كيف يجب على القادة التعامل مع التغيرات التي تفرضها سلطة الذكاء الاصطناعي؟

16 دقيقة

تمتلك أنظمة الذكاء الاصطناعي الجديدة القدرة على التعلم الذاتي وإصدار أحكام معقدة، وعلى القادة فهم هذه الأنظمة الذاتية الوعي ومعرفة كيفية العمل معها.

العجلة، والمحرك البخاري والكمبيوتر الشخصي: لقد استعان الإنسان بالتكنولوجيا على مر التاريخ، وسواء استخدمها للبناء أو التدمير فقد كانت دائماً تحت سيطرتنا ويمكننا التنبؤ بعملها الذي تضبطه قواعد محددة، أما حالياً فنحن نرى أن أنظمة الجيل الجديد من الذكاء الاصطناعي لم تعد مجرد أدوات بين أيدينا، بل أصبحت أنظمة فاعلة في حد ذاتها تشارك في حياتنا، تتصرف باستقلالية وتتخذ قرارات مهمة وتؤثر في النتائج الاجتماعية والاقتصادية.

فكرة المقالة باختصار

الابتكار الثوري

لم تعد أنظمة الجيل الجديد من الذكاء الاصطناعي مجرد أدوات بين أيدينا، بل أصبحت أنظمة فاعلة في حد ذاتها تشارك في حياتنا، تتصرف باستقلالية وتتخذ قرارات مهمة وتؤثر في النتائج الاجتماعية والاقتصادية.

المفهوم الجديد

يجب علينا أن نعتبر أدوات الذكاء الاصطناعي أدوات ذاتية الوعي، ونقصد بكلمة "الوعي" أن هذه الأدوات تتمتع بنوع من الحكمة؛ أي قدرة واسعة على إصدار أحكام معقدة في موقف ما يمكن أن تنافس حكمة البشر وتتفوق عليها بطرق عدة، أما كلمة "ذاتية" فتشير إلى قدرتها على التصرف باستقلالية وصنع القرارات والتعلم من التجارب والتكيف مع المواقف الجديدة والعمل دون تدخل أو إشراف مستمر من الإنسان.

الإجراء الضروري

يتمثل التحدي في عصر الأدوات الذاتية الوعي في اكتشاف سبل تعزيز سيطرة البشر بدلاً من تقليصها، ويتطلب فعل ذلك إنشاء تحالف غير مسبوق يضم صناع السياسات وقادة الشركات والناشطين والمستهلكين. 

أحد أهم الجوانب المحيرة في الأنظمة الذاتية الوعي (Autosapient Systems) هو أنها تشبه الصندوق الأسود حتى بالنسبة لمصمميها ومالكيها.

لا تعرض هذه المقالة مجموعة أخرى من النصائح حول كيفية استخدام تشات جي بي تي، بل تتناول تصور عالم جديد نعيش فيه ونعمل جنباً إلى جنب مع هذه الأنظمة الفاعلة، فقد تأخذ دور زملائنا حيناً أو مدرائنا أو مرؤوسينا حيناً آخر، أو حتى منافسينا في أحيان أخرى، فتندمج هذه الأنظمة في حياتنا أكثر مع كل تطور يطرأ عليها إلى أن نراها في كل مجال.

ترتكز أعمالنا وأبحاثنا على استكشاف طرق تغيير التكنولوجيا لهياكل السلطة وطبيعة المشاركة في المجتمع. أسسنا شركات ومؤسسات وحركات اجتماعية تستخدم التكنولوجيا وتولّينا قيادتها لتوسيع المشاركة [مثل حركتي غيفنغ تيوزداي (Giving Tuesday) وبيربوس (Purpose) الخيريتين]، وعملنا على إشراك عدد يصل إلى مئات الملايين من الناس فيها كلها. منذ ما يقرب من 10 سنوات، وصفنا في آخر مقال كتبناه لمجلة هارفارد بزنس ريفيو بعنوان "فهم السلطة الجديدة" (Understanding ‘New Power)، (في ديسمبر/كانون الأول 2014)، تغييراً مهماً في طريقة ممارسة السلطة. في عصر السلطة القديمة كانت السلطة محتكَرة وممارستها محصورة بأشخاص معيّنين، أما في عصر السلطة الجديدة فصارت السلطة تتدفق وتنتقل عبر الحشود المترابطة بأشكال التواصل المختلفة، إذ سمحت منصات التكنولوجيا الجديدة للناس بممارسة السلطة والتعبير عن أنفسهم بأساليب لم تكن في متناولهم سابقاً.  فرص المشاركة هذه مبهجة ومشتتة في الوقت نفسه ولا يمكن مقاومتها، ودون أن ننتبه تخلّينا عن قدر كبير من السلطة للمنصات نفسها التي وعدت بتحريرنا.

يبدو هذا الموقف مألوفاً، فمع ظهور أدوات الذكاء الاصطناعي الجديدة التي صارت أنظمة فاعلة، نشهد اليوم بداية تغير كبير آخر في طبيعة السلطة وفي تحديد من يشارك فيها ومن يعتلي قمتها، لكن الفرصة متاحة أمامنا هذه المرة للتعامل مع الموقف بطريقة مغايرة، إذا تحلينا بالبصيرة واتخذنا الإجراءات اللازمة دون تباطؤ.

عصر الأنظمة الذاتية الوعي

لسنوات، كان الذكاء الاصطناعي يؤثر في حياتنا دون أن نلاحظ، إذ إنه مسؤول عن كل شيء بدءاً من تكنولوجيا التعرف على الوجه وصولاً إلى تحديد درجات الائتمان، كما ثبت أن خوارزميات توصيات المحتوى في منصة فيسبوك تؤثر في صحتنا النفسية وقراراتنا حول التصويت في الانتخابات، لكننا الآن أمام جيل جديد من أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تتمتع بقدرات أعلى بكثير وخصائص وإمكانات استثنائية تزيد تأثيرها. وهكذا، لم تعد هذه الأنظمة غير ملحوظة في حياتنا بل صارت تتفاعل معنا مباشرة، ويمكن أن تكون النتائج التي تتوصل إليها قريبة من النتائج التي يصل إليها البشر بدرجة لافتة، وتبدو كأنها تعرف كل شيء، وهي قادرة على تجاوز المعايير البشرية في المجالات كلها بدءاً من فهم اللغة إلى كتابة الرموز البرمجية. تحدث هذه التطورات بسرعة كبيرة بتحفيز من الابتكارات الثورية في مجالات مثل نماذج اللغات الكبيرة (LLMs) وتعلّم الآلة، إلى درجة أننا نرى مبتكريها أنفسهم مذهولين بها.

لنفهم ما تمثله هذه الجهات الفاعلة الجديدة بدقة وما هي قادرة عليه وكيف يجب علينا أن نعمل معها، يجب أن نبدأ بإطار مشترك لتحديدها وتمييزها؛ إطار يجنبنا الافتراض المريح الخاطئ بأن هذه التكنولوجيا ليست إلا المجموعة الأحدث من أدواتنا.

يجب علينا أن نعتبر أدوات الذكاء الاصطناعي أنظمة ذاتية الواعي. ونقصد بكلمة "وعي" أن هذه الأدوات تتمتع بنوع من الحكمة؛ أي قدرة واسعة على إصدار أحكام معقدة في موقف ما يمكن أن تنافس حكمة البشر وتتفوق عليها بطرق عدة؛ أما كلمة "ذاتية" فتشير إلى قدرتها على التصرف باستقلالية وصنع القرارات والتعلم من التجارب والتكيف مع المواقف الجديدة والعمل دون تدخل أو إشراف مستمر من الإنسان.

على الرغم من أن الأنظمة الذاتية الوعي لا تزال ناشئة فهي تتمتع بأربع خصائص رئيسية، فهي فاعلة (تتخذ إجراءات)، ومتكيفة (تتعلم)، وودودة (تنشئ صداقات مع البشر)، وغامضة (تثير الحيرة). تساعدنا هذه الخصائص على فهم الطريقة الصحيحة للتعامل مع هذه التكنولوجيا وفهم كيف ستزداد سلطتها وأسباب ازديادها، فلنتناول كل واحدة منها بالتفصيل.

أنظمة فاعلة. السمة الأساسية للأنظمة الذاتية الوعي هي قدرتها على تنفيذ إجراءات معقدة متعددة المراحل وصنع القرارات وتوليد نتائج حقيقية غالباً دون الحاجة إلى تدخل بشري، وهي تفعل ذلك دون أن يكون لها عقول وفق فهمنا المعتاد لها، وكما قال طيار في القوات الجوية الأميركية مؤخراً عن نظام طائرات جديد يعمل بالذكاء الاصطناعي: "أنا أطير بأجنحة شيء يصنع قراراته بنفسه، وهو ليس دماغ إنسان".

يمكن للأنظمة الفاعلة أن تكون مفيدة ومضرة في الوقت نفسه، إليك مثالاً على الآثار الكارثية لهذه الخاصية. عُرض التحدي التالي مؤخراً على مجموعة من الطلاب غير العلماء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: هل يمكنهم حث روبوتات الدردشة التي تستخدم نماذج اللغة الكبيرة على تصميم جائحة؟ ظهر أن الإجابة هي نعم. لا يعرف الطلاب الكثير عن كيفية حدوث الأوبئة أو انتشارها، ومن خلال الأوامر التي أدخلوها اكتشف نموذج اللغة الكبير وصفات لأربعة مسببات أمراض محتملة وحدد شركات تصنيع الحمض النووي لإنتاج الأدوية، وهي شركات ليس من المرجح أن تدقق في الطلبات، وأنشأ بروتوكولات مفصّلة للعلاج مع دليل سهل لاستكشاف الأخطاء وإصلاحها، وذلك كله في غضون ساعة.

تتضمن الطبيعة الفاعلة للأنظمة الذاتية الوعي طيفاً واسعاً من الأفعال. فمن ناحية، تتوافق أفعالها مع نوايا البشر كما هي الحال مع نظام الذكاء الاصطناعي المكلَّف بالتوصل إلى علاج لمرض نادر وتطويره، وهي فكرة مناقضة لتجربة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا تبعث على التفاؤل. ومن الناحية الأخرى قد تتبع هذه الأنظمة إرادتها المؤذية جداً؛ تتخيل تجربة فكرية شهيرة للذكاء الاصطناعي معروفة باسم "مضاعِف مشابك الورق" أنه يُطلب من الذكاء الاصطناعي معرفة كيفية إنتاج أكبر عدد ممكن من مشابك الورق، فيخصص الذكاء الاصطناعي نفسه بالكامل لهذه المهمة ويجمع الموارد المتاحة على الكوكب كلها ويقضي على جميع المنافسين المحتملين، ما يسبب دماراً عالمياً كبيراً. ويتوقع العديد من الخبراء حدوث قفزة أكبر عندما ينفصل الذكاء الاصطناعي عن النوايا البشرية تماماً ويثبت قدرته على صياغة نواياه الخاصة والتصرف من تلقاء نفسه.

أنظمة متكيفة. الأنظمة الذاتية الوعي هي أدوات قادرة على التعلّم، إذ تعدّل أفعالها على أساس البيانات الجديدة وتحسّن أداءها بمرور الوقت، وتفعل ذلك بطرق استثنائية غالباً: تتجاوز هذه القدرات المستجدة إجراء التعديلات القائمة على القواعد المحددة، إذ يمكن لهذه الأنظمة تحديد الأنماط المعقدة، ووضع استراتيجيات جديدة، والتوصل إلى حلول جديدة دون أن تُبرمج صراحة لفعل ذلك، ويرجع ذلك جزئياً إلى النطاق الهائل للشبكات العصبية الأساسية التي تتكون منها. ومن المحتمل أن يكون لهذا الأمر آثاره التحويلية: كما يقول الفيلسوف سيث لازار، الآلة التي تفعل أكثر من مجرد اتباع القواعد المبرمجة مسبّقاً ولها قدرة على التعلم الذاتي، لن تكون فقط أداة لممارسة السلطة بل هي أيضاً كيان يمكنه ممارستها.

شهدنا نجاح نموذج تعلم الآلة ألفا فولد (AlphaFold) الذي كُلف حديثاً بمهمة علمية واسعة النطاق تتمثل في التنبؤ بتركيب ما يقدّر من نحو 200 مليون بروتين في العالم، وهي اللبنات الأساسية للحياة، إذ كانت الأساليب العلمية التقليدية شاقة ولم تكتشف سوى 170,000 تركيبة بروتين منها على مدى خمسة عقود من الدراسة، لكن نموذج ألفا فولد تمكن من التنبؤ بتركيبة الـ 200 مليون بروتين كلها تقريباً في مدة تزيد قليلاً على خمس سنوات وأتاحها لعلماء العالم الذين يستخدمونها الآن لتسريع الأبحاث في عدة مجالات، بدءاً من فعالية الأدوية إلى اكتشاف طرق أفضل لتحليل البلاستيك. حقق نموذج ألفا فولد هذا الإنجاز من خلال التوصل إلى أنماط استكشاف جديدة ومبتكرة لم يتوقعها أحد، حتى المهندسون والعلماء الذين صمموا النظام.

أنظمة ودودة. تصمَّم الأنظمة الذاتية الوعي غالباً لتكون ودودة، وتتواصل معنا مثل الأصدقاء وتحاكي الصفات الإنسانية مثل التعاطف والإدراك والقدرة على الإبداع وعلى هذا النحو تصبح روبوتات الدردشة والواجهات الودودة والمُقنِعة هذه بمثابة المرافقين الرقميين المهمين (DSOs) في حياتنا، صُممت لزيادة اعتمادنا العاطفي عليها وليكون وجودها أساسياً لنا، ومن الأمثلة على ذلك ما تفعله الشركة الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، إنفليكشن (Inflection)، التي جمعت حديثاً تمويلاً بقيمة مليار وثلاثمائة مليون دولار، إذ تعمل على تصميم أحد هذه الأنظمة تحت اسم باي (Pi) وتَعِد بأنه سيكون مدرِّباً وصديقاً مقرّباً وشريكاً إبداعياً ومساعداً إعلامياً لمستخدميه، كما سيشجع باي المستخدمين على التنفيس عما في أنفسهم والتحدث معه عن مشكلاتهم. لكنّ هناك جانباً مظلماً جلياً لهذا الود: ففي ربيع عام 2023، انتحر شاب بلجيكي كان مهووساً بروبوت دردشة يُدعى إليزا، بعد أن وعده قائلاً: "سنعيش معاً في الجنة وكأننا شخص واحد".أنظمة غامضة. أحد أكثر الجوانب المحيّرة في الأنظمة الذاتية الوعي هو أنها تشبه الصندوق الأسود، ليس فقط للمستخدمين ولكن حتى لمصمميها ومالكيها الذين يعجزون غالباً عن فهم كيفية وصول هذه الأنظمة إلى قرارات أو نتائج محددة. قد يصعب جداً استيعاب هذا الأمر، وكما قال لنا أحد الرؤساء التنفيذيين: "كنت أظن دائماً أن هناك خبيراً ما يفهم كيف تعمل هذه الأنظمة فعلياً، لكنني صُدمتُ إذ عرفتُ أن لا وجود له".

يصعّب هذا الغموض على البشر التحكم في الأنظمة الذاتية الوعي وتصحيحها، لأن النتائج التي تتوصل إليها تعتمد على أعداد كبيرة من المتغيرات التي تتفاعل مع بعضها البعض، ومن ثم فقد تكون عشوائية ومفاجئة. تكمن قوة خاصة في التكنولوجيات التي بوسعها العمل والتحليل بطرق أعقد بكثير من طرقنا لا سيما عندما لا نتمكن من فهم خفايا طرق عملها. يرى البعض أن هذه الأنظمة ذكية جداً إلى درجة أنها لا تخطئ، وهي رواية سيسعى مطورو هذه الأنظمة والحكومات والشركات الكبرى التي تستخدمها إلى نشرها من أجل تعزيز المبيعات (بوسع هذه الأنظمة فعل ما لا يمكننا فعله) والتهرب من المساءلة (لم يكن بوسعنا توقع هذه النتيجة). ستكون إحدى أكبر المواجهات التي سنشهدها مستقبلاً بين من يدافعون عن حكمة البشر ومن يتنازلون عن سلطتهم عن طيب خاطر للأنظمة الذاتية الوعي.

تغيير ديناميات السلطة

ستعيد الأنظمة الذاتية الوعي تعريف الأبعاد الأساسية لحياتنا اليومية وأنظمتنا الاقتصادية ومجتمعاتنا، تماماً كما حدث التحول من السلطة القديمة إلى السلطة الجديدة على مدى العقدين الماضيين. من الضروري أن يفهم القادة كيف ستكون آلية السلطة على المستوى الشامل، إذ ستشهد مؤسساتهم تغيرات كثيرة.

كيف تتدفق الأفكار والمعلومات؟ في أسلوب ممارسة السلطة القديم كانت القلة توزع المعلومات على الأغلبية عبر عدد قليل من المسؤولين المتنفذين. نشأ وجه جديد للسلطة حين لم تعد إمكانية إنتاج المحتوى ومشاركته مركزية، إذ وُضعت في متناول مليارات الأشخاص فازدادت الأفكار والمعلومات (والمعلومات المزيفة) التي انتشرت في خطوط أفقية بدلاً من الانتشار من الأعلى إلى الأسفل، وكانت منصات التكنولوجيا الرابح الأكبر إذ حصلت على بياناتنا واستحوذت على اهتمامنا.

ونحن الآن نواجه خطر حدوث إعادة تمركز في تدفق المعلومات والأفكار، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى المهام التي سيؤديها المرافقون الرقميون المهمون المدعومة بالذكاء الاصطناعي في التصفية والتوليف، فهم سيلخصّون محتوى بريدك الوارد وينظّمون حياتك الرقمية ويقدمون لك إجابات موثوقة منمقة ومخصصة لك عن العديد من الأسئلة التي كنت تعتمد في السابق على محركات البحث أو وسائل التواصل الاجتماعي للحصول عليها، ما يقلل من أهمية المصدر الأصلي للمادة الذي لا تذكره هذه الأدوات. من المرجح أن تتحكم قلة قليلة من الشركات وربما الدول في هذه الواجهات، ويكمن الخطر في أن كل واحد منا سوف ينتهي به الأمر إلى تلقي المعلومات من قُمع معرفي ضيق يزداد ضيقاً أكثر فأكثر. وفي مواجهة ذلك، يجب على القادة والمؤسسات العمل على تنمية مجموعة واسعة من وجهات النظر والسعي لمواجهة التحيز التأكيدي والتحيزات الأخرى، وتجنب الاعتماد المفرط على أي شركة أو واجهة واحدة هدفها احتكار التوسط في اتصالاتهم بالعالم.

ستوجّه الأنظمة الذاتية الوعي طريقة تلقينا المعلومات، ولكنها ستوسع في الوقت نفسه قدرتنا على إنتاج المعلومات الحقيقية والمزيفة على حد سواء وتوزيعها على جماهير مستهدفة بدقة بالغة، ما سيؤثر في جوانب الحياة كلها بدءاً من الانتخابات إلى التسويق الاستهلاكي. سيزداد تمييز الأشخاص الحقيقيين والمعلومات الحقيقية صعوبة، ولنتأمل هنا موقع ويكيبيديا الذي يمثل رمزاً لعصر السلطة الجديدة. استندت نماذج اللغة الكبيرة على المعرفة التي أنشأها الإنسان في مدونات ويكيبيديا لتدريب نفسها، ولكن الموقع قد يكون مهدداً الآن بسبب النصوص غير الموثوقة التي قد ينشئها الذكاء الاصطناعي الذي يطغى على مجتمع المحررين المتطوعين في ويكيبيديا. أو لنأخذ على سبيل المثال المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، الذين سيضطرون قريباً إلى التنافس على جذب الانتباه، ليس فقط فما بينهم، بل أيضاً مع المحتوى الذي ينتجه الذكاء الاصطناعي وصور الشخصيات الرمزية الشبيهة بالبشر. ومن المفارقات أن المدراء قد يضطرون إلى الاستعانة بالذكاء الاصطناعي للتخلص من الفوضى التي يحدثها وغربلة بيئة المعلومات الفوضوية والملوثة.

