"لم أعد قادراً على تحمل هذه الأوضاع الصعبة التي عليّ التعامل معها في العمل. كل تلك الأنانية والشللية، زادت عن حدها، ووصلت إلى أقصى ضغط يمكن لأي شخص أن يتحمله". فكيف تتجنب إرهاق الآخرين؟
من المعلوم أن الضغط يقتل السعادة، والحياة أقصر من أن نُضيعها على تجربة عمل لا تحقق لنا السعادة. إننا نسمع مثل هذا الكلام طوال الوقت من المدراء في مختلف القطاعات والأعمال، سواء كانوا في شركات مالية أو تعليمية أو طبية أو غير ذلك. وفي عملنا ضمن مجال التدريب والاستشارات لاحظنا ارتفاعاً كبيراً في عدد القادة الذين كانوا يحبّون عملهم ولكنهم باتوا يقولون الآن أموراً من قبيل: "لا أدري إذا كان الأمر يستحق التضحية". إنهم منهكون تماماً، ومستهلكون عاطفياً وتسيطر عليهم نظرة سلبية، وذلك نتيجة ضغط العمل المزمن والشديد.
اقرأ أيضاً: كيف يتفادى المدراء إنهاك موظفيهم؟
لكن لماذا صار ضغط العمل والتوتر ظاهرة متزايدة تصيب الكثيرين؟ يرجع الأمر في جزء كبير منه إلى حالة عدم التيقن التي تسود العالم والتغيرات المستمرة التي تصيب الشركات. فالكثير من الموظفين يعملون فوق القدر المقرر لساعات إضافية أكثر من أي وقت مضى، وصار الحد الفاصل بين العمل والمنزل يتلاشى أو يختفي إلى حد كبير. أضف إلى ذلك النزاعات المتواصلة (والضارة في كثير من الأحيان) مع المدراء والزملاء التي تجعلنا دوماً متوترين وفي موقف دفاعي متشنج. وفي هذه الظروف، يُصبح من الصعب تفادي التراجع الذي يحصل على الأداء وعلى الصحة، وتصل إلى نقطة يُصبح العمل فيها عبئاً كبيراً، لا يفارقنا فيها شبح الإنهاك، وتُصبح مسألة السعادة في العمل أمراً ليس متخيلاً حتى على المدى البعيد.
لكن على الرغم من ذلك، فإن هناك خبراً إيجابياً: إن بعض الناس لا يتعرضون للإنهاك، ويواصلون النجاح والصعود رغم الظروف الصعبة في مكان العمل.
لكن لماذا؟ الجواب يكمن في قضية العطف، أي تلك المقدرة من الذكاء العاطفي التي توفر الطاقة لترويض الضغط والتوتر. فالعطف قدرة شعورية "عملية" تساعدك على فهم احتياجات الآخرين ورغباتهم ووجهات نظرهم، بحيث تشعر وتعبر عن اهتمام حقيقي بسلامتهم وراحتهم وتبرهن عليه بما تقوم به تجاههم.
إحدى الدراسات التي أجريناها (وهي دراسة أجرتها كاندي على مدراء تنفيذيين في قطاع الصحة) تؤكد هذا الأمر. فحين سألناهم عن كيفية تعاطيهم مع مسألة ضغط العمل المزمن والشديد، فإن 91% منهم وصفوا لنا كيف أن التعبير عن العطف يُتيح لهم التوقف عن التركيز على أنفسهم وتكوين رابطة مع الآخرين على مستوى أعمق بكثير. وقد توصل الكثير من الباحثين إلى مثل هذه النتيجة، وهي أن إظهار العطف يؤدي إلى آثار فيزيولوجية تساعد على تهدئتنا فوراً وتعزز استدامة العزيمة على العمل لفترة طويلة. إذ يولد العطف استجابات في جسدنا تثير الجهاز العصبي اللاودي (الإيجابي)، كما يعكس آثار الاستجابة للضغط عن الجهاز العصبي اللاودي (السلبي). فالعطف ليس أمراً يفيد الآخرين فحسب، ولكن فائدته تعود علينا نحن كذلك.
كيف تتجنب إرهاق الآخرين؟
وفق الأبحاث التي أجريناها، حيث كانت أبحاث آني مع القادة في الشركات العالمية وكاندي في مؤسسات الرعاية الصحية، قدمنا استراتيجية من جانبين يمكن أن تساعد في إطلاق القدرة على العطف والخروج من دائرة الإنهاك. والأمر الضروري الأول يتعلق بأهمية ممارسة العطف مع الذات، ثم عليك أن تكون مستعداً لتغيير بعض عاداتك في التعامل مع الآخرين، وذلك كي يكون العطف مجدياً معهم.
اقرأ أيضاً: عندما تتعاون الفرق لمحاربة الإنهاك
ممارسة العطف على الذات
إذا كنت حقاً ترغب في التعامل مع الضغط فعليك التوقف عن ممارسة دور البطل المتفاني وتبدأ في الاهتمام بنفسك ومصلحتك. ونعني بالعطف على الذات ما يلي: (1) السعي لتشكيل فهم حقيقي عن نفسك وما تتوقعه على الصعيد العاطفي والجسدي والفكري في العمل، (2) الاعتناء بنفسك، بدلاً من إهمالها تماماً، (3) المبادرة لمساعدة نفسك. وإليك فيما يلي بعض الطرق العملية لممارسة العطف على الذات:
- اكبح رغبتك في أداء المزيد من العمل. حين يتزايد الضغط في مكان العمل، نشعر عادة بإغراء للعمل لساعات أطول من أجل "تدارك" الوضع، ولكن تذكر أن المبالغة في العمل فخ خطير، وليس حلاً بالضرورة. فالقيام بالمزيد من العمل، ثم المزيد والمزيد، لا يمكن أن يحل المشكلات التي بين يديك إلا ما ندر، بل ربما يفاقم المشكلة، وذلك لأننا نصبح في حالة نولد فيها المزيد الضغط. إن هذه الاستراتيجية من شأنها إغلاق الباب على الآخرين وعلى المشكلات، فإذا استطعنا الابتعاد عنها، فسنكون أكثر قدرة على أداء مهامنا دون أن نقع في أسر مشكلات الآخرين. لكن حين لا يتغير أي شيء أو يصبح الأمر أكثر سوءاً فإننا نستسلم. فهذه دائرة مغلقة: المبالغة في العمل تؤدي إلى المزيد من الضغط، ما يؤدي إلى مزيد من العزلة، وهذا يجعلنا نستسلم، والنتيجة هي المزيد من الضغط. لذا وبدلاً من بذل المزيد من الساعات في العمل وأنت تشعر بالضغط عليك البحث عن طرق أُخرى لتجدد نفسيتك وتخرج من الحالة التي علقت فيها. إذ يمكنك مثلاً أن تمارس الرياضة، أو تفعل بعض تمرينات التأمل، أو تقضي المزيد من الوقت مع من تحب، أو ما رأيك مثلاً بالنوم لساعات أطول؟
- توقف عن انتقاد نفسك. كثيراً ما يكون الضغط نتيجة زيادة العبء على أنفسنا حين نخفق في تحقيق أهدافنا. ولكننا ننسى أننا بشر أحياء ونتنفس ولدينا مشاعر. لذلك، تجنب انتقاد الذات الذي يزيد الضغط، ولا تتهرب من الشعور الذي لديك، واعترف كذلك بأن الآخرين يشعرون بمثل حالتك لو كانوا في ظروف مشابهة. ولو نجحت في الانتقال من ذهنية الشعور بالتهديد إلى العطف على الذات، فإن ذلك سيزيد من مرونتك وقدرتك على الاحتمال.
مد يداً للآخرين
إن القيام ببعض الخطوات فيما يتعلق بالعطف على الذات سيؤهلك شعورياً للتواصل مع الآخرين والتفاعل معهم. فلنكن واضحين: العطف ليس أمراً شائعاً في أماكن عملنا، بل غياب العطف في الواقع، وحتى نسيان الجانب البشري في الآخرين، هي مظاهر ترتبط بالإنهاك العاطفي الذي يرافق الإنهاك الجسدي. وإليك بعض النصائح حول كيفية جعل العطف جزءاً من أسلوبك في التعامل مع الناس ضمن مكان العمل.
- كوّن صداقات مع الأشخاص الذين تحبهم في مكان العمل. ربما تسمع من الكثيرين أسباباً شتى وهم ينصحونك بعدم تشكيل صداقات مع الآخرين في مكان عملك. ولكننا نرى العكس تماماً. فالعلاقات والصداقات الحقيقية في مكان العمل أمر في غاية الأهمية. فوفقاً لدراسة هارفارد غرانت، وهي واحدة من أهم الدراسات الطولية عن التطور البشري، فإن امتلاك علاقات وثيقة مع الآخرين أمر أساسي للحفاظ على الصحة والحياة السليمة والسعادة. كما أظهرت دراسات أُخرى أن إظهار الاهتمام بالآخرين والشعور باهتمام الآخرين يساعد في خفض ضغط الدم ويزيد من المناعة ويحسن الحالة الصحية العامة للإنسان.
- انظر إلى القيمة الحقيقية للآخرين. تلك المواقف "السخيفة" التي امتعض منها المدير في بداية هذه المقالة عادة ما تكون خللاً في التواصل وسوءاً في الفهم. فبدلاً من الاستماع الحقيقي إلى الآخرين لا نستمع إلا إلى ما نريد، وهذا نتيجة التحيزات والصور النمطية التي تعيق قدرتنا على الفهم والتواصل مع الآخرين. وتلك الصراعات الناجمة عن هذا الأمر تسبب الكثير من الضغط والتوتر الذي يمكن تجنبه. ولمنع ذلك عليك امتلاك بعض الفضول حول الآخرين. واسأل نفسك: "كيف يمكن أن أفهم الخلفية التي يأتي منها هذا الشخص؟"، واستمع بذهن منفتح بحيث تتمكن من الحصول على الثقة، وهذا أمر يساعدك على التخفيف من الضغط الواقع عليك كما يزيد من قدرتك على التأثير في الآخرين.
- قدم التوجيه للآخرين. وفقاً للأبحاث التي أجراها كل من ريتشارد بوياتسيز، وملفين سميث، وعليم بيفريدج، فإن تدريب الآخرين وتقديم الرعاية المهنية لهم يعود بآثار نفسية وفيزيولوجية عديدة على الإنسان تساعده في استعادة صحته وعمليات نموه، كما يعزز من طاقته وقدرته على الاحتمال. فحين نبدي قدراً كافياً من الاهتمام بالآخرين يدفعنا ذلك إلى استثمار جزء من وقتنا في تنميتهم وتطويرهم، حيث نصبح أقل انشغالاً بذواتنا، وهذا يخفض من الآثار السلبية للضغط والإنهاك.
- اجعل عملاءك وزبائنك أو زوار عيادتك هم مركز حواراتك. إذا كان هنالك عدم اتفاق مع زملاء العمل حول بعض الأهداف، وذلك ما يسبب لديك التوتر، فحاول أن تحول حواراتك معهم بحيث تتمحور باستمرار حول احتياجات الآخرين. حيث وصف لنا أحد المدراء الذين شاركوا في دراسة كاندي موقفاً كان يتجادل فيه بكل توتر وانفعال مع اثنين من الأطباء حول خطة علاج لمريض يعاني من السرطان. لقد كانوا مجتمعين في قاعة اجتماعات ويتناقشون ويتجادلون دون توقف وبلا قدرة على التوصل إلى قرار. وحين رأى المدير أن السلوك المهني كان على المحك وأن مستوى التوتر في النقاش ارتفع إلى حد كبير، قرر أن ينقل ذلك الحوار برمته ليكون في غرفة المريض نفسها. وبالفعل، ذهب إلى غرفته وأمسك بيده وهو جالس على طرف السرير، وجلس الطبيبان الآخران على الطرف المقابل. وعندها استأنفوا الحديث، ولكن صار المريض الآن، حرفياً، هو مركز الحوار. وقال المدير: "تغيرت نبرة الحوار تماماً حينها وحاولنا جميعاً أن نستعيد تركيزنا، وعاد الهدوء للجميع، وصرنا على نفس الموجة، وأصبح التواصل أكثر جدوى. وكان ذلك علاجاً فعالاً للتوتر الحاصل".
اقرأ أيضاً: للتخلص من الإنهاك الشديد... استعد إحساسك بالتحكم
لكن يبقى هنالك تحذير وحيد بخصوص العطف على الآخرين وإظهار الاهتمام بهم، وهي أننا أمام وسيلة في غاية الفعالية لعلاج الضغط، ولكنها ربما تصل إلى مرحلة تفقد معها تأثيرها. إذ إن المبالغة في العطف والرعاية يؤديان إلى نتيجة سلبية، وتجاوز الحد في العطف يستنفد ما لديك من قدرات عاطفية، ويصل بك الأمر إلى حد الإنهاك العاطفي، وهي ظاهرة تحدث حين يُصبح العطف عبئاً عليك ويزيد الضغط. لذا عليك أن تعرف حدودك وتضع الاستراتيجيات التي تحول دون الوصول إلى العطف المفرط حين تخرج الأمور عن السيطرة.
لكن الأمر يستحق المخاطرة بسبب أهمية معرفة كيف تتجنب إرهاق الآخرين، ولا سيما حين تلتزم بالعطف مع نفسك أولاً، ثم تبدأ بالعطف مع الآخرين واحتياجاتهم، وتخلق علاقات وثيقة تنعكس إيجاباً عليك وعلى بقية الأشخاص الذين يعملون إلى جانبك.
اقرأ أيضاً: عندما يتسبب الشغف بالإنهاك الشديد