تحظى شركة "أوبر" بأهمية كبيرة في نظر الكثير من المستخدمين، ويعود ذلك لأسعارها الرخيصة مقارنة مع سيارات الأجرة العادية، والسهولة بطرق الدفع الإلكترونية، عدا عن نظافة السيارات والمعاملة الطيبة من السائقين. ومع ذلك، فإن الفضائح المتزايدة للشركة تكشف عن مشكلة حقيقية فيها، وهو الأمر الذي بلغ ذروته مع التقرير الحازم الذي أصدره الأسبوع الماضي المدعي العام إيريك هولدر.
يعزي بعض الأشخاص أخطاء "أوبر" إلى الإخفاقات الشخصية للرئيس التنفيذي للشركة ومؤسسها تارفيس كالانيك. ولا شك أن إخفاقاته كانت عاملاً مساهماً في مشاكل الشركة، ولعل استقالته جاءت في محلها، إذ إن تصرفات كالانيك وغيره من كبار التنفيذيين تُعتبر مقياساً لما هو سيئ أو جيد، وهم بلا أدنى شك مسؤولون عن القرارات والممارسات المريبة التي صدرت عن الشركة أخلاقياً وقانونياً.
لكنني أرى مشكلة "أوبر" تتجاوز مجرد أنها ثقافة من صنيعة قيادة فاسدة. حيث يبدو لي أنّ العطل الأخلاقي في الشركة يعود إلى طبيعة الميزة التنافسية فيها، التي تُعتبر نموذج عمل قائم على خرق القانون. وبما أن "أوبر" هي وليدة لاشرعية مقصودة، لن يكون سهلاً عليها الامتثال للقواعد.
عدم الشرعية المتأصلة في "أوبر"
أدخلت "أوبر" تحسينات مهمة على صناعة النقل بسيارات الأجرة، وهي تحسينات أصبحت معروفة لدى الجميع اليوم. لكن بالعودة لفترة إطلاق الشركة عام 2010، نرى أن معظم أساطيل سيارات الأجرة في المدن كانت تستخدم أنظمة للتوجيه مزودة بنظام لتحديد المواقع بالإضافة إلى برامج وعتاد خاص. أي أن "أوبر" في تلك الفترة لم تكن تمتلك شيئاً ليس متوفراً لدى سائقي سيارات الأجرة العاديين أو لا يمكنهم الحصول عليه.
كذلك لم تكن وحدها من أدرك أن تصاريح سيارات الأجرة الباهظة التكلفة ليست ضرورية للحجز المسبق للرحلات، وهو تكتيك كان يستخدمه حينها رواد أعمال آخرون في الكثير من المدن. وصحيح أنه كان لدى "أوبر" من الحكمة ما جعلها تتيح للركاب طلب السيارات عبر الهواتف الذكية (وليس الاتصالات الهاتفية)، إلى جانب توفير الكثير من التكاليف بتجهيز جميع السائقين بنوع واحد من الهواتف (بدلاً من العتاد التخصصي)، لكن آخرين فعلوا ذلك أيضاً. وبالمحصلة، نرى معظم التحسينات التقنية الذي جاءت بها "أوبر" كانت أفكاراً أمكن لمنافسيها تدبرها في وقت قصير.
في حين كانت الميزة الأكبر لـ "أوبر" على سائقي سيارات الأجرة العاديين استخدام سيارات عادية لا تحمل أي رخص خاصة أو مظاهر رسمية. وبفضل استخدام تلك السيارات العادية غير التجارية، تجنبت "أوبر" وسائقوها التأمين التجاري والتسجيل التجاري، ولوحات السيارات التجارية، ورخص القيادة الخاصة وإجراءات التدقيق الأمني في خلفية السائق والفحوصات الصارمة التي تخضع لها السيارات التجارية وغيرها من المصاريف التي لا نهاية لها. وهذا التوفير في المصاريف أكسب الشركة ميزة تنافسية من ناحية التكلفة على سيارات الأجرة وخدمات النقل التقليدية مكنها من تقديم أسعار أقل للمستهلكين، وأشعل شهرتها ونموها. لكن استخدام السيارات غير التجارية لم يكن قانونياً في يوم من الأيام، فهناك في معظم الدوائر القضائية قواعد قائمة منذ أمد بعيد تتطلب جميع أشكال الحماية المذكورة آنفاً، ولا وجود لاستثناء يتماشى ورؤية "أوبر". والجدير بالذكر هنا أنه لم تكن "أوبر" من بدأ ذلك أولاً، بل شركة "ليفت".
وما يثير الانتباه أيضاً هو استخدام "أوبر" لأهم مقدراتها سلاحاً للدفاع عن عدم شرعيتها. فقد جهزت موظفين وإجراءات وأنظمة برمجية هدفها تمكين وتحريك ركاب وسائقين للضغط على المنظمين والمشرعين، بهدف خلق كارثة سياسية لأي شخص يشكك في أسلوب عملها. وفي حين كانت كتيبة محامي الشركة تحضّر حججاً محسنة عما تم تقديمه في النزاعات السابقة، كانت كل دائرة قضائية تتعامل مع "أوبر" على نحو مستقل وتبدأ معها من صفحة بيضاء معتمدة على فريق قضائي متواضع الإمكانات في معظم الأحيان. في تلك الأثناء كان المروّجون لـ "أوبر" يقدمون الشركة على أنها تجسيد لفكرة الابتكار، ويُظهرون منتقديهم على أنهم دمى في أيدي سائقي سيارات الأجرة وعالقون في الماضي.
بهذه الأساليب استطاعت "أوبر" خلط الأوراق. وعلى الرغم من تهكمها المباشر على معظم القوانين المرعيّة في معظم الدوائر القضائية، فقد كانت تعرف دوماً كيف تُبطئ أو توقف تنفيذ القوانين، فتتوصل في الوقت المناسب للتلاعب بالقوانين من أجل الإبقاء على أسلوب عملها. وبينما بدأ يُنظر إلى رؤية الشركة على أنها الوضع الطبيعي الجديد، نسي الجميع أن استراتيجيتها في الأساس غير قانونية.
فساد حتى النخاع
واجهت "أوبر" تحديات كبيرة في تنفيذ استراتيجيتها، إذ ليس من السهل دفع الناس لارتكاب الجرائم. وفي الواقع، كانت المخاطر الشخصية والمهنية تلاحق موظفي الشركة أينما التفتوا بسبب تحديهم القانون، إذ وُجّهت اتهامات لاثنين من التنفيذيين الأوروبيين واعتقلا بسبب العمل دون الترخيص اللازم. لكن "أوبر" نجحت في جعل خرق القانون أمراً اعتيادياً وروتينياً عبر الاحتفاء بما تقوم به من تقويض لقوانين خدمات سيارات الأجرة. ولذلك انظر إلى القيم التي تُعلن عنها الشركة "مندفعة" و"تكدح دوماً" و"جريئة". أما احترام القانون فبالكاد يُشار إليه في الحواشي.
إلى جانب تلك القيم، نرى تواطؤ محامو "أوبر" في بناء ثقافة غير شرعية. ففي الشركات العادية، يلجأ المدراء إلى محاميهم لمساعدتهم في الإبقاء على أعمالهم ضمن القانون. لكن ذلك لا يحدث في "أوبر" التي يقود فريقها القانوني سالي يو (ٍSalle Yoo)، رئيسة الشؤون القانونية التي كانت تشغل قبلها منصب المستشار العام، والتي وافقت على برنامج "جريبول" (الذي يخفي ممارسات الشركة عن المحققين الحكوميين)، وهناك تقارير أشارت إلى مشاركتها في توظيف محققين خاصين لمقابلة أفراد وزملاء الخصوم القضائيين للشركة.
وبما أن "أوبر" بنَت ثقافة تحتفي بخرق القانون، ليس مفاجئاً أن تواجهها الفضيحة بعد الأخرى. فكيف لمدير في "أوبر" معرفة أي القوانين يراعي وأيها يخرق؟
سباق إلى الحضيض
أُثِر عن توماس جريشام، وهو مموّل من القرن السادس عشر، قوله: "إن المال السيئ يُذهب المال الجيد". وأرى أن الأمر نفسه ينطبق على نماذج العمل غير القانونية. فإذا سمحنا لنموذج عمل غير قانوني بالازدهار في مجال ما، فإن الرسالة التي ستصل إلى شركات أُخرى في نفس المجال وفي مجالات أُخرى هي أن الاستراتيجية الذكية تكون بتجاهل القانون وطلب المغفرة بدلاً من طلب الإذن، وتمني حصول ما هو في صالحهم.
كانت شركة "ليفت" أول من دعت السائقين لنقل الركاب بسياراتهم لخاصة. وفي الحقيقة، كانت "أوبر" في بداياتها توفر خدماتها فقط من خلال سيارات سوداء مرخصة وحاصلة على التصاريح اللازمة. لكن عندما بدأت "ليفت" تقديم خدمات أرخص باستخدام سيارات عادية، كان على "أوبر" الرد. وفي منشور مهم يعود لعام 2013، اعترف كالانيك أن سائقي السيارات العادية غير النظاميين ليسوا قانونيين، ووصف أسلوب "ليفت" بأنه "عدواني جداً" و أنه "غير مرخص له". (أزالت "أوبر" المستند من الموقع بعد أن أشارت إليه لأول مرة في عام 2015. لكن موقع "أرشيف" (Archive.org) احتفظ بنسخة منه. كما أملك صورة للشاشة لأول قسم من المستند، ولكامل المستند في صيغة (pdf)، وكامل المستند بصيغة (pdf) قابل للطباعة). قال أيضاً كالانيك في مؤتمر "فورتشن برينستورم التقني (Fortune Brainstorm Tech) في يونيو/حزيران من عام 2013 عبر ملاحظات شفوية: "إن كل رحلة تقدمها شركة "ليفت" مع السائقين غير النظاميين هي جنحة جنائية". مشيراً إلى افتقارها إلى التراخيص التجارية والتأمين التجاري.
عندما ترى تصريحات كالانيك، تتصور أن رد "أوبر" على "ليفت" سيكون من خلال رفع شكوى تنظيمية أو دعوى قضائية تطلب فيها إيقاف المنافسة غير الشريفة التي تواجهها "أوبر" من شركة تعتمد ميزتها التنافسية على خرق القانون. لكن ما فعلته "أوبر" عوضاً عن ذلك كان تبني أسلوب عمل "ليفت" وتوسيعه. أما الشركات الأُخرى، فتعلمت وقلّدت، فعندما علم المنافسون أن "أوبر" سوف تستخدم مركبات غير مصرح لها، بدؤوا يفعلون نفس الشيء لئلا يفوتهم القطار. وبتطبيعها خرق القانون، غيّرت "أوبر" كامل قطاع المواصلات في المدن وجعلت نفسها مثالاً يحتذى لقطاعات أُخرى.
إصلاح المشكلة
لقد تمكنت الكثير من الشركات التي تعاني من ثقافة إدارية مختلة من إحداث التغيير عبر جلب قادة جدد. ومن الأمثلة التي تخطر على البال هنا فضائح الرشوة في شركة "سيمنز"، التي تشير جميع المؤشرات إلى تمكن القادة الجدد من إعادة الشركة إلى سكة الابتكار الحقيقي والمنافسة القائمة على الجدارة.
لكن لأن أصل المشكلة في "أوبر" يكمن في نموذج عملها فتغيير القيادة لن يحل المشكلة. ما لم يتم استهداف النموذج نفسه ومعاقبته فإن خرق القانون سيستمر. وأفضل طريقة لفعل ذلك هي بمعاقبة "أوبر" (وغيرها ممن يسلكون طرقاً مماثلة) على ما ارتُكب من تجاوزات، وفرض القانون بالقوة وبلا رحمة أو شفقة. وبما أن "أوبر" قدّمت منذ نشأتها مليارات التوصيلات في آلاف الدوائر القضائية، يمكن بسهولة أن تصل العقوبات والغرامات عليها لمئات الدولارات على كل توصيلة.
وبما أن معظم الدوائر القضائية لا تعمل بقانون التقادم، لذا فلا شيء يمنع من رفع ادعاءات على الخروقات السابقة. وبالنتيجة، ستتجاوز الأموال المطلوب من الشركة دفعها ما لديها من سيولة وكذلك قيمتها الشرائية. وحتى إذا قامت بضع مدن فقط بالملاحقة القضائية وحققت نجاحاً متوسطاً، فإن الأحكام الناتجة قد تتسبب في إفلاس "أوبر" وتُظهر لجيل من رواد الأعمال أن ابتكاراتهم يجب أن تمتثل للقانون.
ربما يجادل محبو "أوبر" أنك بغلق الشركة "تأخذ الصالح بجريرة الطالح"، إذ سيخسر إلى جانب المستثمرين في "أوبر" الركاب والسائقون أيضاً. لكن هناك دليل يرى عكس ذلك.
خذ حالة شركة "نابستر". كانت "نابستر" شركة شديدة الابتكار، تجلب للمستمعين بسهولة جميع الأغاني، وحلت بذلك مشكلة نفاد المخزون والحاجة للذهاب إلى متجر بيع التسجيلات. ومع ذلك، فإن أسلوب "نابستر" كان في أساسه غير قانوني، ولم تتمكن الابتكارات القيّمة للشركة من إلغاء المشكلة الأساسية المتمثلة في السرقة الفكرية لحقوق الملكية. وفي النهاية، أُجبرت "نابستر" على الإغلاق تحت ضغط من الفنانين ومن شركات التسجيل.
لكن نهاية "نابستر" لم تضطر الموسيقيين والمستمعين للعودة إلى الحياة ما قبل وجودها. فقد حصلنا بدلاً عنها على "آي تيونز" و"باندورا" و"سبتويفاي"، وهي شركات حافظت على ما كان رائعاً وقانونياً في "نابستر" مع العمل في نفس الوقت ضمن تقييدات قانون حقوق الملكية.
كما كان حال "نابستر"، يعود الفضل لـ "أوبر" في التخلص من أوجه قصور مهمة، وذلك عن طريق التوظيف الذكي للتقنية الحديثة لتحسين الخدمات. لكن ذلك ليس كافياً. إذ تتطلب المساهمة في المجتمع العالمي احتراماً للقانون وامتثالاً له. فربما يغرينا تجاهل هذه الشروط عندما نرى شركة تأتي بتحسينات جذرية على الخدمات، مثلما شعر الجميع حيال "أوبر". لكننا بتمنعنّا عن تطبيق قوانين واضحة مثل الترخيص التجاري للسيارات، فإننا نكافئ خرق القانون مع ما يترتب على ذلك من تبعات بغيضة. وإن مشاكل "أوبر" تظهر لنا بجلاء لماذا علينا ألا نفعل ذلك.