طلبتُ من المشاركين في إحدى ورش العمل أن يغمضوا أعينهم ويتذكروا أين كانوا عندما خطرت لهم أفضل أفكارهم، فقال أكثر من 80% منهم إنهم كانوا في الحمام أو في الفراش أو يركضون أو يمرحون مع أطفالهم، أي إنهم كانوا في أماكن لا تمت للعمل بصِلة. ومن بين 15,000 شخص، لم يقل أحدهم إنه يستلهم أفضل أفكاره في العمل؛ وهذا الأمر ليس مصادفة، بل هو أحد أعراض خنق القدرة على التفكير الإبداعي في بيئات العمل التقليدية.
توصّلت دراسة عام 2023 إلى أن المرح في العمل له علاقة إيجابية بالسلوك الإبداعي، فالقادة المحبّون للمرح يحفّزون فرقهم على التوصُّل إلى أفكار أكثر ابتكاراً، إضافة إلى أنهم أقدر من غيرهم على خلق بيئة عمل إيجابية. ولعلك تلاحظ أن الأطفال هم أكثر الناس إبداعاً؛ فما الذي يجيد الأطفال فعله أفضل من غيرهم؟ إنهم يمرحون.
وللتغلب على عوائق الإبداع التي تواجهك أنت وفرق مؤسستك، عليك أن تتبنى عقلية مُحبة للمرح.
كيف يؤثر المرح على الدماغ؟
أثبتت الأبحاث أن الإبداع ينطوي في كثير من الأحيان على علاقة تبادلية بين شبكة التحكم المعرفي في الدماغ المسؤولة عن التخطيط وحلّ المشكلات من جهة وشبكة الوضع الافتراضي التي تزاول عملها في أثناء شرود الذهن أو أحلام اليقظة. والواقع أن ثمة دراسات شملت كُتَّاباً وعلماء فيزياء مبدعين أثبتت أنهم يستلهمون نحو خُمس أفكارهم العبقرية عندما تشرد أذهانهم، لا عندما يركزون على مهمة محددة؛ لذلك يؤدي قضاء الوقت بين أحضان الطبيعة أو مجرد النظر من النافذة إلى تعزيز القدرة على الإبداع؛ إذ تسمح هذه الأنشطة للعقل بأن يهيم بحرية، وهو أمر قلّما تسمح به بيئة العمل المكتبية التقليدية.
هل تذكر آخر جدال دار بينك وبين أحدهم؟ ما الذي خطر ببالك بعدما مضيت راحلاً؟ خطر لك الرد المثالي، أليس كذلك؟ لكن لماذا لم يخطر ببالك خلال احتدام الجدال؟ لأن عقلك كان في حالة نشاط مفرط وكان مشغولاً بالدفاع عن نفسه، وهو ما يحدث لأدمغتنا خلال العمل؛ إذ تنشغل بالرسائل الإلكترونية والاجتماعات والتقارير والتدريبات، وهلمّ جرّاً، فلا نملك الوقت للتفكير في الغالب؛ لأن أدمغتنا محتجزة فيما يسميه العلم حالة بيتا (Beta State)، وهي حالة من الانهماك المستمر في المشاغل تحجب القدرة على الإبداع. وعندما يدخل المرء في حالة بيتا، ينشأ حاجز بين الجزأين الواعي واللاواعي من عقله،
وعلى النقيض من ذلك، فإن حالتي ألفا (Alpha) وثيتا (Theta) اللتين تتسمان بنشاط دماغي أبطأ واسترخاء ذهني أكبر تلغيان هذا الحاجز؛ فعندما يأخذ المرء قسطاً من الراحة بعد الانتهاء من مهمة أو ممارسة التأمل، مثلاً، يدخل في حالة ألفا ويصبح عقله أكثر استعداداً لتلقي الأفكار الإبداعية. وعندما يستغرق في أحلام اليقظة أو يقود سيارته مسافة طويلة أو يركض، يدخل غالباً في حالة ثيتا. وفي هذه الحالة يهيم العقل بحرية، ما يسمح للأفكار بالتدفق دون رقابة أو تفكير مفرط؛ لذلك تحدث لحظات الاكتشاف غالباً في أثناء الاستحمام أو المشي أو حتى تمشيط شعرك، وهي الأنشطة التي تنقلك تلقائياً إلى إحدى الحالتين، ألفا أو ثيتا، اللتين تُنعِشان القدرة على الإبداع، لكن كيف ننتقل من حالة بيتا إلى حالة ألفا أو ثيتا؟ بالمرح.
كيف ننتقل من هذه الحالة الذهنية المنهمكة في المشاغل إلى حالة ذهنية أكثر قدرة على الإبداع؟ إليك بعض الطرق العملية لتعزيز المرح في مكان عملك وإطلاق العنان للقدرة على الإبداع:
1. استحداث أنشطة خفيفة تبعث على المرح
يؤدي دمج المرح في مكان العمل من خلال تمارين سريعة وبسيطة إلى تعزيز القدرة على الإبداع والابتكار بدرجة كبيرة. أُطلق على هذه التمارين اسم "تمارين التنشيط"، وهي أنشطة موجزة وممتعة، مثل تمارين الرسم أو ألعاب تقمّص الأدوار التي تفضي إلى الضحك والإبداع.
على سبيل المثال، يمكنك مطالبة الموظفين برسم شخص يعرفونه دون النظر إلى الورقة، ما يؤدي إلى إثارة موجة من الضحك ويساعد على انتقال المشاركين من الحالة الدماغية المنهمكة في المشاغل والواعية (بيتا) إلى حالة أكثر استرخاءً وقدرة على الإبداع (ألفا أو ثيتا). أسمّي هذا التمرين "تمرين بيكاسو"؛ إذ أسأل الجميع عما إذا كانوا يعتقدون أنهم يستطيعون الرسم ببراعة مثل بيكاسو، فلا يرفع أحد يده، ولكن بعد الانتهاء من الرسم دون النظر إلى الورقة، ينظرون إليها فيجدون أنهم رسموا صوراً تشبه لوحات بيكاسو في واقع الأمر، ومن ثم يقهقهون ضاحكين عادة.
عندما نسمع صوت الضحك، ندرك أن هذا يشير إلى أن مَن في الغرفة أصبحوا أكثر استرخاءً. تسمح هذه الحالة بصناعة قرارات مدروسة أكثر، إلى جانب تحفيز عمليات التفكير الإبداعي؛ فقد أثبتت الأبحاث أن الضحك يعزز القدرة على حلّ المشكلات من خلال تيسير التفكير على نطاق واسع، والعثور على روابط مشتركة بين الأفكار.
كان المبدعون في الماضي يمارسون أنشطة تساعدهم على شحذ قدرتهم على الإبداع؛ فكان توماس إديسون يغفو ممسكاً كرة في كل يد كي ينبهه صوت سقوط إحداهما أو كلتيهما فيستيقظ ويسجل الأفكار الجديدة التي خطرت على باله قبل استغراقه في النوم، ما يسلّط الضوء على قوة العقل الباطن. وعلى الرغم من أن هذا السلوك قد يبدو استثنائياً، فإنه يؤكد أهمية خلق بيئات تتيح للموظفين استخدام أفكارهم اللاواعية.
ولتشجيع هذا النوع من القدرة على الإبداع في أماكن العمل المعاصرة، فكِّر في أساليب بسيطة تشجّع الموظفين على أخذ فترات راحة قصيرة، سواء كانوا يعملون في المقرات المكتبية أم عن بُعد. على سبيل المثال، بمقدور المشي السريع، أو طرح سؤال يبعث على المرح في أثناء الاجتماعات، أو حتى ممارسة تمرين اليقظة الذهنية مدة 5 دقائق مساعدتهم على انتقال أدمغتهم إلى حالة أكثر استرخاءً، ما يفتح الأبواب أمام التفكير الابتكاري. وبتنفيذ هذه الأنشطة الممتعة، يمكنك خلق مكان عمل حيوي وجذاب يسهم في ازدهار القدرة على الإبداع، ما يؤدي إلى ظهور أفكار وحلول غير مسبوقة.
2. تصميم حيز مادي يشجع على المرح
خلق حيز مادي يشجع على المرح أمرٌ بالغ الأهمية لتعزيز القدرة على الإبداع والابتكار في مكان العمل. على سبيل المثال، ارتكز تصميم ستيف جوبز لمقر العمل الرئيسي بشركة بيكسار على مفهوم العمل التعاوني دون تخطيط مسبق، مع توفير عناصر المرح في مختلف جوانب البيئة المحيطة لتعزيز القدرة على الإبداع والتفاعلات العفوية بين الأشخاص الذين لا يلتقون عادة. تضم الردهة المركزية لمقر العمل الرئيسي بالشركة مختلف أنواع الضروريات من مطاعم ومقاهٍ ومتاجر للسلع وغيرها، ما يخلق مركزاً يتيح للموظفين الالتقاء مصادفة فيتجاذبون أطراف الحديث ويبتكرون أفكاراً جديدة. وثمة غرف معينة مخصَّصة ومصمَّمة بحيث تشكّل حيزاً آمناً، مثل تلك التي يجتمع فيها أعضاء شبكة برين تراست (BrainTrust) التابعة لشركة بيكسار من أجل تقديم ملاحظات حول العمل الإبداعي. مثّل هذا المرح المدروس جزءاً لا يتجزأ من التدفق المستمر للأفكار الرائدة في شركة بيكسار.
بمقدور المؤسسات محاكاة هذا النموذج. صحيحٌ أنه ليس بوسع كل شركة أن تحاكي الاستثمار المكثف الذي ضخّته شركة بيكسار لإنشاء مقر عمل جديد، لكن بوسعها تطبيق المبدأ نفسه في حدود ميزانياتها المتاحة. على سبيل المثال، بإمكان أي شركة تحويل قاعة اجتماعات مملة إلى "مختبر" أو "بيت زجاجي" بمساعدة طلاب كليات الفنون المحليين لإعطاء إشارة ملموسة بأن الحيز المكاني مخصص لدعم الأفكار وتعزيز العقلية المُحبة للمرح، وبمقدور المؤسسات استحداث ممارسات بناء الفريق التي تشجع المحادثات الخفيفة الظل وغير المرتبطة بالعمل في أثناء الاجتماعات. خصّص بضع دقائق في بداية كل اجتماع لأعضاء الفريق لمشاركة شيء ممتع، مثل هواية مفضلة أو مغامرة خاضها أحدهم مؤخراً. تساعد لحظات التواصل الخاطفة هذه على تعزيز التفاهم وتقليل التوتر وخلق بيئة أكثر انفتاحاً وتعاوناً تتيح ازدهار القدرة على الإبداع.
3. دمج مهارة المرح بأسلوب استراتيجي
على القادة أن يتبعوا نهجاً مدروساً في استخدام أساليب تعزيز المرح لضمان توافقها مع احتياجات الفريق وأهداف النشاط، يجب أن ينظروا إليها باعتبارها أداة لإطلاق عنان القدرة على الإبداع عند الحاجة، لا حالة ثابتة أو مجرد وسيلة لتحقيق غاية وحيدة هي زيادة الإنتاجية. ولا تنسَ أن إعطاء الأولوية لرفاهة القوى العاملة سيعزز فرصك في تحقيق أهداف فريقك البعيدة الأجل.
على سبيل المثال، من المهم دمج الاقتراحات السابقة في الروتين المعتاد وفي الأوقات المناسبة لتحويلها إلى عادات، فدمج فترات راحة قصيرة وممتعة في الروتين اليومي بمقدوره نقل عقلية الموظفين من حالة بيتا المنهمكة في المشاغل والواعية إلى حالة ألفا أو ثيتا الأكثر استرخاءً وقدرة على الإبداع. بالإضافة إلى ذلك، إذا كنت تدير جلسة للعصف الذهني أو ابتكار الأفكار، فابدأ بنشاط تحفيزي عند دخول الموظفين قاعة الاجتماعات أو بعد فترات الراحة مباشرة لمقاومة العودة إلى حالة بيتا الناجمة عن التحقق من رسائل البريد الإلكتروني أو غيرها من المهام الروتينية.
يضمن هذا النهج استخدام مهارة المرح بفعالية للتنقل بين الحالات الذهنية. وفي حين ستكون الحياة ممتعة إذا امتلأت نشاطاتنا بالمرح طوال اليوم، فإن الإنتاجية تتطلب التوازن. وبتحديد التوقيت المناسب للمرح وكيفية دمجه في روتين العمل ستهيئ بيئة تتيح للموظفين الوصول إلى أقصى حالاتهم الإبداعية بانتظام، ما يؤدي إلى الابتكار والنجاح في مكان العمل.
المرح مستقبل العمل
ما لم ندمج المرح في مكان العمل، فسنعود إلى مزاولة العمل بالأساليب المعتادة، وهو ما لم يعد ممكناً في حقبة ما بعد جائحة كوفيد-19، فقد أجرت الجمعية الأميركية لإدارة الموارد البشرية (SHRM) استقصاءً عام 2024 توصلت من خلاله إلى أن 44% من الموظفين يقولون إنهم مصابون بالاحتراق الوظيفي في العمل، ومن ثم فالتمسُّك ببيئة العمل التقليدية سيؤثر سلباً على معنويات الموظفين وفرص استبقائهم. نحن الآن في عصر الأعمال غير المعتادة، الذي يُعدّ فيه تعزيز القدرة على الإبداع بالمرح والراحة والأمان النفسي ضرورة للابتكار والنجاح المستمرَين. يساعد إعطاء الأولوية لهذه العناصر على تقليل التوتر وتعزيز رفاهة الموظفين، ما يجعل مؤسستك أكثر قدرة على التحمُّل وأكثر استعداداً للمستقبل.
لذلك دعونا نتحلى بعقلية مُحبة للمرح، فمستقبل العمل يعتمد عليها.