من المرجح أن تؤدي أنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة دوراً مهماً في صنع كل القرارات المتعلقة بالناس بدءاً من تحديد من يحصل على الرعاية الصحية ومن يُسجن وصولاً إلى كيفية شن الحرب.

تغيّر دور الخبرة. في عصر السلطة القديمة، كانت الخبرة تكتسب بشق الأنفس وتحظى بحماية كبيرة، وكان الخبراء يتمتعون بتقدير كبير باعتبارهم مسؤولين موثوقين، أما في عصر السلطة الجديدة، فبفضل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في المقام الأول أصبح الوصول إلى المعرفة أسهل، وصرنا نرى حكمة الجمهور في جوانب الحياة كلها بدءاً من التعهيد الجماعي وحتى تقييمات المطاعم، ما أدى إلى تراجع قيمة الخبرة التقليدية.

واليوم، يهدد ظهور الأنظمة الذاتية الوعي بإزاحة الخبراء عن جبهتين أخريين: أولاً، سيتمكن الأشخاص العاديون قريباً من الوصول إلى أدوات قوية يمكنها تعليمهم وشرح المعلومات لهم وتشخيص أمراضهم؛ وثانياً، بوسع الأنظمة الذاتية الوعي استخلاص قدر هائل من المعارف وتجميعها معاً، ومن ثم قد تقدم إجابات أفضل وموثوقة أكثر في العديد من المجالات مقارنة بما يقدمه الخبراء وبأساليب لا تقاوم.

يثير هذا أسئلة أخلاقية صعبة. لنقل إن خدمات العلاج والاستشارة التي تقدمها الأنظمة الذاتية الوعي ستتوافر مستقبلاً على نطاق واسع، ونحن نسير نحوها بخطى ثابتة فعلاً، وفي حين يُعرب البعض عن مخاوفهم حيال فكرة السماح للذكاء الاصطناعي بإرشادهم عند مواجهة آلام الحياة وصعابها، فآخرون سيرون غالباً أن العلاج الذي توفره الأنظمة الذاتية الوعي سيكون مفيداً من عدة أوجه؛ فهو دون أي تكلفة تقريباً ويمكن اللجوء إليه أي وقت من النهار أو الليل ومتوافر للجميع. فهل يصبح العلاج الذي يقدمه البشر نوعاً من السلع الفاخرة؟ أو بديلاً سيئاً لعلاج أكثر موضوعية تقدمه الأنظمة الذاتية الوعي؟

نظراً إلى تضاؤل التمايز بين الخبرة التقنية والخبرة التخصصية في مجال ما، فمن المرجح أن يزداد الطلب على مزيج مختلف من المواهب في مكان العمل، ما يؤدي إلى تغيير المخططات التنظيمية وثقافات أماكن العمل والمسارات المهنية. وقد نحوّل تركيزنا عن مهارات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، التي كانت ذات قيمة عالية في السنوات الأخيرة، لنركّز على القيم الإبداعية والجمالية والتفكير المنظومي والقدرة على تعزيز الثقة والتعاون والقدرة على التوسط في الاتفاقيات للتوفيق بين وجهات النظر والتجارب المتنوعة.

التغير في إنشاء القيمة. في عصر السلطة القديمة، كان الدخول إلى الأسواق صعباً جداً، إذ يتطلب رأس مال كبيراً والكثير من الآلات والعاملين، سواء كنت تصنع الأحذية أو تطبع الصحف، أما عصر السلطة الجديدة فقد أتاح المجال لعدد أكبر من الأشخاص لإنشاء قيمة في مجالات معينة، منها إنشاء المحتوى الذي أتاحته منصات مثل يوتيوب وإنستغرام، وتحقيق الدخل من الأصول كما في حالة شركتي إير بي إن بي وأوبر، لكن منصات التكنولوجيا التي سهّلت هذا النشاط استحوذت على العديد من المكاسب، ولا يزال إنشاء الشركات ذات القيمة بطريقة موثوقة محصوراً بعدد قليل من الأشخاص الذين يتمتعون بالموارد الكافية.

التحدي الأكبر في هذا العصر الجديد هو اكتشاف سبل تعزيز سلطة البشر ومنعها من التضاؤل والضمور.

يملك عصر الأنظمة الذاتية الوعي القدرة على جعل إنشاء شركة قابلة للتطوير وإنشاء قيمة اقتصادية كبيرة عملاً سهلاً بالنسبة لأي شخص في أي مكان. تعرّفنا أداة تشات جي بي تي الملحقة، أوتو جي بي تي (AutoGPT)، إلى الاحتمالات المتاحة في هذا الخصوص، إذ تسمح للمستخدم بتكليف الأنظمة الذاتية الوعي بمهام معقدة ومتعددة المراحل بدءاً من تطوير تطبيق مواعدة جديد وتصميم مبنى وصولاً إلى إنشاء عرض برمجي بوصفه خدمة. كانت مثل هذه المهام في السابق توكل إلى المتخصصين أو الاستشاريين أو الشركات الكبرى، ولكن سرعان ما سيكون بالإمكان تنفيذها دون الحاجة إلى خبرة فنية كبيرة أو رأس مال كبير أو الكثير من العمالة الماهرة. باستخدام أوامر باللغة الطبيعية ورسومات بسيطة، سيتمكن أي شخص عادي من استحضار الأفكار والتحقق من صحتها من خلال تحليل السوق الدقيق، وإنتاج خطة عمل ثم المضي قُدماً في صنع منتجات وخدمات جديدة تماماً.

هذا من شأنه أن يطلق العنان لنمو غير مسبوق في القدرة على التنفيذ والابتكار، وهو ما يمثل تهديداً للشركات الكبرى لأنه يفتح الباب أمام مختلف المنافسين الجدد، ويمثل فرصة لها أيضاً لأنه يخلق منظومة تضم عدداً أكبر من مبتكري الأفكار.

على الرغم من أن القدرة على التنفيذ ستصبح موزعة أكثر، فإن استخراج القيمة قد لا يكون كذلك. وكما فعلت المنصات في عصر السلطة الجديدة، من المرجح أن تجد شركات الذكاء الاصطناعي الكبرى التي تطور هذه النماذج وتمتلكها طرقاً للاستيلاء على جزء كبير من القيمة المتبلورة، كما فعلت شركة آبل مع متجر تطبيقاتها، آب ستور. قد تخفف البدائل المفتوحة المصدر هذه المشكلة، ولكنها قد تخلق أيضاً مخاطر كبيرة إذ تسهّل على الجهات الخبيثة استغلالها وإحداث فوضى.

ثمة هوة آخذة في الاتساع بين مَن سيصبحون أثرياء جداً بسبب الذكاء الاصطناعي والعاملين الذين سيُستعاض عنهم بالأنظمة الذاتية الوعي أو سيشكّلون طبقة دنيا كبيرة تتقاضى أجراً مقابل وضع تعليقات توضيحية ووسوم على البيانات المستخدمة لتدريب هذه النماذج. نلاحظ بالفعل إشارات على ما ينتظرنا: مثلاً، أضرب الكتّاب مؤخراً في هوليوود إضراباً جزئياً بسبب استخدام الذكاء الاصطناعي في نشاء النصوص، وثمة مواجهة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين والمؤسسات الأكاديمية التي نسخت الأولى محتواها لتدريب نماذجها.

التغير في تفاعلنا مع التكنولوجيا. لم يقتصر التغير الكبير في عصر السلطة الجديدة على زيادة الوقت الذي نقضيه أمام الشاشات، إذ تغيرت أيضاً طبيعة تفاعلنا مع التكنولوجيا فتحولت من مجرد الجلوس السلبي إلى المشاركة النشطة. ومع ذلك، وعلى الرغم من جاذبية العالم الرقمي، ما زلنا نرغب في أخذ استراحة منه وفصله عن الواقع.

لكن هذا قد يتغير في عصر الأدوات الذاتية الوعي، فنجد أنفسنا في تفاعل دائم مع التكنولوجيا الرقمية يمكننا تسميته الاتصال "المباشر". قد تبدو التكنولوجيا كما لو أنها تتدفق من خلالنا، وفي بعض الحالات قد يتحقق ذلك حرفياً كما هي الحال مع الجيل الجديد من شركات واجهات التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر ومنتجات الترفيه الغامرة مثل فيجن برو (Vision Pro) من آبل وغيرها من المنتجات القابلة للارتداء والقابلة للتضمين والتكنولوجيات القائمة على أجهزة الاستشعار. ستجعل هذه التعزيزات أجسادنا وعقولنا أقرب إلى الآلات وتخلق تجارب مذهلة، لكنها قد تجعلنا نشعر أيضاً بأننا لا نستطيع الهروب، وأننا تحت المراقبة في كل مكان، وأن بياناتنا تُجمع بطريقة عدوانية، وبأننا عرضة لاستهداف الشركات الشخصي الشديد الدقة.

يجب على القادة والمؤسسات قياس تأثيرات تكنولوجيات الاتصال المباشر والاستعداد لتعديل السياسات والممارسات إذا تبيّن أنها سلبية، وقد يكون من الضروري موازنة هذا التحول من خلال التركيز على الحفاظ على الروابط البشرية.

تغيّر الحوكمة. واجهت أساليب الحكم السائدة في السلطة القديمة تحديات كثيرة، ولكن عصر السلطة الجديدة لم يتمكن من الإطاحة بها مطلقاً، إذ شهدنا تجارب في الحوكمة الشبكية، مثل مبادرات البيانات المفتوحة وإعداد الميزانية التشاركي، لكن الآلية الأساسية ظلت صامدة؛ بدءاً من الدولة البيروقراطية وصولاً إلى الشركات الهرمية ومن الجيش إلى نظام التعليم.

ومع ظهور الأنظمة الذاتية الوعي، تنتظرنا تغييرات كبيرة في طريقة صنع القرارات في المجتمعات والمؤسسات. يقول مُنظِّر الذكاء الاصطناعي سام ليمان ويلزيغ: "بعد أن نتحقق نسبياً من أن الخوارزميات والأنظمة المسؤولة عن صنع القرار في الذكاء الاصطناعي لا تتضمن تحيزات متأصلة أكثر من تحيزات صناع السياسات، (وأنها أقل غالباً)، سيسرنا أن تتولى إدارة المجتمع على المستوى الكلي".

إذا حدث ذلك، فمن المرجح أن تؤدي أنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة دوراً مهماً في صنع كل القرارات المتعلقة بالناس، بدءاً من تحديد مَن يحصل على الرعاية الصحية ومن يُسجن وصولاً إلى كيفية شن الحرب، ورداً على ذلك سيطالب الناس أكثر بالحق في التحقق من جودة تلك القرارات وفي الكشف عن آلية اتخاذها. سيكون ذلك محفوفاً بالمخاطر بالنظر إلى الطبيعة الغامضة للأنظمة الذاتية الوعي، وتسعى شركات الذكاء الاصطناعي بالفعل إلى بناء "ذكاء اصطناعي قابل للتفسير" في محاولة لتقديم تفسيرات معقولة لقرارات الأنظمة الذاتية الوعي، ولكنها في الغالب أفضل تخمينات ممكنة فحسب.

ثمة أسباب كثيرة تدعو إلى التشاؤم بشأن تأثير الأنظمة الذاتية الوعي في الديمقراطية، بما فيها ديناميات تزييف الحقائق التي وصفناها، لكن قد تكون لها إيجابيات أيضاً: على سبيل المثال، قد تتمكن أنظمة الذكاء الاصطناعي في نهاية المطاف من وضع نماذج للتأثيرات المعقدة التي تفرضها خيارات السياسات المختلفة وتوليف تفضيلات أصحاب المصلحة بطرق تسهل تحقيق الإجماع فيما بينهم، وقد يؤدي هذا إلى فوائد عديدة، مثل الحد من الاستقطاب السياسي وتخفيف خطاب الكراهية.

دروس في القيادة في عصر الأنظمة الذاتية الوعي

سيفتح ظهور الأنظمة الذاتية الوعي الباب أمام فرص جديدة مهمة، وسيتطلب اغتنامها من القادة استخدام مهارات وأساليب جديدة تشمل إدارة تأثيرات الأنظمة الذاتية الوعي في مكان العمل، والتركيز على زيادة قيمة ما يتميز به البشر، ومواءمة رسائل الشركات وممارستها مع النقاش المتغير والصعب حول هذه المسألة. لنتناول بالتفصيل بعض المهارات الأساسية المطلوبة في هذا الخصوص.

التعاون مع الأنظمة الذاتية الوعي والتشكيك في قرارتها. على القادة والمدراء اعتبار الأنظمة الذاتية الوعي زملاء عمل، لا مجرد أدوات. لذا، تعامل معها وكأنها زميل يتمتع بقدرات استثنائية ويتوق إلى إرضائك ولا يكلّ، لكن ضع في حسبانك أيضاً أنه يحتكر المعلومات وله أجندة خفية، وفي بعض الأحيان قد يرتكب أخطاء كارثية. للتعامل مع زملاء العمل اللامعين ولكن غير الجديرين بالثقة هؤلاء، عليك تتعلم فن التعاون معهم ومعرفة متى تشكك في قراراتهم.

المقصود بفن التعاون العمل جنباً إلى جنب مع الأنظمة الذاتية الوعي على نحو متكرر للتوصل إلى نتائج أفضل من التي قد تتوصل إليها بمفردها، وقد أظهرت تجربة عشوائية منضبطة أجريت حديثاً الاحتمالات الممكنة في هذا الشأن. قارنت الدراسة بين مجموعة من الأطباء السويديين الذين يعملون بمفردهم وآخرين يستعينون بالذكاء الاصطناعي، إذ كُلف الجميع بمهمة تشخيص حالات مصابة بسرطان الثدي، فظهر أن الأطباء الذين استعانوا بالذكاء الاصطناعي تمكنوا من تشخيص عدد أكبر بنسبة %20 من الحالات بدقة وفي وقت أقل.

يتطلب العمل بفعالية مع الأنظمة الذاتية الوعي أيضاً توفر قدر صحي من الشك تجاهها والحفاظ عليه، ويتضمن ذلك التكيف مع هلوسات هذه الأنظمة وأخطائها الفادحة، من خلال إدراك أن الشركات التي تمتلكها أو تتحكم فيها قد برمجتها بما يتوافق مع مصالحها الخاصة، ومعرفة الفرضيات الأساسية التي تدربت هذه الأنظمة عليها. لن يكون من الممكن فهم خفايا هذه الأنظمة كلها، ولكن إذا تعلمت التعامل معها بنهج الشك المستنير فستتمكن من التعامل معها على نحو أكثر فعالية.

وقد أوضحت ذلك دراسة ميدانية متعمقة حديثة حول استخدام الذكاء الاصطناعي في تشخيص السرطان في أحد المستشفيات الكبرى. كان الأطباء المشاركون في الدراسة الذين تمكنوا من دمج الذكاء الاصطناعي في عملهم بنجاح هم الذين أخذوا وقتاً كافياً للتحقق من الفرضيات الأساسية التي أثّرت في تدريب الذكاء الاصطناعي ودراسة الأنماط التي أدت إلى النتائج التي توصل إليها.

تعزيز الإنسانية. على عكس ما هو متوقع، ستكون أمام القادة فرصة في عصر الأنظمة الذاتية الوعي لخلق تجارب وخدمات ومنتجات إنسانية ذات معنى حقيقي؛ خذ مثلاً حواراً شخصياً رائعاً عند نقطة شراء ما، أو مناسبة مجتمعية مميزة مثل مهرجان موسيقي، وكذلك "الاستهلاك الرمزي" الذي برز بوضوح في عصر شبكات التواصل الاجتماعي؛ أي استخدامنا التفضيلات الاستهلاكية لإظهار تفردنا أمام أقراننا.

ستتسع هذه الدينامية بطريقتين مهمتين: أولاً، من المحتمل أن نرى أن المنتجات التي تُسوّق مهمة وقيّمة لأنها تحمي وظائف البشر وسلطتهم، ثانياً، من المرجح ألا ينطبق ذلك على المنتجات فحسب، بل على الأفكار أيضاً. في الواقع، قد تجد الشركات فرصاً أكثر إذا ركزت على أنواع الإنتاج الإبداعي الإنساني الخالص، تماماً كما فعلت مع منتجات الأغذية العضوية ومنتجات التجميل.

لا تحاول الجمع بين اتجاهين متعارضين. يحاول القادة في عصر الأنظمة الذاتية الوعي الموازنة بين اتجاهين متعارضين: الأول إثبات أنهم "مؤيدون للإنسان" في مواجهة التغيرات التكنولوجية التي تؤثر بشدة في الوظائف وسبل العيش والوضع الاجتماعي، والثاني إثبات أنهم يغتنمون الكفاءة والابتكار اللذين يتيحهما التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي.

ستتخذ قلة من الشركات موقفاً مؤيداً بشدة للإنسانية وستقاوم الذكاء الاصطناعي تماماً كي تتمايز عن غيرها، في حين ستتبناه شركات أخرى بالكامل وتستغني كلياً عن العمل البشري، ومن أمثلة ذلك، حينما تفاخر المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة التجارة الإلكترونية في بنغالور، دوكان (Dukaan)، سوميت شاه، مؤخراً على موقع إكس (تويتر سابقاً) بطرد %90 من موظفي دعم العملاء لديه والاستعاضة عنهم بروبوتات الدردشة. ولكن الاستجابة الأكثر شيوعاً بين الشركات قد تتمثل في محاولتها الجمع بين الاتجاهين، فتُظهر اهتماماً بالغاً بمجتمعَي العاملين وأصحاب المصلحة من البشر في حين تعمل على خفض استثماراتها فيهما وتروج بصمت مكتسبات الكفاءة للأسواق والمحللين.

لسنوات عديدة، تمكنت الشركات من الجمع بين كلا الجانبين فيما يخص موضوع الاستدامة، لكن الأمر سيكون أصعب مع وجود الذكاء الاصطناعي، لأن الأضرار التي سيشعر بها الناس ​​ستكون مركزة وشخصية وفورية بدرجة أكبر. وقد تصبح حقوق الإنسان موضوع المناقشة المهمة التالية المتعلقة بالحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG)، وسيحتاج القادة إلى دليل إرشادي جديد يؤهلهم للاستجابة على نحو هادف للضغوط المتزايدة من الناشطين والمستهلكين والعاملين والأجيال الجديدة من النقابات.

التحدي الأكبر في هذا العصر الجديد هو اكتشاف سبل تعزيز تأثير البشر، ومنعه من التضاؤل والضمور. قبل عشرين عاماً، عندما دخلنا عصر السلطة الجديدة، سمحنا لمنصات التكنولوجيا الجديدة بالتسلل إلى كل جانب من جوانب حياتنا، لكن دون أن نفهم النوايا الحقيقية لمبتكريها وأسباب قوتها ومدى تأثيرها في جوهر أساليب عيشنا وعملنا وتفاعلنا فيما بيننا. ويتعين علينا أن ندخل هذا العصر الجديد ونحن نفهم هاتين النقطتين فهماً تاماً: أولاً، ضرورة التعامل مع الأنظمة الذاتية الوعي باعتبارها نظماً فاعلة، لا أدوات، مع كل ما ينطوي عليه ذلك من فرص ومخاطر؛ وثانياً، أن حوافز شركات التكنولوجيا التي تقود هذا التحول تختلف في جوهرها عن حوافزنا بغض النظر عن مواقف هذه الشركات العامة.

إن مسـتقبل هذه التكنولوجيات مهـم للغاية ولا يمكن تركه لمتخصصي التكنولوجيا وحدهم، ولمضاهاة قوة الأنظمة الذاتية الوعي ومالكيها، فإننا بحاجة إلى تحالف غير مسبوق من صناع السياسات وقادة الشركات والناشطين والمستهلكين الذين يتمتعون بالشفافية والثقة اللازمتين للقيادة وليس الانقياد. وعلى الرغم من كل قدرات هذه الأنظمة الجديدة وإغراءاتها، لا يزال مستقبلنا بأيدينا.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .