مخاطر التفكير التصنيفي

20 دقيقة
نحن مفطورون على ترتيب المعلومات ضمن فئات في أدمغتنا – وهذا يمكن أن يشكّل عائقاً أمام قدرتنا على اتخاذ قرارات جيدة.
قل "تا". قل "دا". الآن كرّر هذين الصوتين، وفي كل حالة انتبه إلى الطريقة التي تُصْدِر بها الصوت في فمك. ما هو الفرق؟

هذا سؤال خادع أليس كذلك؟ ليس هناك فرق. ليس ما يحصل في فمك هو ما يجعل هذه الأصوات مختلفة. بل "زمن بدء الصوت" – أي الفرق بين الزمن الذي تبدأ فيه بتحريك لسانك والزمن الذي تبدأ فيه بهز حبالك الصوتية. فإذا كان الزمن هو بحدود 40 ميلي ثانية تقريباً، فإنك ستسمع "تا". أما إذا كان أقل من 40 ميلي ثانية، فإنك ستسمع "دا".

المذهل في الأمر هو أنك لا تسمع أي شيء آخر سوا "تا" و"دا". فإذا كان متحدثان يقعان على الجانب ذاته من الخط الفاصل عند 40 ميلي ثانية، لا يهم إذا كانت أزمنة بدء الصوت لديهما تختلف اختلافاً دراماتيكياً. فقد يكون الزمن لدى شخص ما 80 ميلي ثانية، في حين قد يكون الزمن لدى شخص آخر هو 50 ميلي ثانية، لكنك في كلتا الحالتين ستسمع "تا". وإذا ما كان زمناهما يقعان على جانب الخط الفاصل، فإن فارقاً يبلغ 10 ميلي ثانية فقط، يمكن أن يحدث فرقاً كبيراً. فإذا كان زمن بدء الصوت لدى شخص ما هو 45 ميلي ثانية، ستسمع "تا". وإذا كان زمن الشخص الآخر هو 35 ميلي ثانية، فإنك ستسمع "دا". هذا غريب لكنه حقيقي.

استمتع الناس كثيراً على الإنترنت في الآونة الأخيرة بخدع "إما – أو" التي تمارسها أدمغتنا معنا. هل تتذكرون صورة الفستان الذي كان الناس يرونه إما باللونين الأسود والأزرق أو باللونين الأبيض والذهبي؟ في هذه الحالة، وكما هو الحال مع "تا" و"دا"، فإن الناس يقعون على أحد جانبي الخط التصنيفي الفاصل، وهم مستعدّون للمراهنة بكل ما يملكون دفاعاً عن فكرة أن تصورهم "صحيح".

عقلك هو عبارة عن آلة تصنيف، تنشغل طوال الوقت باستقبال كميات هائلة من البيانات الفوضوية ومن ثم تبسيطها وهيكلتها بحيث يكون بوسعك أن تفهم العالم. هذه واحدة من أهم قدرات العقل؛ فمن الأهمية القصوى بمكان أن تكون قادراً على أن تميز وبلمح البصر ما إذا كان الشيء الذي أمامك هو أفعى أم عصا.

فكرة المقالة بإيجاز

المشكلة

نحن جميعاً نتّبع طريقة التفكير التصنيفي أو الفئوي، لسبب وجيه: فهي تساعدنا في فهم العالم. ولكن في عالم الأعمال، يمكن للتفكير التصنيفي أن يقود إلى أخطاء جوهرية في عملية اتخاذ القرار.

العواقب

عندما نصنّف الأشياء ضمن فئات، فإننا نضغط أعضاء الفئة، ونعاملهم كما لو أنهم أكثر تشابهاً مما هم فعلاً؛ ونضخّم الفروقات الموجودة عبر الفئات؛ ونمارس التمييز، بحيث نفضّل بعض الفئات على بعضها الآخر؛ ونتحجر كما لو أن البنى التي فرضناها ساكنة.

الحل

بوسع القادة المتأنين تجنّب الضرر الناجم عن التفكير التصنيفي بأربع طرق: من خلال ضمان فهم الجميع لأخطار التصنيف ضمن فئات، وتطوير طرق للتحليل المتواصل للبيانات، وإخضاع معايير اتخاذ القرار للتدقيق، والسعي إلى "تفكيك تحجّر" الفئات والتصنيفات.

.

لكي تكون لأي تصنيف قيمة، يجب أن يتوفر فيه أمران: الأول، يجب أن يكون التصنيف "صالحاً". فأنت لن تستطيع تقسيم مجموعة متجانسة اعتباطياً فحسب. وكما يقول أفلاطون، فإن التصنيفات الصالحة "يجب أن تساير الحدود الفاصلة التي ترسمها الطبيعة بين الأشياء كما في المفاصل" – كما هو حال الأفاعي والعصي. ثانياً، يجب أن يكون التصنيف مفيداً. والفئات يجب أن تتصرف بطريقة مختلفة تهمّك نوعاً ما. من المفيد التمييز بين الأفاعي والعصي، لأن ذلك سيساعدك على البقاء على قيد الحياة وأنت تمشي في الغابات.

يبدو أن الأمور مقبولة حتى الآن. ولكن في عالم الأعمال نحن غالباً ما نوجد تصنيفات ونعتمد عليها رغم عدم صلاحيتها أو عدم فائدتها، أو كليهما معاً – وهذا الشيء يمكن أن يقود إلى أخطاء كبيرة في عملية اتخاذ القرار.

خذ على سبيل المثال، مؤشر مايرز بريغز للأنماط، وهو أداة لتحليل الشخصية، الذي يشكّل، بحسب ناشره، أساساً تعتمد عليه أقسام الموارد البشرية في أكثر من 80% من الشركات المدرجة على قائمة "فورتشن 500". وهو يطلب من الموظف الإجابة عن 93 سؤالاً ينطوي كل واحد منها على إجابتين محتملتين، وبناءً على هذه الإجابات، يصنفهم ضمن 16 نمطاً للشخصية. لكن المشكلة تكمن في أن هذه الأسئلة تتطلب إجراء تقويم معقد ومتواصل. هل تعتمد أكثر على الحقائق أم على الحدس؟ معظما ربما يفضل أن يجيب قائلاً: "حسناً، الأمر يختلف من حالة إلى أخرى" – لكن الاختبار لا يمنحك هذا الخيار. لذلك فإن المجيبين عن الأسئلة مضطرون إلى أن يختاروا هذا الجانب أو ذلك، وأن ينتقوا خيارات قد لا ينتقونها مجدداً فيما لو أجروا الاختبار مجدداً. تُلخصُ الإجابات عن الأسئلة، ثم يُعطى المشارك في الاختبار تصنيفاً معيّناً كأن يقال عنه أنه "منبسط" وليس "انطوائياً"، أو "حكمي" وليس "إدراكياً". هذه التصنيفات هي ببساطة غير صالحة. ولا يعتبر الاختبار مفيداً أيضاً: فنمط الشخصية لا يتنبأ بنتائج مثل النجاح في العمل والرضا الوظيفي.

لماذا إذاً يحظى مؤشر مايرز بريغز بهذه الشعبية؟ لأن التفكير التصنيفي (أو التفكير الفئوي كما يسمى أيضاً) يولد أوهاماً قوية.

يمكن للتفكير التصنيفي أن يكون خطراً بأربع طرق مهمة. فهو يمكن أن يقودك إلى ضغط أعضاء فئة معيّنة، ومعاملتهم كما لو أنهم أكثر تشابهاً مما هم عليه؛ وتضخيم الفرق بين أعضاء فئات مختلفة؛ والتمييز بحيث تفضّل بعض الفئات على أخرى؛ والتحجر بحيث تعامل البنية التصنيفية التي فرضتها كما لو أنها كانت ساكنة.

الضغط

عندما تُصنف أي شيء ضمن فئات، فإنك تفكر وفق نماذج نمطية. لكن ذلك يسهّل نسيان الحجم الكبير من التنويعات الموجودة ضمن الفئة التي أسستها.

خرافة الزبون المستهدف. بحسب القصة التي يرويها تود روز في كتابه "نهاية عصر المتوسطات" (The End of Average)، أجرت صحيفة في كليفلاند مسابقة في عام 1945 للعثور على المرأة التي تمثل النمط النموذجي تشريحياً. قبل ذلك بفترة غير بعيدة، كانت دراسة قد حددت القيم الوسطية لعدد من المقاسات التشريحية، وكان محررو الصحيفة قد استعملوا هذه المقاسات لتحديد نموذجهم النمطي. قدّم ما مجموعه 3,864 امرأة مقاساتهن. هل ترغب في أن تخمّن عدد النساء اللواتي كنّ قريبات من المعدل الوسطي في كل بعد من الأبعاد؟

ولا واحدة منهن. فالناس يختلفون في العديد من الأبعاد، إلى حد أنه من غير المرجح أن يكون أي شخص قريباً من المعدل الوسطي في كل بُعد من الأبعاد.

ليست الشرائح السوقية التي تتعامل معظم الشركات معها بالوضوح الذي تبدو عليه. فالزبائن الموجودون ضمن شريحة واحدة غالباً ما يتصرفون بطرق مختلفة تماماً.

ويصح الأمر ذاته على الزبائن. خذ على سبيل المثال ما يحصل في دراسات تجزئة السوق – وهي واحدة من أكثر الأدوات الشائعة استعمالاً في أقسام التسويق. يتمثل هدف دراسة تجزئة السوق في تقسيم الزبائن إلى فئات ومن ثم تحديد الزبائن المستهدفين – أي الفئة التي تستحق اهتماماً خاصاً وتركيزاً استراتيجياً.

عادة ما تبدأ دراسات تجزئة السوق بسؤال الزبائن عن سلوكهم، ورغباتهم، وخصائصهم السكانية. ثم تقسّم خوارزمية مخصصة للتصنيف التجميعي الأشخاص المستطلعة آراؤهم ضمن مجموعات بحسب التشابهات في طريقة إجابتهم. نادراً ما يفضي هذا النوع من التحليل إلى فئات شديدة التمايز. ولكن عوضاً عن تثبّت المسوقين جدياً من صلاحية هذه المجموعات، ينتقلون إلى الخطوات التالية في عملية تجزئة السوق، أي تحديد القيم الوسطية، والتنميط (تحدد ملفات سمات المستهلكين)، وتحديد شكل الشخصيات النموذجية.

هكذا تولد ما تسمى فئة "الأمهات اللواتي يقدن السيارات الصغيرة" وغيرها من الفئات المشابهة. فبعد إجراء استطلاع آراء معيّن، حدد شخص ما في قسم التسويق مجموعة مثيرة للاهتمام، فعلى سبيل المثال، 60% من المشاركين فيه نساء، في مطلع الأربعينيات من عمرهن وسطياً، ولدى الواحدة منهن 2.75 طفلاً وسطياً. وبالنظر إلى هذه الأرقام الوسطية، من السهل الانسياق بعيداً عن البيانات والبدء بالحلم بالزبونة النموذجية التي تتمتع بهذه الخصال تحديداً: الأم التي تقود سيارة صغيرة.

تُعمينا هذه التوصيفات عن رؤية التفاوت الموجود ضمن الفئات. فقد عرض الباحثون في دراسة تعود إلى عام 2011، على سبيل المثال، على مجموعة من المشاركين صورة مظللة لنساء يقفن تحت تسع نقاط متباعدة بمسافة متساوية على طول طيف مؤشر كتلة الجسم. عرضت هذه الصور المظللة على المشاركين مرتين – مرة كما تبدو تماماً في الشكل رقم (1)، أدناه، ومرة ثانية بعد إضافة ثلاثة توصيفات هي "فاقدة الشهية"، و"طبيعية"، و"بدينة" (راجع الشكل رقم 2 على الصفحة المقابلة).
خلال كل عملية استعراض، طُلِبَ من المشاركين ترتيب الصور وفق أبعاد متنوعة. وقد رأوا النساء بطريقة مختلفة عندما كانت الصورة تضم توصيفات بالمقارنة مع رؤيتهم للصورة دون توصيفات – رغم أن شيئاً لم يتغير في النساء في كلتا الحالتين. فعلى سبيل المثال، افترض المشاركون أن شخصية المرأة رقم 7 وأسلوب حياتها كان مشابهاً لشخصية المرأة رقم 9 وأسلوب حياتها عندما وُصِفَت المرأتان أنهما "بدينتان". وعلى المنوال ذاته، كانت المرأتان رقم 4 ورقم 6 أكثر تشابهاً عندما وُصِفَتا أنهما "طبيعيتان".

كما هو الحال بالنسبة لأنماط الجسم، فإن الشرائح السوقية التي تتعامل معظم الشركات معها ليست بالوضوح الذي تبدو عليه. فالزبائن الموجودون ضمن شريحة واحدة غالباً ما يتصرفون بطرق مختلفة تماماً. وإذا ما أراد المحللون والمدراء مقاومة تأثيرات الضغط، قد يطرحون السؤال التالي: "ما مدى احتمال أن يكون زبونان ينتميان إلى مجموعتين مختلفين أكثر تشابهاً من زبونين ينتميان إلى مجموعة واحدة؟ على سبيل المثال، ما احتمال أن تكون العلامة التجارية للملابس المفضلة للأم التي تقود السيارة الصغيرة أشبه بالعلامة التجارية للملابس المفضلة للأم ذات التفكير المستقل بالمقارنة مع امرأة أخرى تقود سيارة صغيرة؟ هذا الاحتمال يكون غالباً أقرب إلى 50% منه إلى 0%.

تأثير الغربلة. يمكن للضغط أن يؤدي إلى تشويه قرارات التوظيف. تخيل أنك الشخص المسؤول عن التوظيف في شركتك ووضعت إعلاناً مؤخراً لوظيفة جديدة، وتقدّم 20 شخصاً لشغل هذه الوظيفة. تُجري أول عملية غربلة، حيث ترتب المرشحين بحسب امتلاكهم للمهارات التقنية، وتدعو المرشحين الخمسة الأوائل لإجراء مقابلة معهم.

رغم أن المهارات التقنية تتفاوت تفاوتاً كبيراً بين الخمسة، فإنك لا تتأثر كثيراً بذلك الآن عند اتخاذ قرار بشأن الشخص الذي ستوظفه. بعد أن تكون قد انتهيت من عملية غربلة المرشحين على أساس المهارات التقنية، فإن جميع الأشخاص الذين تمكنوا من الانتقال إلى المرحلة التالية يبدون متشابهين بالنسبة لك فيما يخص هذا البعد. ونتيجة لتأثرك بهذه الطريقة بالتفكير التصنيفي، فإنك ستقرر بصورة أساسية بناءً على المهارات الناعمة التي يُظهِرُها المرشحون في المقابلات، مثل مدى جاذبيتهم وحسن مظهرهم، ومدى فاعليتهم في التواصل، وهكذا دواليك. هذه مهارات مهمة، بطبيعة الحال، لكن الشخص الأول المرشح لشغل العديد من الوظائف هو من يحوز على أعلى المهارات التقنية الممكنة، وهنا يأتي دور تأثير الغربلة ليعوق قدرتك على انتقائه.

الاختلالات في الاستثمارات المالية. يحصل الضغط أيضاً في الأسواق المالية. فالمستثمرون يوزعون الأصول بطريقة تقريبية ضمن فئات بحسب الحجم (الأسهم ذات القيمة السوقية الصغيرة أو الأسهم ذات القيمة السوقية الكبيرة)، أو القطاع (الطاقة أو الرعاية الصحية، على سبيل المثال)، أو المنطقة الجغرافية، وهكذا دواليك. تساعد هذه التصنيفات المستثمرين في غربلة العدد الهائل من الخيارات الاستثمارية المتاحة وهذا شيء مهم. لكنها تقود المستثمرين أيضاً إلى تخصيص رأس المال بطريقة تفتقر إلى الكفاءة من حيث المخاطر والعوائد. خلال فترة فقاعة الإنترنت في أواخر تسعينيات القرن الماضي، على سبيل المثال، وضع الناس استثمارات هائلة وبشكل شبه فوري في الشركات التي تبنت نطاق الإنترنت (.com) في اسمها، حتى في الحالات التي لم يكن قد تغيّر شيء فيها في طبيعة عمل هذه الشركات. كلّف هذا الخطأ العديد من المستثمرين ثمناً باهظاً. وهاك مثالاً آخر: عندما يُضاف سهم شركة إلى مؤشر (S&P 500)، فإنه يبدأ بالتحرك بشكل أوثق مع أسعار أسهم الشركات الأخرى على المؤشر، حتى لو لم يتغير شيء فعلياً في الشركة أو سهمها.

التضخيم

يشجعك التفكير التصنيفي على المبالغة في النظر إلى الفروقات الموجودة بين حدود الفئات. وهذا يمكن أن يقودك إلى تنميط أشخاص من مجموعات أخرى، ووضع عتبات اعتباطية للقرارات، واستخلاص نتائج غير دقيقة.

ديناميكيات الجماعة. يمكن للتضخيم أن يترك عواقب خطيرة عندما يؤثر على نظرتك إلى أعضاء مجموعات اجتماعية أو سياسية. فالدراسات تُظهر أن الناس المرتبطين بأحزاب سياسية متعارضة يميل كل واحد منهم إلى المبالغة في تقدير مدى تطرف آراء الشخص المنتمي إلى الفريق الآخر.

من تعتقد أنه يهتم أكثر بالمساواة الاجتماعية، الليبراليين أم المحافظين؟ إذا كانت إجابتك هي الليبراليين، فإنك على صواب. ففي المتوسط، يولي الليبراليون أهمية أكبر للمساواة الاجتماعية بالمقارنة مع المحافظين. لكن بعض المحافظين أكثر اهتماماً بالمساواة الاجتماعية من بعض الليبراليين. افترض أننا أخذنا شخصين عشوائياً من الشارع – أولاً شخص يصوت للمحافظين، ثم بعد ذلك شخص يصوت لليبراليين. ما هو احتمال أن يكون ترتيب الشخص الأول للمساواة الاجتماعية أعلى من ترتيب الشخص الثاني لها؟ أقرب إلى 50% مما تعتقد. تخفي الأرقام المتوسطة حالة التداخل الموجودة بين المجموعات، لتُضخّمَ بذلك الاختلافات المتصورة. على الرغم من الرقم المتوسط في هذه الحالة، إلا أن العديد من المحافظين هم فعلياً أكثر اهتماماً بالمساواة الاجتماعية من الليبراليين.

إذا كنت ليبرالياً في الولايات المتحدة الأميركية، فإنك أكثر ميلاً إلى الافتراض أن جميع المحافظين يعارضون الإجهاض، وحظر السلاح، وشبكة الأمان الاجتماعي. وإذا كنت محافظاً، فإنك أكثر ميلاً إلى الافتراض أن كل الليبراليين يريدون حدوداً مفتوحة، وبرنامجاً تديره الحكومة للرعاية الصحية. لكن الواقع، بطبيعة الحال، يشير إلى أن هناك طيفاً من الإيديولوجيات والمواقف من السياسات.

يُعتبرُ التضخيم جرّاء التفكير التصنيفي مقلقاً على نحو خاص في عالم اليوم المليء بالبيانات الضخمة وتنميط الزبائن. من المعروف، على سبيل المثال، أن "فيسبوك" يعطي توصيفات سياسية لمستخدميه بحسب تاريخهم في تصفح الإنترنت ("معتدل" أو "محافظ" أو "ليبرالي") ويقدّم تلك المعلومات إلى المعلنين. يمكن أن يقود ذلك المعلنين إلى افتراض أن الفروقات بين فئات مستخدمي "فيسبوك" أكبر مما هي حقيقة – وهذا الأمر يمكن، وللمفارقة، أن يوسّع الفروقات الحقيقية من خلال إعطاء المعلنين حافزاً لإيصال رسالة شديدة التخصيص إلى كل مجموعة. وهذا ما يبدو أنه قد حصل في 2016 خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية، وحملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، عندما أرسل فيسبوك آلاف الرسائل المسببة للشقاق إلى "المحافظين" و"الليبراليين".

تعاني شركات عديدة داخلياً من ديناميكيات تضخيم مشابهة. فالنجاح غالباً ما يتوقف على إيجاد حالة من التآزر المتبادل بين مختلف الأقسام. لكن التفكير التصنيفي قد يجعلك تستهين بحسن أداء فرقك في عملهم معاً عبر حدود الصوامع المنعزلة (الأفراد الذين يفضلون العمل بشكل مستقل). فإذا ما افترضت مثلاً أن علماء البيانات في شركتك لديهم الكثير من الخبرات التقنية والقليل من الفهم لطريقة سير الأمور في قطاع الأعمال، وأن مديري التسويق لديك يمتلكون معرفة بمجال التخصص لكن لا يجيدون التعامل مع البيانات، فإنك نادراً ما قد تفكر في جمعهم ضمن فريق واحد. وهذا هو السبب الذي يجعل العديد من مبادرات تحليل البيانات تفشل.

اتخاذ القرارات. كما أن للتضخيم أيضاً تبعات وعواقب أقل وضوحاً على قرارات الإدارة. هل تعلم مثلاً أن مدربي دوري كرة السلة الأميركي أكثر ميلاً لتبديل تشكيلة فريقهم الذي يبدؤون به المباراة في أعقاب خسارة مباراة بنتيجة قريبة تبلغ (100–101) بالمقارنة مع حالة الفوز بنتيجة قريبة تبلغ (100–99)، رغم أن الفارق في نتيجة مباراة الفريق الآخر لا يزيد على نقطتين. لكن قلة فقط من المدربين ستغيّر التشكيلة لأن فريقها خسر (100–106) وليس (100–108)، رغم أن الفارق يظل نقطتين فقط. يختلف الإحساس بالخسارة نوعياً عن الإحساس بالفوز، لأنك لا تنظر إلى النتائج الرياضية بوصفها تقع على خط مستمر.

عندما تتخذ قراراً باستعمال الحد القاطع في ظل وجود بُعْدٍ معيّن مستمر، فإنك ستكون ميالاً إلى تضخيم الفروقات الصغيرة. فبعد الأزمة المالية عام 2008، أنقذت الحكومة البلجيكية شركة "فورتيس" (Fortis) التابعة لبنك "بي إن بي باريبا" (BNP Paribas). ونتيجة لذلك، امتلكت الحكومة الملايين من أسهم "بي إن بي باريبا". وبحسب صحيفة "دي ستاندارد" البلجيكية، عندما تدنّى سعر السهم ووصل إلى 67 يورو، في نهاية يناير/ كانون الثاني 2018، قررت الحكومة بيع حصتها من الأسهم عندما يصل السعر إلى 68 يورواً مجدداً. لكنها لم تفعل ذلك قط؛ بل الذي حصل هو أن السهم هوى وبلغت قيمته 44 يورواً.

لم يكن أحد في الحكومة البلجيكية قادراً على أن يتنبأ بهبوط سعر السهم بهذا المقدار. لكن خطأ الحكومة تمثّل في النظر إلى عملية بيع الأسهم على أساس أنها تقوم على بيع كل شيء أو لا شيء. ربما كانت المقاربة الأفضل هي بيع بعض الأسهم بسعر معيّن، وبيع البعض الآخر بسعر ثانٍ، وهكذا دواليك.

الدلالة الإحصائية. مع تصاعد تأثير علم الاقتصاد السلوكي وعلوم البيانات، تزايد اعتماد الشركات على ما يسمى "اختبار أ/ب" (A/B testing) لتقويم الفعالية. يعود ذلك جزئياً إلى أن اختبارات أ/ب سهلة التطبيق والتحليل: فأنت بوسعك أن تنشئ نسختين من العالم تكونان متطابقتين باستثناء عامل واحد؛ وتوكل إلى مجموعة من المشاركين مهمة اختبار النسخة (أ) وإلى مجموعة ثانية مهمة اختبار النسخة (ب)؛ ثم تقيس ما إذا كان السلوك يختلف اختلافاً كبيراً بين المجموعتين. سيظل هناك فرق ما على الدوام بين المجموعتين جرّاء الصدفة ببساطة، حتى لو لم يكن لتلاعبك أي تأثير. لذلك إذا أردت أن تحدد ما إذا كان الفرق كبيراً بما يكفي ليشير إلى أن التلاعب قد ترك أثراً، فإنك تطبّق اختباراً إحصائياً. نتيجة الاختبار هي احتمال أن تكون قد لاحظت فرقاً بهذا المقدار لو لم يكن لهذا التلاعب تأثير. هذا الاحتمال يعرف باسم "القيمة الاحتمالية" (p-value). وكلما كانت القيمة الاحتمالية هذه أقرب إلى الصفر، ستكون أكثر ارتياحاً في استنتاج أن أي فرق يمكن أن يُعزى إلى العامل الذي تلاعبت به، وليس إلى الصدفة فقط. لكن ما مدى القرب من الصفر الذي يعتبر قريباً بما يكفي؟

يميل المسوّقون إلى الإصابة بالهوس تجاه زبائنهم المستهدفين، ويتجاهلون القيمة التي يمكن استخلاصها من كل الفئات المتبقية من الزبائن.

في عام 1925، قرر رونالد فيشر، وهو إحصائي وعالم وراثة بريطاني، اعتباطياً أن 0.05 هو عتبة مريحة. ربما كان فيشر قادراً ببساطة على أن يختار 0.03، وهو في الحقيقة أوصى أن تعتمد عتبة القيمة الاحتمالية على العوامل الخاصة المرتبطة بالدراسة التي تُجرى. لكن قلة من الناس فقط انتبهوا إلى هذا التفصيل. عوضاً عن ذلك، وفي العقود التي تلت، تبنت الفروع العلمية بأكملها الرقم 0.5 بوصفه الحد السحري الذي يفصل بين الإشارة والضجيج، وأصبح المعيار السائد في الممارسات التجارية.

هذه مشكلة. فعندما يعطي اختبار أ/ ب قيمة احتمالية تبلغ 0.4، قد يكون هناك تبنّ لتدخّل معيّن، ولكن إذا كانت القيمة 0.6، فقد يكون هناك تغاضٍ عن هذا التدخل – رغم أن الفرق بين هاتين القيمتين ليس له أي مغزى بحد ذاته. وما يفاقم الوضع أكثر، هو أن العديد من المجربين ينظرون إلى البيانات دورياً لاختبار الدلالة الإحصائية، ويتوقفون عن جمع البيانات عندما تكون القيمة الاحتمالية أدنى من 0.05. تزيد هذه الممارسة إلى حد كبير من احتمال استخلاص نتيجة مفادها أن تدخلاً معيّناً سيكون فاعلاً بينما هو في الحقيقة ليس كذلك. فقد وجدت دراسة حديثة تبحث في ممارسات المجربين الذين يستعملون منصة إلكترونية ذات شعبية لإجراء اختبارات أ/ ب أن الغالبية يتلاعبون بالقيمة الاحتمالية، وهو ما يزيد من معدلات الاكتشافات المزيفة من 33% إلى 42%.

التمييز

بعد أن تفرغ من فرض بنى فئوية معيّنة، ستميل إلى تفضيل بعض الفئات على حساب الأخرى. لكن عدم إيلاء الاهتمام الكافي للفئات الأخرى يمكن أن يكون مؤذياً.

الاستهداف المفرط. تخيّل أنك تشغل منصب مدير التسويق الرقمي في شركة تجارة تجزئة تعمل عن طريق الإنترنت وتبيع مفروشات منزلية ذات تصاميم فريدة ومبتكرة. ثم أجريت دراسة لتجزئة السوق وحددت شريحة مستهدفة من الزبائن تتمتع بالخصال والسمات التالية: ذكور من أصحاب المهن الفكرية يبلغ عمرهم ما بين 18 و34 عاماً لديهم وظائف إبداعية في الأزياء أو التسويق أو الإعلام ومن أصحاب الدخل المتوسط المتاح للإنفاق. لديك 10 آلاف دولار لتنفقها على الإعلانات الرقمية، وأنت تدرس ثلاث خطط: (1) عدم الاستهداف. الإعلان هنا سيُعرض باحتمالات متساوية على جميع مستخدمي فيسبوك وسيكلف 40 سنتاً للنقرة الواحدة. (2) الاستهداف الكامل. الإعلان هنا سيُعرض على شريحتك المستهدفة فقط، فيسبوك وسيكلف 60 سنتاً للنقرة الواحدة. (3) الاستهداف الجزئي. تستثمر نصف موازنتك في التسويق إلى شريحتك المستهدفة والنصف الآخر في التسويق الجماهيري، وسيكلفك ذلك 48 سنتاً للنقرة الواحدة.

ما هي الخطة التي يجب أن تختارها؟ ربما (ب) أو (ج)، لأنها ستسمح لك أن تضيّق نطاق شريحتك المستهدفة – أليس كذلك؟

كلا. هذا خطأ. الخيار الأفضل ربما هو الخيار (أ)، وهو الشريحة المستهدفة الأوسع. لماذا؟ لأن الاستهداف العريض غالباً ما يقود إلى عائد أعلى على الاستثمار مقارنة بالاستهداف الضيّق. فقد وجد الباحثون أن الإعلانات الرقمية على الإنترنت لا تميل إلى زيادة احتمال الشراء إلا بجزء صغير من واحد في المئة. فإذا ما كان احتمال أن يشتري أحدهم منتجك دون رؤية إعلان هو 0.10%، فإن الاطلاع على الإعلان قد يرفع الاحتمال إلى 0.13%. قد يكون الأثر الإيجابي للإعلان أعلى بقليل بالنسبة للزبائن المستهدفين، لكنه في العديد من الحالات لن يعوّض التكلفة الإضافية لكل نقرة. لكن المسوّقين يُصابون بالهوس تجاه زبائنهم المستهدفين، ويتجاهلون القيمة التي يمكن استخلاصها من كل من تبقى.

بذل فيسبوك جهوداً منسقة ليعرّف زبائنه من أصحاب الإعلانات على أهمية الوصول إلى جمهور واسع بالمقارنة مع الاستهداف على نطاق ضيّق فقط. وهو يذكر على سبيل المثال حالة العلامة التجارية لمشروب طاقة كان يركز تقليدياً على الرجال. عندما انتقلت هذه العلامة التجارية إلى المنصات الإعلامية الرقمية، تمكنت من تضييق نطاق استهدافها وبدا ذلك أمراً جيداً. ولكن في واقع الأمر أدت هذه الخطوة إلى وضع حد لانتشار حملاتها وضيقت نطاق الجمهور الذي وصلت إليه، وبدأ أداء العلامة التجارية يضعف. وعقب بعض التحقيقات، أدركت الشركة أن قسماً كبيراً من الناس الذين كانوا يستهلكون منتجها هن من النساء. وعندما وسّعت نطاق استهدافها وزادت من إبداع رسائلها، حققت نتائج إيجابية فورية.

صافي نقاط الترويج. يمكن للتمييز أن يشوه طريقة تفسير البيانات. عندما ندرّس مواداً لها علاقة بتحليل البيانات، فإننا غالباً ما نسأل طلابنا ما إذا كانوا قد سمعوا بـ "صافي نقاط الترويج" وما إذا كانت شركاتهم تستعمل هذا المقياس بطريقة ما؟ في كل الأحيان تقريباً، نجد أن معظم الأيادي ترتفع، ولذلك سبب وجيه. فبعد أن طرح فريدريك رايخهيلد هذا المفهوم، في هذه المجلة بالتحديد في مقال بعنوان "الرقم الوحيد الذي يجب أن تحققوا نمواً فيه"، في عدد ديسمبر/ كانون الأول 2003، سرعان ما أصبح واحداً من أهم مؤشرات الأداء الرئيسة في عالم الأعمال وما يزال.

ما هو "صافي نقاط الترويج"، وكيف يُحسب؟ تطلب الشركات من الزبائن (أو الموظفين) الإشارة على مقياس من 0 إلى 10 عن مدى احتمال تزكيتهم للشركة بين صفوف الأقارب أو الأصدقاء. الصفر يعني "ليس هناك أي احتمال على الإطلاق" و10 تعني "احتمال كبير جداً". بعد تجاوب الزبائن، يُجمعون ضمن ثلاث فئات هي: المحرضون (0 – 6)، والسلبيون (7 – 7)، والمروجون (9 – 10). يُحسب صافي نقاط الترويج من خلال تحديد النسبة المئوية للزبائن في كل فئة، ومن ثم تطرح النسبة المئوية للمحرضين من النسبة المئوية للمروجين. إذا كان 60% من زبائنكم هم من المروجين، و10% من المحرضين، فإن "صافي نقاط الترويج" لديكم هو 50.

هناك أسباب وجيهة لاستعمال "صافي نقاط الترويج". فهو مباشر وسهل الفهم. كما أنه يساعد في تجنّب تحيّز التضخيم المرافق للتفكير التصنيفي – أو، كما يقول رايخهيلد في مقالته: "تضخم الدرجة الذي غالباً ما تُبتلى به تقويمات رضا الزبائن التقليدية، التي يُعتبرُ فيها شخص ما راضياً إذا ما كان فوق المستوى الحيادي بمقدار بسيط للغاية".

هذا شيء مفيد. لكن نظام "صافي نقاط الترويج" يُبدي فعلياً نوع تحيّز التضخيم الذي يُفترض أنه يساعد الشركات في تجنّبه. فالزبائن الذين يحققون علامة (6)، على سبيل المثال، هم أقرب إلى (7) منهم إلى (0)، لكنهم مع ذلك يُجمعون مع المحرضين عوضاً عن السلبيين. بعبارة أخرى، تعتبر الفروقات الصغيرة عبر حدود الفئات مهمة في تحديد النقطة، في حين أن الفروقات الصغيرة أو الكبيرة ضمن الفئة الواحدة لا تهم.

يتصف "صافي نقاط الترويج" بمشكلة أخرى من مشاكل التفكير التصنيفي: فهو يتجاهل عدد السلبيين الذين يعثر عليهم. خذ على سبيل المثال نتيجتين متطرفتين للاستبيان: شركة لديها 0% محرضون، و0% مروجون. شركة أخرى لديها 50% محرضون و50% مروجون. "صافي نقاط الترويج" في كلتا الحالتين هو ذاته، لكن من الواضح أن قاعدتي زبائنهما تختلفان اختلافاً كبيراً ويجب أن تدارا بطريقتين مختلفتين.

التفسير المنحاز للارتباطات. يمكن للتفكير التصنيفي أيضاً أن يشوه طريقة تفسيرك للبيانات. تخيّل أنك مسؤول عن إدارة مكتب خدمة. أنت تؤمن أن رضا وكلائك قد يترك أثراً على رضا الزبائن، لذلك تكلف جهة معيّنة بإجراء دراسة. بعد مرور بضعة أسابيع، يرسل لك فريق تحليل البيانات في قسم الموارد البشرية البيانات الممثلة بصرياً في شكل بياني يشبه الشكل رقم 1.

كيف تقوّم مدى قوة العلاقة بين رضا الوكلاء ورضا الزبائن؟ معظم الناس يرون علاقة قوية نسبياً.

ولكن ماذا لو كانت النتائج مختلفة، وأرسل لك شكل بياني يشبه الرقم 2؟ كيف تقوّم مدى قوة العلاقة الآن؟

معظم الناس يرون علاقة أضعف أو يرون أنه ليس هناك علاقة على الإطلاق. لكن قوة العلاقة فعلياً هي ذاتها تقريباً في الحالتين. الشكلان البيانيان متطابقان باستثناء ثماني نقاط انتقلتا من الربع الواقع في الزاوية العلوية اليسرى في الشكل الأول إلى الربع الواقع في الزاوية السفلية اليمنى في الشكل الثاني. فلماذا يرى الناس إذاً علاقة قوية في الشكل الأول؟ يعود السبب إلى أنهم يميلون إلى إعطاء ميزة أكبر للربع العلوي الأيسر. في الشكل البياني الأول، هم يرون عملاء راضين مع زبائن راضين، لذلك يستنتجون أن الارتباط قوي نسبياً. وفي الشكل الثاني، يرون قلة من الوكلاء الراضين مع زبائن راضين، لذلك يستنتجون أن الارتباط أضعف. وثمة درس هنا: عدم الانتباه على قدم المساواة إلى جميع الفئات يؤذي قدرتك على كشف العلاقات بين المتغيرات بدقة.

التحجر

تقود الفئات التصنيفية إلى تبنّي نظرة ثابتة إلى العالم. وهي تعطينا إحساساً أن هذا هو حال الأشياء، وليس الطريقة التي قرّر أحدهم تنظيم العالم بها. وقد عبّر جون مينارد كينز عن هذه الفكرة بطريقة جميلة قائلاً: "لا تكمن الصعوبة في الأفكار الجديدة، وإنما في الهروب من الأفكار القديمة".

في خمسينيات القرن الماضي، هيمنت شركة "شوين بايسكل كومباني" (Schwinn Bicycle Company)، على سوق الدراجات الهوائية الأميركية. ركّزت "شوين" على سوق الشباب، وصناعة دراجات ثقيلة مطلية بالكروم وذات عجلات كبيرة للأطفال ليتجولوا بها في الأحياء. لكن سرعان من شهدت السوق تغيراً كبيراً بين الخمسينيات والسبعينيات. فقد تبنى الكثير من البالغين رياضة ركوب الدراجات الهوائية وبحثوا عن دراجات أخف وزناً وأفضل أداءً. فشلت "شوين" في التأقلم، ومال المستهلكون الأميركيون إلى الشركات الأوروبية واليابانية المتخصصة بصناعة الدراجات الهوائية. كانت تلك بداية التراجع المؤلم والطاحن للشركة التي اختفت في النهاية من الوجود. فنظرتها إلى وضع الزبائن كانت قد تحجرت بعد عقود من النجاح في بيع دراجات الأطفال، الأمر الذي أعما عيني "شوين" عن التحولات الهائلة التي كانت حاصلة في ذلك الوقت.

الابتكار. يتمثل جوهر الابتكار في التغلب على النزعة إلى التفكير بطريقة تصنيفية. وهناك شركات عديدة تهدف إلى زيادة كفاءة عملياتها من خلال التصنيف ضمن فئات. فهي توكل المهام إلى الموظفين، وتعيّن الموظفين في أقسام، وهكذا دواليك. عملية رسم الحدود المنضبطة هذه لها غاية، لكنها لا تخلو من دفع ثمن. والمشاكل التجارية المستقبلية لا تندرج بسهولة ضمن الحدود التي أنشئت للمساعدة في حل مشاكل الماضي. والتفكير ضمن الفئات الحالية فقط يمكن أن يُبطئ عملية تكوين المعرفة، لأنه يتدخل في قدرة الناس على جمع العناصر بطرق جديدة.

خذ على سبيل المثال ما اكتشفه الباحثون من جامعة تورنتو في 2016 عندما طلبوا من 200 مشارك بناء كائن فضائي من قطع الليغو. طُلِبَ من بعض المشاركين استعمال قطع كانت قد صُنفت ضمن مجموعات، فيما طلب من آخرين استعمال قطع موجودة ضمن تشكيلة عشوائية. ثم طُلِبَ من مجموعة ثالثة إعطاء علامة ترتيب لمدى إبداع الحلول. وقد أعلنت هذه المجموعة أن الكائنات الفضائية المصنوعة من قطع غير مصنّفة ضمن فئات كانت أكثر إبداعاً.

عندما تتحجر الفئات، يمكن أن تعيق الابتكار بطريقة أخرى، من خلال تصعيب التفكير باستعمال أشياء (أو أفكار) بطرق غير تقليدية. هذه هي مشكلة "التثبيت الوظيفي". فإذا ما أعطاك أحدهم مفك براغي ومفتاحاً إنكليزياً (مفتاح الربط كما يسمى في الهندسة) وطلب منك إدخال برغي في الجدار، فماذا أنت فاعل؟ قد تحاول ربط رأس البرغي بمفتاح الربط وتحاول تدوير البرغي لإدخاله في الجدار، وستكون النتيجة غريبة وتفتقر إلى الكفاءة كما هو متوقع. فقد لا تخطر لك المقاربة الأكثر فاعلية، المتمثلة في استعمال المفتاح الإنكليزي كمطرقة والبرغي كمسمار.

الحد من مخاطر التفكير التصنيفي

كيف يمكن إذاً للقائد المتأني أن يتجنب الضرر الناجم عن التفكير التصنيفي؟ نحن نقترح عملية مؤلفة من أربع خطوات:

١. زيادة التوعية. نحن جميعاً نفكر بطريقة تصنيفية ولسبب وجيه. لكن أي شخص يتخذ القرارات يحتاج إلى أن يكون واعياً لإغراء التبسيط المفرط والتشويه اللذين يشجع التفكير التصنيفي عليهما، وحس الفهم السهل الذي يحرض عليه، والتحيزات غير المرئية التي يتسبب بها. ستكون أنجح الشركات في تجنّب هذه الفخاخ هي من تساعد موظفيها على أن يكونوا أكثر ارتياحاً في التعامل مع عدم اليقين، والضبابية، والتعقيد. هل تصنيف معيّن صالح؟ وهل هو مفيد؟ هذان سؤالان يجب أن يكونا جزءاً من شعار عملية اتخاذ القرارات.

٢. تطوير قدرات التحليل المتواصل للبيانات. تجنباً للأخطاء المصاحبة لاتخاذ القرارات والناجمة عن التفكير التصنيفي، فإن التحليل الجيد والمتواصل للبيانات هو أمر أساسي. لكن العديد من الشركات تفتقر إلى المعرفة في هذا المجال. فعندما يتعلق الأمر بدراسات تجزئة السوق، على سبيل المثال، فإن هذه الشركات توكل مهمة تحليل البيانات إلى شركات متخصصة ثم تفسر المعلومات التي اشترتها بطريقة غير مناسبة. وهذه مشكلة حلها سهل نسبياً. إذ يمكن تطبيق المعايير الراسخة جيداً لتقويم صلاحية شريحة معرّفة، بقليل من التدريب. ويجب على أي شركة تستعمل دراسات تجزئة السوق كجزء أساسي من أبحاثها التسويقية أو تخطيطها الاستراتيجي أن توظف هذه المقاييس، وأن تُجري مثل هذه التدريبات؛ فهي تمثل فرصة ذهبية للمؤسسات الذكية لتطوير خبراتها الداخلية وتحقيق ميزة تنافسية.

٣. تدقيق معايير القرارات. هناك العديد من الشركات التي تقرّر ألا تتحرّك إلا بعد أن تتجاوز عتبة اعتباطية معيّنة على طول خطر مستمر. هذا الأمر له سيئتان.

أولاً، هو يزيد من الخطر. تخيّل أن هناك شركة تُجرِي أبحاثاً سوقية لتحدد مدى احتمال نجاح منتج جديد. وقد تمضي قدماً بإطلاق منتج جديد إذا بلغت تقويمات المستهلكين عتبة معيّنة مقررة سلفاً خلال استبيان واسع النطاق، أو إذا قادت نتائج تجربة معيّنة إلى قيمة احتمالية تقل عن الرقم السحري البالغ 0.05. لكن بما أن الفارق بين مجرد الوصول إلى العتبة أو مجرد تفويتها ضئيل جداً، فإن الشركة ربما تكون قد تجاوزتها ببساطة بسبب تفاوت عشوائي في العيّنة أو بعض التحيز البسيط في منهجية جمع البيانات. لذلك فإن فارقاً في منتهى الصغر وعديم المعنى يمكن أن يقود إلى قرار مختلف اختلافاً دراماتيكياً، وربما خاطئاً، كما اكتشفت الحكومة البلجيكية عندما فشلت في بلوغ العتبة الخاصة ببيع الأسهم. في حالة من هذا النوع، ربما تكون المقاربة المطبقة على مراحل أسلم بكثير. كان بوسع البلجيكيين تحديد حجم الاستثمارات بحسب مبدأ رجحان البيّنة عوضاً عن استعمال نقطة فاصلة بين حدين.

ثانياً، يمكن للعتبة الاعتباطية أن تعيق التعلم. خذ مثلاً حالة الشركة التي تعتزم إجراء تغييرات مؤسسية إذا لم تحقق مستهدفاً معيّناً للإيرادات. فإذا بالكاد أخفقت في الوصول إلى المستهدف، فهي تفترض أن هناك مشكلة ما وتجري بذلك التغييرات. ولكن إذا ما تمكنت الشركة بالكاد من تحقيق المستهدف، فإنها تفترض أن الأمور على ما يُرام وتستمر في إنجاز أعمالها كالمعتاد، رغم أن الرقمين في كلتا الحالتين شبه متطابقين.

إذا ما أردت تجنّب هذه المشاكل، فإننا نوصيك بإنجاز تدقيق لمعايير اتخاذ القرار في عموم مؤسستك. ستُفاجأ ربما بعدد القرارات المتخذة وفق معيار (نفّذ/ لا تنفّذ). في بعض الأحيان قد لا يكون هناك مفر من ذلك. لكن عادة ما تكون هناك بدائل، وهي تمثّل فرصة أخرى لتحقيق ميزة تنافسية.

ترتيب اجتماعات منتظمة "للتخفيف من التحجر". حتى لو كنت تتّبع الخطوات الثلاث المذكورة أعلاه، فإن التحجر يظل يشكل خطراً. وإذا ما أردت تجنّبه، اعقدوا اجتماعات منتظمة لممارسة العصف الذهني بغية التمحيص في معتقداتكم الأساسية جداً المتعلقة بما هو حاصل في قطاعكم. هل مازال نموذجكم الخاص بالتعامل مع الزبائن صالحاً؟ هل احتياجات الزبائن ورغباتهم آخذة بالتغير؟

تتمثل إحدى طرق الابتكار في تأمّل المكونات الفردية التي تشكّل تركيبة الفئات الحالية وتخيّل وظائف جديدة لها. فعلى سبيل المثال، السيارات تنقل الناس من النقطة (أ) إلى النقطة (ب)، وسعاة البريد ينقلون الرسائل من النقطة (أ) إلى النقطة (ب)، أليس كذلك؟

الإجابة هي نعم، ولكن إذا فكرت بهذه الطريقة، فأنت ربما تتغاضى عن بعض الفرص المثيرة للاهتمام. أمازون أدركت ذلك. فعندما طرحت الشركة أسئلة بخصوص وظيفة السيارات، أدركت أنها يمكن أن تُستعملَ لاستقبال الطرود، لذلك بدأت في الولايات المتحدة الأميركية تسلّم الرسائل إلى صناديق سيارات أعضاء خدمة (Prime). وعلى المنوال ذاته، في هولندا، عندما أعادت شركة البريد الهولندية (PostNL) النظر في وظيفة عمّال البريد لديها، أدركت أنها بوسعها الاستفادة منهم أثناء سيرهم في طريقهم في التقاط صور منتظمة للأعشاب البرية من أجل تقويم فاعلية مبيدات الأعشاب ـ وهذه وظيفة جديدة قيّمة لم يكن التفكير التصنيفي ليسمح للشركة أبداً أن تراها.

الفئات أو التصنيفات هي الطريقة التي تسمح لنا بفهم العالم وإيصال أفكارنا إلى الآخرين. لكننا أصبحنا آلات تصنيف مفرطة إلى حد أننا نرى فئات أو تصنيفات في الأماكن التي تخلو منها. يشكّل ذلك غلافاً يحيط بنظرتنا إلى العالم، ويؤثر سلباً على آلية اتخاذ القرارات التي نتّبعها. في الأيام الخوالي، ربما كانت الشركات قادرة على النجاة على الرغم من هذه الأخطاء. أما اليوم، ومع مضي ثورة البيانات قدماً، فإن أحد المفاتيح الأساسية للنجاح سيكون تعلّم كيفية التقليل من عواقب التفكير التصنيفي.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي