة من الإجراءات والقرارات الإدارية التي ينطوي عليها تقديم فكرة إنشاء سوق أعمال جديدة. فعلى سبيل المثال، يرى الكثيرون شركة “كومباك” شركة “غير ناجحة” لاستحواذ “هيوليت-باكارد” (آتش بي) عليها في عام 2001 واندثار أثرها كشركة. لكن مصير الشركة النهائي لا يُبطل الخطوة الاستراتيجية الذكية التي اتخذتها “كومباك” والتي أدت إلى إنشاء سوق بمليارات الدولارات في قطاع خوادم الكمبيوتر الشخصي، وهي خطوة كانت السبب الرئيس وراء عودة الشركة القوية في التسعينيات.

يرسّخ خلق المحيطات الزرقاء العلامات التجارية.

وتعتبر استراتيجية المحيط الأزرق قوية لدرجة يمكن فيها للخطوة الاستراتيجية للمحيط الأزرق خلق سمعة مميزة للعلامة التجارية التي أنشأتها تستمر عقوداً. ففي معرضنا، نتذكر جميع الشركات المدرجة فيه تقريباً لسبب يعود في جزء كبير منه إلى المحيطات الزرقاء التي أنشأتها منذ فترة طويلة. فقلة قليلة من الناس على قيد الحياة اليوم كانت موجودة عندما ظهرت أول سيارة من طراز “تي” من خط تجميع هنري فورد في عام 1908، ولكن لا تزال العلامة التجارية للشركة تستفيد من خطوة المحيط الأزرق هذه. وغالباً ما تُرى شركة “آي بي إم” أيضاً “كمؤسسة أميركية” إلى حد بعيد بسبب المحيطات الزرقاء التي أنشأتها في قطاع الحوسبة، حيث كانت سلسلة “360” مكافئة لنموذج “تي”.

وتعتبر النتائج التي توصلنا إليها مشجعة للمدراء التنفيذيين في الشركات الكبيرة الراسخة التي يُنظر إليها عادة كضحايا لعملية خلق مساحة جديدة في السوق، إذ يكتشفون أن ميزانيات البحث والتطوير الكبيرة ليست هي المفتاح لخلق مساحة جديدة في السوق، بل اتخاذ الخُطى الاستراتيجية الصحيحة. والأكثر من ذلك، ستكون الشركات، التي تفهم ما الذي يُحقق خطوة استراتيجية جيدة، في وضع جيد لإنشاء محيطات زرقاء متعددة بمرور الوقت، ومن ثم، تستمر في تحقيق نمو مطرد وأرباح على مدى فترات أطول. بمعنى آخر، سيكون إنشاء محيطات زرقاء نتاج استراتيجية، ومن ثم، سيكون نتاج مجهود إداري.

الخصائص المميزة

يُظهر بحثنا وجود العديد من الخصائص المشتركة للخطوات الاستراتيجية التي تخلق المحيطات الزرقاء، حيث وجدنا أن من قاموا بإنشاء محيطات زرقاء لم يستخدموا المنافسة كمعيار، وذلك على العكس تماماً من الشركات التي تلعب ضمن القواعد التقليدية. وبدلاً من ذلك، يجعلون المنافسة غير ذات صلة عبر إنشاء قفزة في القيمة لكل من المشترين والشركة نفسها. (تقارن صورة “استراتيجية المحيط الأحمر مقابل المحيط الأزرق” الخصائص الرئيسة لهذين النموذجين الاستراتيجيين).

استراتيجية المحيط الأزرق بين التكاليف و قيمة المشتري

استراتيجية المحيط الأحمر

وربما تكمن أهم ميزة استراتيجية المحيط الأزرق في رفضها المبدأ الأساسي للاستراتيجية التقليدية، التي تنص على وجوب إجراء مقايضة بين القيمة والتكلفة. فوفقاً لهذه النظرية، يمكن للشركات إما إنشاء قيمة مرتفعة للعملاء بتكلفة عالية أو إنشاء قيمة معقولة بتكلفة منخفضة. وبعبارة أخرى، فإن الاستراتيجية هي أساساً الاختيار بين التميّز والتكلفة المنخفضة. ولكن عندما يتعلق الأمر بخلق محيطات زرقاء، تشير الأدلة إلى أن الشركات الناجحة تتبع التميّز والتكلفة المنخفضة معاً.

ولرؤية كيف يتم ذلك، علينا العودة إلى “سيرك دي سوليه”، فعندما ظهرت تلك المؤسسة لأول مرة، كانت بقية مؤسسات السيرك الأخرى تركز على ما يقدمه المنافسون، وتحاول زيادة حصصها من الطلب المتناقص عن طريق إجراء بعض التعديلات الطفيفة على أعمال السيرك التقليدية. وشمل ذلك محاولة تأمين المزيد من المهرجين ومروضي الأسود المشهورين، وهي جهود زادت من التكاليف عليها دون تغيير كبير في تجربة السيرك. وكانت النتيجة ارتفاع التكاليف دون ارتفاع الإيرادات، وتراجع الطلب على السيرك عموماً. ودخلت “دو سوليه” هنا، وبدلاً من اتباع المنطق التقليدي المتمثل في التفوق على المنافسين من خلال تقديم حل أفضل للمشكلة المحددة المتمثلة في إنشاء سيرك مع مزيد من المتعة والإثارة، أعادت تعريف المشكلة بنفسها من خلال تزويد الناس بمتعة السيرك وإثارته، والتطور الفكري والثراء الفني للمسرح.

ففي تصميمها للعروض التي قدمتها والتي أصابت المنافسين بالحيرة، كان على “دو سوليه” إعادة تقييم مكونات عرض السيرك التقليدي. وما وجدته “دو سوليه” أن العديد من العناصر التي تعتبر ضرورية للمتعة والإثارة في السيرك غير لازمة، وغالباً مكلفة. فعلى سبيل المثال، تقدم معظم هيئات السيرك عروض حيوانات، كانت تشكل عبئاً اقتصادياً ثقيلاً، على اعتبار أن تلك الحيوانات بحاجة إلى تدريب ومسكن ورعاية طبية وعناية وتأمين ونقل، وما إلى ذلك. كما أن “دو سوليه” وجدت أن الرغبة في عروض الحيوانات آخذة في الأفول بسرعة، بسبب تزايد القلق العام بشأن معاملة حيوانات السيرك وأخلاقيات عرضها.

وبالمثل، وعلى الرغم من أن السيرك التقليدي روج لفناني الأداء كنجوم، أدركت “دو سوليه” أن الجمهور لم يعد ينظر إلى فناني السيرك كنجوم، على الأقل ليس بمعنى نجوم السينما. لقد تخلصت “دو سوليه” من العروض البهلوانية ثلاثية الحلقات أيضاً، إذ كانت تخلق الارتباك بين المتفرجين المجبرين على تحويل انتباههم من حلقة إلى أخرى، وأيضاً تتسبب في زيادة عدد المؤدين المطلوبين، مع ما يترتب على ذلك من آثار واضحة على التكلفة. وعلى الرغم من أن مبيعات القمصان والتذكارات في الممرات كانت طريقة جيدة لتوليد إيرادات، فإن الأسعار المرتفعة لم تشجع الآباء على إجراء عمليات الشراء وجعلتهم يشعرون بأن تجربتهم ليست كاملة.

لقد وجدت “دو سوليه” أن الجاذبية الدائمة للسيرك التقليدي تقلصت إلى ثلاثة عوامل فقط: المهرجين والخيمة والحركات البهلوانية الكلاسيكية. ومن ثم، أبقت “دو سوليه” على المهرجين، مع تحويل الفكاهة بعيداً عن التهريج إلى أسلوب أكثر سحراً وتنميقاً. وأضفت على خيمة السيرك بهاءً وجمالاً بعدما تخلت عنها العديد من هيئات السيرك الأخرى لصالح أماكن مستأجَرة، إذ أدركت “دو سوليه” أن الخيمة تمثل سحر السيرك أكثر من أي شيء آخر، وهو ما جعلها تعيد تصميم هذا الرمز الكلاسيكي بمظهر خارجي رائع ومستوى راحة فائق للجمهور. لقد أزالت “دو سوليه” نشارة الخشب والمقاعد الصلبة، مع احتفاظها بالألعاب البهلوانية وفناني الإثارة الآخرين، لكنها قللت من أدوارهم لتجعلها مقتصرة على أداء أنيق من خلال إضافة الحس الفني الراقي.

وحتى عندما أزالت “دو سوليه” بعض عروض السيرك التقليدية، أدرجت عناصر جديدة مستمدة من عالم المسرح. فعلى سبيل المثال، وعلى عكس السيرك التقليدي الذي يعرض سلسلة من الأعمال غير المرتبطة فيما بينها، يشابه كل عرض من “دو سوليه” أداءً مسرحياً، من حيث إنه يحتوي على فكرة وحكاية. وعلى الرغم من أن الموضوعات غامضة عن قصد، فإنها تجلب الانسجام والعنصر الفكري للأداء. وتستعير “دو سوليه” أيضاً أفكاراً من مسرح “برودواي”، فعلى سبيل المثال، وبدلاً من تقديم عرض واحد يتكرر إلى الأبد، تقدّم “دو سوليه” عروضاً ذات أفكار متعددة، استناداً إلى مواضيع موضوعات وحكايات مختلفة. وكما هو الحال مع إنتاجات “برودواي” أيضاً، يحتوي كل عرض من عروض “دو سوليه” على موسيقى أصلية مرافقة، تزيد من ألق الأداء كما تقدم إضاءة ترافق الأداء بتوقيت مثالي، بدل أن يحدث العكس في العادة. وتتميز الإنتاجات بالرقص التجريدي والروحي، وهي فكرة مستمدة من المسرح والباليه. من خلال تقديم هذه العوامل، أنشأت “دو سوليه” وسائل ترفيه منمّقة للغاية. وعن طريق تنظيم عروض متنوعة، تمنح “دو سوليه” الناس سبباً للحضور إلى السيرك في كثير من الأحيان، ومن ثم، تزيد الإيرادات.

وتجمع “دو سوليه” بين أفضل ما في السيرك والمسرح، فضلاً عن أنها تمكنت من تقليص التكلفة بقدر كبير عبر إزالة عدد من أغلى عناصر السيرك، لتصل إلى تحقيق التميز بتكلفة أقل. (للحصول على وصف للاقتصاديات التي تقوم عليها استراتيجية المحيط الأزرق، راجع فقرة “السعي المتزامن للتميز والتكلفة المنخفضة.”)

ويمكن للشركة تحقيق قفزة في القيمة لنفسها وعملائها من خلال خفض التكاليف مع زيادة القيمة للمشترين في الوقت نفسه. ونظراً لأن القيمة للمشتري تأتي من الأداة المستخدمة والسعر الذي تقدمه الشركة، وتولد الشركة قيمة لنفسها من خلال هيكل التكلفة والسعر، فإن استراتيجية المحيط الأزرق تتحقق فقط عندما تتم مواءمة النظام برمته لأنشطة الخدمات والسعر والتكلفة للشركة. إن نهج النظام بأكمله هو الذي يجعل إنشاء المحيطات الزرقاء استراتيجية مستدامة، حيث تجمع استراتيجية المحيط الأزرق بين مجموعة الأنشطة الوظيفية والتشغيلية للشركة.

وينطوي رفض المفاضلة بين التكلفة المنخفضة والتميّز على تغيير جوهري في التفكير الاستراتيجي، وبدورنا نؤكد بشدة على مدى أهمية هذا التحول. إن افتراض المحيط الأحمر أن الظروف الهيكلية للصناعة هي أمر مُسلّم به، وأن الشركات مجبرة على التنافس داخلها، يستند إلى نظرة فكرية للعالم يسميها الأكاديميون النظرية البنيوية أو الحتمية البيئية. وفقاً لهذا الرأي، فإن الشركات والمدراء هم إلى حد بعيد تحت رحمة القوى الاقتصادية الأكبر منهم. وعلى النقيض من ذلك، تعتمد استراتيجيات المحيط الأزرق على نظرة عالمية يمكن من خلالها إعادة بناء حدود السوق والصناعات من خلال تصرفات ومعتقدات الجهات الفاعلة في الصناعة. وندعو هذا بدورنا وجهة نظر إعادة الإعمار.

ومن الواضح عدم شعور مؤسسي “دو سوليه” بالحاجة إلى العمل ضمن حدود صناعتهم. وفي الواقع، هل “دو سوليه” حقاً سيرك مع كل ما أزالته وعدّلته وخلقته؟ أم هي مسرح؟ وإذا كانت مسرحاً، فما الفئة التي ينتمي إليها؟ أهي عرض من عروض “برودواي” أم أوبرا أم باليه؟ أُنشئ سحر “دو سوليه” من خلال إعادة بناء العناصر المستمدة من كل هذه البدائل. ففي النهاية، أخذت “دو سوليه” من كل بستان زهرة، فمن قلب المحيطين الأحمرين للمسرح والسيرك أنشأت محيطاً أزرق من مساحة السوق غير المتنازع عليها، ولا يوجد لها اسم حتى الآن.

العوائق التي تحول دون التقليد

عادةً ما تجني الشركات التي تُنشئ محيطات زرقاء الفوائد دون تحديات فعلية، ويظل هذا مدة تتراوح بين 10 و15 عاماً، كما هو الحال مع “دو سوليه” و”هوم ديبوت” و”فيديكس” و”ساوث ويست أيرلاينز” و”سي إن إن” وغيرها الكثير. ويعود السبب في ذلك إلى استراتيجية المحيط الأزرق التي تخلق بطبيعتها حواجز اقتصادية ومعرفية كبيرة أمام التقليد.

ففي البداية، يعدُّ تبني نموذج أعمال الجهة التي أنشأت المحيط أسهل باعتباره فكرة مما هو فعل. ونظراً لقدرة مُنشئي المحيط الأزرق على جذب العملاء بأعداد غفيرة فورياً، يتمكنون من تحقيق مبيعات هائلة بسرعة فائقة، بينما يعلق المقلدون المحتملون في دوامة التكلفة المستمرة والمتواصلة. فمقادير المبيعات الضخمة التي تتمتع بها “وول مارت” مثلاً أحبطت شركات كثيرة أخرى، ومنعتها من محاولة تقليد نموذج أعمال “وول مارت”. كما يمكن لجذب أعداد غفيرة من العملاء أن ينشئ شبكة متشعبة تفيد جميع الأطراف، إذ إنه كلما زاد عدد العملاء لدى “إيباي” على الإنترنت، أصبح موقع المزاد ذاك أكثر جاذبية للبائعين والمشترين على حد سواء، مما يمنح المستخدمين القليل من الحوافز للذهاب إلى أي مكان آخر.

وعندما يتطلب التقليد من الشركات المقلّدة إجراء تغييرات على نظام أنشطتها بالكامل، قد تعيق السياسة التنظيمية قدرة منافس محتمل على التحول إلى نموذج الأعمال المختلف لاستراتيجية المحيط الأزرق. فعلى سبيل المثال، يجب على أي شركة طيران تحاول أن تحذو حذو “ساوث ويست” في تقديم سرعة السفر الجوي بمرونة وتكلفة معقولة، مواجهة عمليات إعادة تفكير كبيرة فيما يتعلق بالتوجيه والتدريب والتسويق والتسعير، فضلاً عن الثقافة. ولدى عدد قليل من شركات الطيران القائمة المرونة اللازمة لإجراء مثل هذه التغييرات التنظيمية والتشغيلية واسعة النطاق بين عشية وضحاها. غير أن تقليد نهج النظام بالكامل ليس بالأمر السهل.

ويمكن أن تكون الحواجز المعرفية ذات فاعلية بنفس القدر. فعندما تقدم شركة قفزة في القيمة، فإنها تكسب بسرعة علامة تجارية وأتباعاً مخلصين في السوق. وتُظهر التجربة أنه حتى أغلى حملات التسويق تكافح من أجل أخذ حصة من منشئ محيط أزرق. فعلى سبيل المثال، تحاول “مايكروسوفت” من أكثر من عشر سنوات احتلال مركز المحيط الأزرق الذي ابتكرته شركة “إنتويت” عبر منتجها المالي “كويكن”. وعلى الرغم من كل الجهود التي بذلتها وجميع استثماراتها، لم تتمكن “مايكروسوفت” من إقصاء “إنتويت” كرائدة في هذا المجال.

وفي حالات أخرى، تتعارض محاولات تقليد منشئ المحيط الأزرق مع صورة العلامة التجارية الحالية للمقلد. فعلى سبيل المثال، لا يستخدم “بودي شوب” أي عارضات أزياء ولا يقدم أي وعود بالشباب والجمال الأبدي. وفيما يخص العلامات التجارية لمستحضرات التجميل المعروفة مثل “لوريال” (L’Oréal) و”إستي لودر” (Estée Lauder)، كان التقليد صعباً جداً، لأنه كان سيتسبب في إبطال تام لصورتهما الحالية التي تستند إلى وعود بالشباب والجمال الأبدي.

نمط ثابت

ولطالما كانت استراتيجية المحيط الأزرق موجودة، لكن قد يكون التعبير المفاهيمي للنموذج جديداً، وذلك سواءً أكانت الشركات مدركة لتلك الحقيقة أم لا. فما عليك سوى التفكير في أوجه التشابه المذهلة بين تجربة سيرك “دو سوليه” وطراز “تي” من “فورد”.

ففي نهاية القرن التاسع عشر، كانت صناعة السيارات صغيرة وغير جذابة، حيث كانت تتنافس أكثر من 500 شركة من شركات صناعة السيارات في أميركا على إنتاج سيارات فاخرة مصنوعة يدوياً تكلف الواحدة منها 1,500 دولار ولا تحظى بشعبية كبيرة لدى الأغنياء. وقام النشطاء المعادون للسيارات بتدمير الطرقات وتطويق السيارات المتوقفة بالأسلاك الشائكة وإجراء مقاطعات منظمة لرجال الأعمال والسياسيين الذين يقودون السيارات. ويمكن لكلمات ودرو ويلسون أن تعطينا لمحة عن روح ذاك العصر حيث قال في عام 1906: “لم ينشر أي شيء مشاعر اشتراكية أكثر من السيارات” واصفاً إياها بأنها “صورة لغطرسة الثروة”.

وبدلاً من محاولة التغلب على المنافسة وسرقة حصة من الطلب الحالي من شركات صناعة السيارات الأخرى، أعادت شركة “فورد” بناء الحدود بين صناعة السيارات والعربات التي تجرها الخيول لإنشاء محيط أزرق. فآنذاك، كانت العربات التي تجرها الخيول الوسيلة الأساسية للنقل المحلي عبر الولايات المتحدة. وكان للعربة ميزتان على السيارات. أولهما قدرة الخيول على تفادي المطبات والطين بسهولة، مقارنةً بالسيارات التي لم تكن قادرة على ذلك، وخاصة خلال الأمطار والثلوج في الطرق الترابية المنتشرة في جميع أنحاء البلاد. أما الأمر الثاني، فهو أن صيانة الخيول والعربات كانت أسهل بكثير من صيانة السيارات الفاخرة وقتها، التي كانت تتعطل أغلب الأحيان، وتتطلب عمال صيانة ذوي خبرة ومكلفين ونادرين. وكان فهم هنري فورد لهذا هو ما أظهر له كيف يمكنه الابتعاد عن المنافسة، وفتح الطلب الهائل غير المستغل.

أطلقت “فورد” على طراز “تي” سيارة “الجماهير، المصنوعة من أفضل المواد”. ومثل “دو سوليه”، لم تكن “فورد” تتنافس مع السيارات الأخرى. فبدلاً من إنشاء سيارات عصرية مخصصة لعطلات نهاية الأسبوع في الريف، وهو ما كانت تحاول صناعة السيارات الفاخرة فعله، صنعت شركة “فورد” سيارة مشابهة للعربات التي تجرها الخيول، بمعنى آخر، مخصصة للاستخدام اليومي. وجاء الطراز “تي” بلون واحد فقط هو الأسود، مع محدودية الإضافات الاختيارية. وكانت سيارة يمكن الاعتماد عليها، متينة ومصممة للترحال عبر الطرق الترابية دون عناء في المطر أو الثلج أو حتى أشعة الشمس. كما كانت سهلة الاستخدام والإصلاح، ويمكن للناس تعلم قيادتها في يوم واحد. ومثل “دو سوليه”، خرجت “فورد” خارج الصناعة في السعر الذي عرضته، حيث نظرت إلى العربات التي تجرها الخيول والتي كان سعرها 400 دولار، ولم تنظر إلى بقية السيارات. ففي عام 1908، كلف أول طراز من “تي” 850 دولاراً، وفي عام 1909، انخفض السعر إلى 609 دولارات، وبحلول عام 1924 أصبح 290 دولاراً. وبهذه الطريقة، حوّلت “فورد” مشتري العربات التي تجرها الخيول إلى مشتري سيارات، تماماً كما حولت “دو سوليه” رواد المسرح إلى رواد سيرك. وازدهرت مبيعات الطراز “تي” لترتفع حصة فورد في السوق من 9% في عام 1908 إلى 61% في عام 1921. وبحلول عام 1923، كان لدى غالبية الأسر الأميركية سيارة.

وعلى الرغم من أن “فورد” عرضت على جمهور المشترين قفزة في القيمة، فقد حققت الشركة أيضاً أقل تكلفة في الصناعة، كما فعلت “دو سوليه” لاحقاً. فمن خلال الحفاظ على السيارات موحدة للغاية مع خيارات محدودة وأجزاء قابلة للتبديل، تمكنت “فورد” من إلغاء نظام التصنيع السائد الذي كانت فيه السيارات تُصنع على يد حرفيين مهرة، يتجمعون حول محطة عمل واحدة، ويبنون السيارة قطعةً قطعة من البداية إلى النهاية، إذ قام خط التجميع الثوري لشركة “فورد” باستبدال الحرفيين بعمال غير مهرة، كان كل واحد منهم مكلفاً بمهمة واحدة صغيرة ينجزها بسرعة وكفاءة. وسمح هذا لـ”فورد” بتصنيع سيارة في غضون أربعة أيام فقط، مقارنةً بفترة 21 يوماً وقتها، وهو ما أدى إلى توفير كبير في التكاليف.

تتعايش المحيطات الزرقاء والحمراء دائماً وستظل كذلك. ولذا يتطلب الواقع العملي أن تفهم الشركات المنطق الاستراتيجي لكلا النوعين من المحيطات. ففي الوقت الحاضر، تهيمن المنافسة في المحيطات الحمراء على مجال الاستراتيجية من الناحية النظرية والعملية، حتى مع تكثيف حاجة الشركات إلى إنشاء محيطات زرقاء. لقد حان الوقت لوضع المقاييس في مجال الاستراتيجية مع توازن أفضل للجهود في كلا المحيطين. لأنه على الرغم من وجود الاستراتيجيين للمحيط الأزرق دائماً، فإن استراتيجياتهم كانت في الغالب غير واعية إلى حد بعيد. ولكن بمجرد أن تدرك الشركات أن استراتيجيات إنشاء المحيطات الزرقاء والتقاطها لها منطق أساسي مختلف عن استراتيجيات المحيطات الحمراء، فإنها ستكون قادرة على إنشاء العديد من المحيطات الزرقاء في المستقبل.

لمحة عن إنشاء استراتيجية المحيط الأزرق

يُحدد هذا الجدول العناصر الاستراتيجية المشتركة بين إبداعات المحيط الأزرق في ثلاث صناعات مختلفة في عصور مختلفة. وليس المقصود أن تكون شاملة في التغطية أو شاملة المحتوى. لقد اخترنا إظهار الصناعات الأميركية لأنها كانت تمثل السوق الأكبر والأقل تنظيماً خلال فترة دراستنا. ويتماشى نمط إبداعات المحيط الأزرق التي تجسدها هذه الصناعات الثلاثة مع ما لاحظناه في الصناعات الأخرى في دراستنا.

إبداعات المحيط الأزرق الرئيسة
هل تم إنشاء المحيط الأزرق بواسطة جهة جديدة أم شركة قائمة؟هل كانت مدفوعة بتقنية رائدة أم ريادة في مجال القيمة؟في وقت إنشاء المحيط الأزرق، هل كانت الصناعة جذابة أم غير جذابة؟
طراز "تي" من "فورد"
كُشف النقاب عنه في عام 1908، وكان الطراز الأول من نوعه الذي يُنتج بكميات كبيرة بحيث يمكن للعديد من الأميركيين تحمل تكلفته.
وافد جديدريادة في القيمة*
(تكنولوجيا كانت معظمها موجودة)
غير جذابة
سيارة "جنرال موتورز" لكل ميزانية ولكل غاية
أنشأت "جنرال موتورز" محيطاً أزرق في عام 1924 عن طريق إدراج المتعة والأناقة في السيارة.
شركة قائمةريادة في القيمة
(بعض التكنولوجيا الجديدة)
جذابة
السيارات اليابانية ذات الكفاءة في استهلاك الوقود
ابتكرت شركات صناعة السيارات اليابانية محيطاً أزرقاً في منتصف السبعينيات باستخدام خطوط إنتاج سيارات صغيرة يمكن الاعتماد عليها.
شركة قائمةريادة في القيمة
(بعض التكنولوجيا الجديدة)
غير جذابة
كرايسلر ميني فان
أنشأت "كرايسلر" فئة جديدة من السيارات مع سيارتها الميني فان في عام 1984 كانت سهلة الاستخدام كالسيارات، إنما لديها مساحة للركاب مثل شاحنة الفان.
شركة قائمةريادة في القيمة
(تكنولوجيا كانت معظمها موجودة)
غير جذابة
آلة جدولة شركة "سي تي آر "
في عام 1914، أنشأت "سي تي آر" آخر صناعة الآلات للأعمال من خلال تبسيط وتعديل وتأجير آلات الجدولة. غيرت "سي تي آر" اسمها لاحقاً لتصبح "آي بي إم".
شركة قائمةريادة في القيمة
(بعض التكنولوجيا الجديدة)
غير جذابة
الحاسب الإلكتروني آي بي إم 650 وسيستم/360
في عام 1952، أنشأت "آي بي إم" صناعة الكمبيوتر التجارية من خلال تبسيطها وتقليل قوة وسعر التكنولوجيا الحالية، وانفجر المحيط الأزرق الذي تم إنشاؤه بواسطة 650 عندما كشفت الشركة في عام 1964 النقاب عن جهاز "سيستم/360" وهو أول نظام كمبيوتر حديث.
شركة قائمةريادة في القيمة
(650: تكنولوجيا كانت معظمها موجودة)
ريادة في القيمة وريادة تكنولوجية
(سيستم/360: تكنولوجيا جديدة وأخرى كانت موجودة)
غير موجود في الأساس
كمبيوتر آبل الشخصي
على الرغم من أنه لم يكن أول جهاز كمبيوتر شخصي منزلي، فإن الجهاز كان سهل الاستخدام بالكامل. كان "آبل تو" محيطاً أزرق عندما ظهر إلى الوجود في عام 1978.
وافد جديدريادة في القيمة
(تكنولوجيا كانت معظمها موجودة)
غير جذابة
خوادم كومباك بي سي
أنشأت "كومباك" محيطاً أزرق في عام 1992 مع خادم "بروسكانيا" الخاص بها، الذي أعطى للمشترين ضعف القدرة على الطباعة والأرشفة للكمبيوتر الصغير بثلث السعر.
شركة قائمةريادة في القيمة
(تكنولوجيا كانت معظمها موجودة)
غير موجود في الأساس
حواسب "ابنيها بنفسك" من "ديل"
في منتصف التسعينيات، أنشأت "ديل" محيطاً أزرق في صناعة شديدة التنافس من خلال إنشاء تجربة شراء وتسليم جديدة للمشترين.
وافد جديدريادة في القيمة
(تكنولوجيا كانت معظمها موجودة)
غير جذابة
نيكلوديون
فتحت أول صالة عرض من "نيكلوديون" أبوابها في عام 1905، حيث كانت تعرض أفلاماً قصيرة على مدار الساعة للطبقة العاملة مقابل خمسة سنتات.
وافد جديدريادة في القيمة
(تكنولوجيا كانت معظمها موجودة)
غير موجود في الأساس
مسارح بالاس
تم إنشاؤها على يد روكسي روثبفيل في عام 1914، وقد وفرت هذه المسارح بيئة تشبه صالات الأوبرا لمشاهدة السينما بأسعار في متناول الجميع.
شركة قائمةريادة في القيمة
(تكنولوجيا كانت معظمها موجودة)
جذابة
السينما ذات صالات العرض المتعددة من "إيه إم سي"
في الستينيات من القرن العشرين، زاد عدد صالات السينما ذات صالات العرض المتنوعة في المولات التجارية مما أعطى المشاهدين خيارات أكثر وقلل التكلفة على المالكين.
شركة قائمةريادة في القيمة
(تكنولوجيا كانت معظمها موجودة)
غير جذابة
صالات السينما العملاقة (ميغابلكس) من "إيه أم سي"
تم تقديم صالات ميغابلكس في عام 1995، التي قدمت أحدث الأفلام وتجارب مشاهدة مذهلة في صالات عرض سينما بحجم الملاعب، بتكلفة أقل لأصحاب الصالات.
شركة قائمةريادة في القيمة
(تكنولوجيا كانت معظمها موجودة)
غير جذابة
*لا تعني الريادة بحسب القيمة عدم وجود التكنولوجيا، بل تعني أن التكنولوجيا التي كانت مستخدمة كانت موجودة بالفعل، في الصناعة نفسها أو في مكان آخر.

السعي المتزامن للتميز والتكلفة المنخفضة

يتم إنشاء استراتيجية المحيط الأزرق في المجال الذي تؤثر فيه تصرفات الشركة تأثيراً إيجابياً على كل من هيكل التكلفة وعرض القيمة للمشترين. ويتم تحقيق وفرة في التكاليف من إزالة وتقليل العوامل التي تتنافس عليها الصناعة. يتم رفع قيمة المشتري عن طريق رفع وخلق عناصر لم تقدمها الصناعة مطلقاً. بمرور الوقت، يتم تخفيض التكاليف بقدر أكبر مع بدء اقتصادات الحجم الكبير، نظراً لارتفاع حجم المبيعات التي تولدها القيمة العالية.

اقرأ أيضاً:

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .