تتمتّع الدول المنتجة للنفط في منطقة الخليج العربي بثروة كبيرة متركزة في أيدي الدول والقطاع الخاص في الغالب. فبالإضافة إلى وجود أكثر من 2 تريليون دولار من الأصول السيادية، تقدّر شركة الاستشارات بوسطن كونسلتينغ غروب (Boston Consulting Group) أن الثروة الشخصية في الشرق الأوسط تبلغ وحدها حوالي 3.8 تريليون دولار على الأقل، ومن المنتظر أن تنمو هذه الثروة بنسبة 8% إلى 10% سنوياً ولعدة سنوات مقبلة. وليس من الواضح مصير هذه الثروة، لأننا لا نعرف على وجه التحديد ما إذا كانت هذه الثروة تملكها وتديرها أيدٍ حصيفة ومحوكمة.
وبالنظر إلى الفشل الذريع الذي لحق بمجموعة أبراج جروب (Abraaj Group) العام الماضي، فقد تكون المنطقة متخلّفة عن الركب في مجالات الحوكمة الرئيسية أكثر مما كان يُعتقد. إذ تعتبر منطقة الخليج موطناً لمجموعة واسعة من الاستثمارات، بما في ذلك الصناديق السيادية وصناديق التقاعد والمؤسسات والشركات العائلية والبنوك. ومن الواضح أن عدداً قليلاً فقط من المستثمرين الخليجيين يتّبعون إجراءات التدقيق والتحري الواجبة لمتابعة استثماراتهم. بيد أن تزايد أهمية المسؤولية المالية سيجعل النمو الاقتصادي المستدام يعتمد على التدقيق والتحري الفاعل بشكل متزايد. وستكون هذه التدابير ضرورية أيضاً لجذب رأس المال المحلي والعالمي واستبقائه.
الأزمة الأخيرة
انتهت الأزمة المالية العالمية في الولايات المتحدة منذ ما يقارب عقداً من الزمن، لتشق خطاها وترسو على شواطئ الخليج. ولعلّ أبرز ضحاياها هم "مجموعة سعد" السعودية، و"دار الاستثمار" الكويتية، و"بيت الاستثمار العالمي"، و"شعاع كابيتال" في دبي، و"بيت المال الخليجي" في البحرين. حيث تلقى خسائر فادحة كل من المساهمين في هذه الشركات وعملاء الجهات الائتمانية التي تتولى هذه الشركات إدارة أصولهم. وقد أسفر الأداء الاستثماري السيء خلال هذه الفترة عن إخفاء الخسائر التي تفاقمت نتيجة لضعف الحوكمة. حيث تفشّت الكثير من حالات التداول الاستباقي، والتداول الداخلي، وفرض الرسوم الباهظة وإجراء معاملات مع الأطراف ذات الصلة، بيد أن المستثمرين لم يكتشفوا إلا القليل النادر من هذه الحالات ليجري التحقيق فيها ومقاضاتها بنجاح من قبل السلطات.
بعد مضي عشر سنوات
من الواضح أن مجتمع المستثمرين الخليجيين ما زال يعاني من ندرة تطبيق إجراءات التدقيق والتحري الواجبة بعد مرور عقد من الزمن، بدليل أن من اكتشف مشكلة أبراج كانت مؤسسات تقع على بعد أكثر من 10 آلاف كيلومتر من المكتب الرئيس لمجموعة أبراج. لقد مثّل المستثمرون الخليجيون الغالبية العظمى من قاعدة عملاء مجموعة أبراج طيلة فترة وجودها التي دامت 16 عاماً. ومع ذلك، لم يُبلغ أي من مستثمري مجموعة أبراج الخليجيين عن وجود أية مخالفات قانونية أو مخاطر محتملة إلى الجهات التنظيمية المحلية، ولم تكتشف الجهات التنظيمية المحلية نفسها هذه المشكلات التي شملت دمج رأس المال بين الصناديق المختلفة وقصور الرسملة.
ولم يبذل المستثمرون الخليجيون ما يكفي من الجهد لتقييم أداء الجهات الائتمانية من خلال عدسة الجودة التشغيلية. وظهر جلياً الحاجة إلى بذل المزيد من جهود التدقيق والتحري التشغيلي الواجبة (ODD) لتقييم الطريقة التي تدير بها أبراج عملها كشركة لإدارة الأصول.
التعقيد
يتلخص مفهوم إدارة الأصول في استثمار الأموال في الأسواق العامة والخاصة بهدف توليد عائد مالي، ويكون هذا الاستثمار لصالح أطراف ثالثة عادة. ويختبئ في جنبات هذا المفهوم البسيط نظام معقد من الإداريين ومدققي الحسابات والبنوك والوسطاء وأمناء الاستثمار والمحامين الذين يقدمون مختلف الخدمات التي تهدف إلى تسهيل شراء الأصول وحيازتها وبيعها وتقييمها. وعادة ما يكون مدراء الأصول مسؤولين عن أكثر من عميل، ناهيك عن مسؤولياتهم تجاه ميزانياتهم العمومية. كما أنهم مسؤولون عن تحقيق التواؤم بين مختلف مزودي الخدمات في سبيل خدمة مصالح مستثمريهم. وليس من المفاجئ أن يقود هذا التعقيد بطبيعة الحال إلى تضارب في المصالح الذي يجب الإفصاح عنه وإدارته بشكل مناسب. ولا تتعلق إدارة الأصول على نحو "جيد" بعائدات الاستثمار فقط، بل يستلزم إدارتها العمل بطريقة عادلة وشفافة للمستثمرين. في النهاية، فإن من يقبع في خطر حقيقي فعلاً هو رأس مال المستثمر.
أهمية التدقيق والتحري التشغيلي
تُعتبر جهود التدقيق والتحري التشغيلي ضرورية بهدف تقييم ما إذا كان مدير الأصول يمتلك البنية التحتية اللازمة لإدارة رأس مال المستثمر وتحقيق المواءمة الكافية للمصالح مع المستثمرين المعنيين. وقد يعرّض المستثمرون أنفسهم لمجموعة متنوعة من المخاطر التي لا تنطوي على أي عوائد عند عدم وجود مستوى كافٍ من البنية التحتية أو المواءمة.
وعادة ما يتبنى ممارسو التدقيق والتحري التشغيلي الواجب فلسفة "ثق ولكن تحقق". وتشمل الأسئلة الرئيسة الاستفسار عن هوية الأفراد الذين يمكنهم إجراء التحويلات المصرفية، وعدد التوقيعات المطلوبة، وكيفية حساب الأصول وتقييمها، ومدى شفافية هذه العملية واستقلاليتها. بالإضافة إلى تحديد هوية مقدمي الخدمات المشاركين في إدارة الصندوق ومدى استقلال هذه الأطراف عن مدير الصندوق، ونوع الالتزام وثقافة الحوكمة المتّبعة لدى مدير الأصول. وتثير هذه القضايا أسئلة مهمة تساعد في بناء صورة شاملة للصفات التشغيلية لمدير الأصول.
وقد يتعرض المستثمرون لخطر الإهمال أو الرقابة بسبب ضعف العمليات من جهة، وقد يؤدي فشل الحوكمة إلى الاحتيال العلني من جهة أخرى. لذلك، يجب على المستثمرين الخليجيين بذل المزيد من الجهد لتطوير سياسات تنظّم كيفية تقييمهم للمخاطر التشغيلية ومدى تسامحهم مع فكرة قبول هذه المخاطر في محافظهم الاستثمارية. وستكون هذه الخطوة مهمة لجذب المستثمرين المحليين والعالميين ولإنجاح الشركات والبنية التحتية التي يمولونها.
الجهات التنظيمية المحلية
سعى قادة المال والأعمال في الخليج مؤخراً إلى إلقاء اللوم على الجهات التنظيمية لعدم إشرافها بشكل فاعل على المؤسسات الاستثمارية الخاضعة لسيطرتهم. ويبدو أن الجهات التنظيمية المحلية تعطي الأولوية لتحسين عمليات أسواق أسهمها العامة المحلية بهدف تحقيق المكانة المرغوبة لإدراجها في المؤشر العالمي، خاصة في الكويت والمملكة العربية السعودية. وقد كانت المملكة العربية السعودية سبّاقة بشكل خاص في فرض اللوائح من خلال مقاضاة النشاط غير المرخص، والتداول الداخلي، والاكتتابات العامة الأولية الاحتيالية. وعلى الرغم من إبداء الجهات التنظيمية في جميع أنحاء الخليج اهتماماً أقل في موضوع الفحص النافي للجهالة التشغيلي الواجب فيما يتعلق بإدارة الأصول، لا يمكن للمرء تبديد الفكرة القائلة أنّ التدقيق والتحري التشغيلي الواجب تبقى مسؤولية المستثمر النهائي.
لماذا لم يهتم المستثمرون؟
يوجد العديد من الأسباب وراء مواقف المستثمرين غير المبالية بقضية التدقيق والتحري التشغيلي الواجب. ويتمثّل الجاني الأكبر في قلة الوعي. وتركز العديد من معايير الاستثمار التي يحددها رجال الدولة البيروقراطيون أو مديرو الشركات العائلية في الخليج على مزايا تتصدرها العائدات المحتملة لصناديق الاستثمار فقط، بينما يولون اهتماماً أقل بالمخاطر السلبية، وتحديداً تلك المخاطر غير السوقية. وعادة ما يجري تجاهل المخاطر التشغيلية نسبة إلى تأثيرها الضئيل على الأداء المتوقع.
كما يُذعن المستثمرون الخليجيون إلى المغالطة المتمثلة في اعتبار مديري صناديق العلامات التجارية الكبيرة أقل مخاطرة بطبيعتهم. بيد أن هذا التفكير لم يجد نفعاً مع العديد من صناديق الثروة السيادية في الخليج والبنوك وصناديق التقاعد في عام 2008 عندما تبين أن استثماراتهم مع برنارد مادوف قد موّلت أكبر مخطط "بونزي" احتيالي في العالم. وفي عام 2015، كشفت قضية أخرى أن شركة "بلو كريست كابيتال" (BlueCrest Capital) القائمة في لندن، والتي تمكنت من إدارة أصول بقيمة 35 مليار دولار في ذروتها، قد موّلت موظفيها بحوالي 2 مليار دولار، وهو مبلغ فاق مقدار التمويل المخصص لمستثمريها بشكل كبير، وهو ما أشار إلى وجود نوع مختلف من مشكلة الموكّل والوكيل. وفي عام 2015 أيضاً، كشفت "بلاك ستون غروب" (Blackstone Group) التي تُعتبر أكبر شركة للأسهم الخاصة في العالم أنها ستدفع حوالي 40 مليون دولار كتعويضات وغرامات لتسوية تحقيقات الجهات التنظيمية التي أشارت إلى وجود "انتهاكات للقانون أو أوجه ضعف جوهرية في الضوابط". وفي وقت سابق من ذلك العام، دفعت الشركة المنافسة "كولبرج كرافيس روبرتس" (KKR) ما يقرب من 30 مليون دولار في نزاع آخر مع جهاتها التنظيمية. وقد كان لكل من مديري أصول هذه الشركات عملاء بارزون في الخليج في ذلك الوقت.
عندما ينحسر المد
يميل المستثمرون أيضاً إلى التغاضي عن بذل جهود التدقيق والتحري التشغيلي الواجبة نظراً إلى أن عمليات الاحتيال العلنية غير شائعة. ويرى العديد من خبراء الاستثمار أنه من غير المرجح أن يفقد المستثمرون وظائفهم بعد الاستثمار مع مدير صندوق مهم وذائع الصيت ومعروف، حتى لو فشلوا في النهاية. ويعكس وضع مجموعة أبراج هذا الرأي.
ومن الممكن أن يكون التدقيق والتحري التشغيلي الواجب عملية متكررة ومملة وتتطلب موهبة متخصصة. علاوة على ذلك، يركز التدقيق والتحري التشغيلي الواجب على منع الخسائر أكثر من تركيزها على تحديد العوامل المحركة للعوائد. نتيجة لذلك، غالباً ما يُنظر إلى إجراءات التدقيق والتحري التشغيلي الواجبة على أنها تكلفة غير ضرورية، ويتجاهلون أهميتها خاصة أثناء فترات الازدهار.
وتقود هذه العوامل إلى تخصيص غير متناسب للموارد، حيث توجّه كلٌ من الميزانيات المالية ورأس المال البشري نحو مهمات تخصيص التمويل في المكاتب الأمامية على حساب التدقيق والتحري التشغيلي الواجب. وهو ما قد يُسفر عن خسائر أكبر عندما تتقلّب أوضاع الأسواق ويصبح من الصعب إخفاء مشكلات الحوكمة.
التدقيق والتحري الواجب للاقتصاد
تكشف الصورة الأكبر عن الفوائد العديدة الناجمة عن بذل جهود التدقيق والتحري التشغيلي الواجبة من قبل المستثمرين الخليجيين. فهي لا تقلل من فرص تعريض الأفراد للفشل التشغيلي فحسب، وإنما تخلق دورة محمودة يجري فيها تبادل أفضل الممارسات واعتمادها، وهو ما يزيد من توقعات الجميع في هذه الصناعة. وبمرور الوقت، يمكن لمديري الأصول الأكثر سلامة من الناحية العملية فقط جذب الأصول وتحقيق النمو. وهو ما يحسن جودة صناعة الاستثمار في الخليج وقوتها، ويخلق في النهاية بيئة استثمارية تجتذب رأس المال المحلي ورأس المال الأجنبي على حد سواء، وهو أمر تحرص منطقتنا على تحقيقه بشدة.
ومن المهم أن يتشارك الجميع مسؤولية بلوغ مستوى أفضل من الصناعة المالية الخليجية. وعلى الرغم من أن الجهات التنظيمية أصبحت نشطة بشكل متزايد في إصدار أسواق رأس المال والنشاط التجاري، إلا أنها بذلت مجهوداً أقل لتحسين أفضل الممارسات في إدارة الأصول.
يجب على المستثمرين الخليجيين بذل المزيد من الجهد لتطوير سياسات تنظّم كيفية تقييمهم للمخاطر التشغيلية ومدى تسامحهم مع فكرة قبول هذه المخاطر في محافظهم الاستثمارية.
ومع ذلك، أنا أزعم أن عبء السعي وراء عوائد مميزة عن الاستثمارات يقع على عاتق مالكي رؤوس المال باعتبارهم المستفيدين المباشرين. ولا يوجد مجال للتهاون في هذه القضية. وفي حال افتقر المستثمرون إلى الموارد الداخلية لتنفيذ إجراءات التدقيق والتحري التشغيلي الفاعلة، فيمكنهم الاستعانة بمصادر خارجية تتمثل في المتخصصين. وقد قامت شركات استشارية بالفعل مثل شركة "كاسيل هول" (Castle Hall) الكندية بفتح مكاتب في أبوظبي مؤخراً بهدف دعم عملائها الإقليميين في تقييم مديري الأصول وصناديقهم على الصعيدين الدولي والمحلي. وتمثّل التكاليف المرتبطة بهذه التقييمات عموماً جزءاً ضئيلاً من نسبة الأصول التي سيجري استثمارها.
وبالتالي، إذا رغبت منطقة الخليج في أن تمثّل دور البلد المضيف للمراكز المالية التنافسية على المستوى العالمي، وموطناً للمستثمرين الأثرياء والمخضرمين بجد، فيجب على المساهمين في السوق المالية الخليجية بذل قدر أكبر من التدقيق والتحري التشغيلي الواجب و"اجتياز الاختبار" عندما يخضعون له من قبل المستثمرين الأجانب، حيث تمتلك دول المنطقة ومستثمريها فرصة لحماية ثرواتها المالية وتنميتها واجتذاب ثروات الآخرين، عندما تغدو مثلاً أعلى في اتباع أفضل الممارسات والحوكمة الرشيدة.