كيف يصبح الدخلاء أصحاب ابتكارات ثورية؟

5 دقائق
ابتكارات ثورية
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: كان كل من كوكو شانيل وستيف جوبز وكاتالين كاريكو دخلاء تحدوا الصعاب وصنعوا ابتكارات ثورية. كيف ينجح الدخلاء مثل هؤلاء في حين يفشل كثيرون غيرهم؟ كشف المؤلفون في بحثهم عن 4 عوامل: (1) لم يكن الدخلاء حالات شاذة، بل كانوا منتمين إلى المنظومة لكنهم لم يفقدوا الاتصال بأطرافها الخارجية. (2) كان لدى الدخيل شخص واحد على الأقل داخل المنظومة يكفل أفكار الدخيل أو قدراته. (3) استفاد الدخلاء مما يسمى “نقاط التصدع”، مثل وفاة شخص له مكانة هامة. (4) يعتبر الدخلاء ابتكاراتهم تحدياً تسويقياً لا مجرد تحدّ تقني.

بين الحين والآخر يأتي شخص دخيل من خارج المنظومة يحمل رؤية جديدة أو طريقة جديدة للعمل ويحدث بها ثورة في مجال علمي أو قطاع أو ثقافة. خذ مثلاً كاتالين كاريكو التي تحدت كل الصعاب لتكون رائدة في تكنولوجيا الحمض النووي الريبي الرسول (رنا الرسول) (mRNA) التي قدمت للعالم في نهاية المطاف لقاحات “كوفيد-19” في وقت قياسي. كانت كاريكو ابنة جزار نشأت في منزل صغير من الطوب لم تتوفر فيه مياه جارية أو ثلاجة في الكتلة الشيوعية السابقة، وبدأت العمل على الحمض النووي الريبي كطالبة في المجر ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة في أواخر العشرينات من عمرها. على مدى عقود واجهت رفضاً مستمراً وتعرضت لازدراء زملائها بها وتلقت تهديدات بالترحيل. لكن اليوم بات عمل كاريكو الأساسي على الحمض النووي الريبي الرسول (رنا الرسول) في صميم اللقاحات التي طورتها شركات “بايونتك وفايزر” و”موديرنا”، ويدعو العديد من الباحثين الآن إلى منحها جائزة نوبل.

4 عوامل تفسر نجاح الدخلاء في تحقيق ابتكارات ثورية

كيف حدث هذا؟ عملنا على مدى 10 أعوام في البحث اعتماداً على مزيج من الأساليب النوعية وتحليل مجموعات البيانات الكبيرة والبحث التاريخي، وتوصلنا إلى 4 عوامل تفسر نجاح الدخلاء في تحقيق ابتكارات ثورية مثل كاريكو. لا تقترن هذه العوامل بالدخلاء دائماً وليس أي منها ضرورياً، لكن بإمكان كلّ عامل منها أن يزيد احتمالات أن يشق الدخيل طريقه ويصنع ابتكاراً ذا أثر هائل.

1. الدخلاء ليسوا حالات شاذة

يشير بحثنا إلى أن حالات النجاح مثل حالة كاريكو لا تحدث بسبب موقف الدخيل فحسب، بل تحدث لأنه دخيل. إذ إنه قادر على تمييز الحلول التي يغفل عنها أفراد المنظومة الداخليين نظراً لعدم ارتباطه بالقوانين والمعايير بقدر ارتباطهم بها، ومع ذلك ولأجل المفارقة فالمركز الاجتماعي الذي يمنح الدخيل منظوراً يتيح له السعي لتنفيذ مشاريعه الخيالية هو نفسه الذي يقيد حصوله على الدعم وتقدير ابتكاراته. إذن، كيف تكتسب ابتكارات الدخلاء مثل كاريكو زخماً؟

إن نمط الابتكار الذي لاحظناه في بحثنا متماسك للغاية. فالدخيل يتوصل إلى الابتكارات عادة بالعمل بناء على رؤى وخبرات جديدة على السياق الذي يدخله ولكنها مألوفة في السياق الذي ينتمي إليه. خذ مثلاً كوكو شانيل الابنة غير الشرعية لعاملة في غسيل الملابس وبائع متجول. بعد أن توفيت والدتها وتخلى والدها عنها نشأت على أيدي الراهبات في دار للأيتام، واستمدت من هذا السياق المتواضع الإلهام الأصلي لبعض أشهر مفاهيم التصميم لديها. مثلاً، يُعزى ولعها الذي يضرب به المثل باللونين الأبيض والأسود عموماً إلى تعرضها لهما في دار الأيتام على مدى فترة طويلة، إذ كانا لوني الزي الموحد للأيتام وأثواب الراهبات. وحتى شعار شانيل المميز استوحته من النافذة الزجاجية الملونة البسيطة في دار الأيتام الذي نشأت فيه، دير أوبازين.

قد تعتقد أن الدخلاء الناجحين مثل كاريكو وشانيل هم حالات شاذة لكننا توصلنا إلى أن ذلك ليس حقيقياً؛ في واحدة من الدراسات التي أجريناها قمنا بتحليل شبكة الأعمال التعاونية لقرابة 12,000 مهني في هوليوود لمعرفة ما إن كان النجاح الإبداعي يتركز في مركز المنظومة أو على أطرافها الخارجية. وقد فاجأنا ما توصلنا إليه؛ لم يكن أبرز الفنانين الناجحين هم الذين تجدهم في الأطراف البعيدة من الشبكة، ولم يكونوا “منشقين عن البشر”، كما يقول الوصف الشهير الذي أطلقه دون فالنتاين المستثمر صاحب رأس المال المغامر (الجريء) الرائد الذي أنشأ سيكويا كابيتال، على ستيف جوبز عندما التقى به لأول مرة في أواخر السبعينيات، لكنهم لم يكونوا “ملوك الشبكة” في قلب قطاعاتهم كذلك. لم يكن الدخلاء حالات شاذة؛ أظهرت هذه الدراسة أن احتمالات النجاح الإبداعي كانت في أعلى قيمها عند منطقة حدودية بين المركز والأطراف، عند الفنانين الذين ينتمون إلى المنظومة ولكن لم يفقدوا الاتصال بأطرافها الخارجية.

فالقدرة على الوصول إلى المركز تمنحهم الشرعية بينما يمدهم التواصل مع الأطراف الخارجية الحداثة، والجمع بين الشرعية والحداثة يؤدي إلى تحقيق الأثر. إحصائياً، كان أصحاب أعلى احتمالات النجاح هم الذين ثبتوا قدماً في هوليوود (حيث يمكنهم الاستفادة من الموارد والعلاقات والشرعية) وثبتوا القدم الأخرى على الحافة (حيث يواجهون أشخاصاً وأماكن وعادات غير مألوفة).

2. وراء كلّ مبتكر مثل ستيف جوبز مناصر في الداخل مثل مايك ماركولا

قد يكون التفكير كدخيل مفيد جداً، لكن ممارسة طرقه عملية معقدة. فالدخلاء غرباء، وهم لا يشغلون مناصب رفيعة، ولديهم موارد محدودة وليس لديهم مؤهلات كمؤهلات من هم على صلة بأصحاب النفوذ الذين يتحدى الدخلاء نظرياتهم أو ممارساتهم، ولذلك ليس من المستغرب أن يبقوا مستبعدين أغلب الأوقات.

يشير بحثنا إلى أن الشخص الدخيل يحتاج إلى شخص واحد على الأقل داخل المنظومة يكفل أفكاره أو قدراته من أجل تحقيق ابتكارات ثورية. بالتعاون مع أستاذ علم الاجتماع في جامعة بنسلفانيا، بول أليسون، عدنا إلى شبكة هوليوود التي قمنا بدراستها وجمعنا بيانات جديدة حول آلاف الجوائز التي منحها جمهوران مهمان في هذا القطاع، وهما النقاد والأقران. كشفت تحليلاتنا الإحصائية أن النقاد كانوا يشيدون بالفنانين الغرباء أكثر من الفنانين في الداخل، وعلى نحو معاكس يفضل الأقران في القطاع زملاءهم الداخليين. من وجهة نظر الدخيل، يعني هذا أن إحدى الإستراتيجيات الفعالة لكسب الزخم هي تحديد جمهور يتمثل في شخص أو مجموعة أشخاص ممن يبدون انسجاماً إدراكياً أو عاطفياً مع الدخيل أو أفكاره ويتمتعون بالمصداقية التي يفتقر إليها عادة.

وخير مثال على ذلك هو بداية مسيرة ستيف جوبز. رفض قطاع رأس المال المغامر دعم مشروعه مرة بعد مرة، لكنه استمر بالبحث عن جمهور يتقبله. وأخيراً التقى مايك ماركولا الذي كان مهندساً شاباً ثرياً رأى إمكانات حيث لم تر شركة رأس المال المغامر سوى عقبات، وقام بأول استثمار في شركة “آبل كمبيوتر”. لماذا دعم ماركولا جوبز؟ لأن شغفه بالتكنولوجيا وصغر سنه النسبي منحاه انسجاماً مع جوبز وشريكه ستيف ووزنياك أقوى من انسجامه مع معظم أعضاء مجتمع الاستثمار في وادي السيليكون. ومع دعم ماركولا اكتسب جوبز المصداقية التي يحتاج إليها لجذب المزيد من المواهب والمال.

3. تسمح “نقاط التصدع” بدخول الدخلاء

الطريقة الثالثة ليشق الدخلاء طريقهم إلى المنظومة هي الاستفادة مما نسميه “نقاط التصدع“، وهي الأحداث التي تولد ضغطاً شديداً على المنظومة. تعكس فئة معينة من نقاط التصدع التي كنا ندرسها أطروفة ماكس بلانك الشهيرة التي يقول فيها: “من النادر أن يشق الابتكار العلمي الهامّ طريقه بالانتصار التدريجي على خصومه وتحويلهم إلى أنصار، فمن النادر أن يتحول المعارضون إلى أنصار بل يموتون واحداً تلو الآخر”. الفكرة بسيطة: عندما يموت البواب يفسح مجالاً لدخول أشخاص جدد.

في الموسيقى على سبيل المثال يحدث ذلك بعد وفاة فنان كبير. من خلال العمل مع سايمون سانتوني من جامعة سيتي لندن، قمنا بتجميع واحدة من أكبر قواعد البيانات في العالم للموسيقيين والأغاني والجوائز الموسيقية بالإضافة إلى حالات الموت المفاجئ لنجوم بارزين مثل مايكل جاكسون أو برنس. بغض النظر عن نوع الموسيقى التي اشتهر بها الفنانون، في الأعوام التي شهدت فيها المنظومة نقطة تصدع ازدادت احتمالات حصول الفنان الدخيل على جائزة “غرامي” بنسبة 40% تقريباً بينما انخفضت فرصة حصول الفنان الداخلي عليها بنسبة 24%. وغالباً، تكون أساليب العمل التي يتبعها الفنان الفائز في عام نقطة التصدع غير نمطية مقارنة بعمله في الأعوام العادية.

4. يمثل الاضطراب تحدياً تسويقياً يمكن التغلب عليه

بعد أن واجه بحث كاريكو الرائع الرفض في جميع المجلات الهامة تم نشره أخيراً في عام 2005، ومع ذلك بقي الاهتمام به ضئيلاً على مدى أعوام. يقول شريكها في البحث درو وايسمان: “تحدثنا إلى شركات الصناعات الدوائية وأصحاب رؤوس الأموال المغامرة، لكن لم يبد أيّ منهم اهتماماً“.

تميل معظم المؤسسات والقطاعات القائمة إلى إعادة إنتاج هيكلية النفوذ والامتيازات الخاصة بالمجموعات القائمة، ما يقلل فرص الدخلاء في تحقيق ابتكارات ثورية وإيصال أفكارهم وإثبات قيمتها. لكننا توصلنا في بحثنا إلى أنه ليس على الدخلاء الشعور بالإحباط؛ فغالباً تكون السمات التي تضعهم في موقف ضعيف ضمن البنى الوظيفية والفئات المهنية القائمة هي تحديداً ما يلزم لتحقيق إنجازات استثنائية في الأعمال الريادية في الفن والعلوم والأعمال.

في كثير من الأحيان لا تكمن المشكلة الأساسية التي يواجهها الدخلاء الاستثنائيون في أفكارهم بحدّ ذاتها وإنما في بيع تلك الأفكار لتحقيق ابتكارات ثورية، وذلك بسبب تبعاتها المزعزعة على وجه التحديد. وكما نوّه الراحل كلايتون كريستنسن في كتابه الصادر عام 1997 بعنوان “معضلة المبتكر” (The Innovator’s Dilemma): “يجب أن نضع التكنولوجيا المزعزعة في إطار تحدّ تسويقي لا تكنولوجي”.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .