إليك هذا المقال الذي يتحدث عن حل الركود الاقتصادي تحديداً. في مطلع العام 2000، باع موقع لبيع الكتب عن طريق الإنترنت لا يزيد عمره على خمس سنوات يُدعى أمازون (Amazon.com) سندات قابلة للتحويل بقيمة 672 مليون دولار لتعزيز مركزه المالي. بعد شهر بالضبط، انفجرت فقاعة الإنترنت (أو فقاعة "الدوت كوم" كما تُعرف أيضاً). فقد أشهرت أكثر من نصف الشركات الرقمية الناشئة كلها إفلاسها خلال السنوات القليلة التالية، بما في ذلك الكثير من منافسي أمازون في ذلك الوقت في مجال التجارة الإلكترونية. لو كانت الفقاعة قد انفجرت قبل بضعة أسابيع فحسب، لكانت واحدة من أنجح الشركات على الإطلاق قد وقعت ضحية لذلك الركود.
لماذا تفكر الشركات في حل الركود الاقتصادي تحديداً؟ يمكن لحالات الركود - التي تعرف على أنها ربعين متتاليين من النمو الاقتصادي السلبي - أن تنجم عن الصدمات الاقتصادية (مثل الارتفاع الحاد في أسعار النفط)، أو حالات الذعر المالي (مثل الذعر الذي سبق الركود العظيم)، أو التغيرات السريعة في التوقعات الاقتصادية؛ وهذا ما تسبب بانفجار فقاعة الإنترنت)، أو مزيج معين من هذه العوامل الثلاثة. تعاني معظم الشركات أثناء الركود، والسبب الرئيس في ذلك هو أن الطلب (والإيراد) يتراجعان بينما يزداد عدم اليقين بخصوص المستقبل. لكن الأبحاث تظهر أن هناك طرقاً للتخفيف من الضرر.
في مقال نشر في هارفارد بزنس ريفيو في عام 2010 بعنوان "الخروج الصارخ من الركود" وجد المؤلفون رانجي غولاتي، ونيتن نوريا، وفرانز فولغيتسوغين أنه خلال حالات الركود التي حصلت في الأعوام 1980، و1990، و2000، أبلت 17% من الشركات العامة التي درسوها والبالغ عددها 4700 شركة بلاءً سيئاً واضحاً: فهي إما أفلست، أو تحولت إلى شركات خاصة بصيغ جديدة، أو وجدت نفسها عرضة للاستحواذ. لكن النتيجة التي لا تقل إذهالاً عن ذلك هي أن 9% من الشركات لم تتعافَ ببساطة في السنوات الثلاث التي تلت الركود - بل ازدهرت، وتفوقت في الأداء على منافسيها بما لا يقل عن 10% من حيث نمو المبيعات والأرباح. عزز تحليل أحدث لشركة "باين" (Bain) باستعمال بيانات من الركود العظيم هذه النتيجة. فقد شهدت أهم 10% من الشركات في تحليل "بين" ارتفاعاً مضطرداً في أرباحها طوال الفترة وهي تواصل النمو بعد ذلك. كما توصلت دراسة ثالثة أجرتها "ماكنزي" (McKinsey) إلى نتائج مشابهة.
العنصر الذي أحدث الفرق في حل الركود الاقتصادي هو التحضير. فمن بين الشركات التي شهدت جموداً في أعقاب الركود العظيم، "قلة فقط كانت قد وضعت خططاً للطوارئ أو فكرت في السيناريوهات البديلة"، بحسب تقرير "بين". "عندما حل الهبوط الاقتصادي، انتقلت هذه الشركات إلى وضعية القتال للبقاء على قيد الحياة، حيث أجرت تخفيضات هائلة، وتصرفت بطريقة دفاعية قائمة على رد الفعل". العديد من الشركات التي تركز على بقائها على قيد الحياة فحسب أثناء الركود أبطأ في التعافي ولا تتمكن فعلياً من اللحاق بالركب أبداً.
حل الركود الاقتصادي
كيف يجب على الشركة أن تهيئ نفسها سلفاً قبل الركود وتفكر في حل الركود الاقتصادي وما هي الخطوات التي يجب عليها اتخاذها عندما يضرب الركود؟ تسلط الأبحاث ودراسات الحالات التي تبحث في الركود العظيم الضوء على هذه الأسئلة. في بعض الحالات، هي تدعم الحكمة التقليدية؛ وفي حالات أخرى تتحداها. تتناول بعض أكثر النتائج إثارة للاهتمام أربعة مجالات هي: الديون، واتخاذ القرار، والتعامل مع القوى العاملة، والتحول الرقمي. تشير الرسالة الضمنية في عموم هذه المجالات إلى أن حالات الركود هي تمرين تحت الضغط العالي في إدارة التغيير، ولكي تتمكن الشركة من المناورة بنجاح خلال الركود، فإنها بحاجة إلى أن تتمتع بالمرونة وأن تكون جاهزة لتعديل وضعها.
بما أن الشركات ذات الأسلوب اللامركزي كانت تفوض اتخاذ القرار إلى المراتب الأدنى في الهيكل التنظيمي، فقد كانت أقدر على التكيف مع الظروف المتغيرة.
تخفيف المديونية قبل حالات الهبوط الاقتصادي
تحبذ ريبيكا هندرسون (من كلية هارفارد للأعمال) أن تذكر طلابها بما تسميه القاعدة الأولى "لا تحطموا الشركة". هذا يعني، أولاً وقبل كل شيء، لا تدعوا مالكم ينفد. فبما أن الركود يؤدي عادة إلى تراجع في المبيعات، مما يعني أموالاً نقدية أقل لتمويل العمليات، فإن النجاة من حالة الهبوط الاقتصادي تقتضي إدارة مالية بارعة. فلو لم تكن أمازون قد جمعت كل ذلك المال قبل انفجار فقاعة الإنترنت، لكانت خياراتها ستكون محدودة أكثر بكثير. عوضاً عن ذلك، تمكنت من استيعاب الخسائر في استثماراتها في الشركات الناشئة الأخرى وكذلك إطلاق خدمة (Amazon Marketplace)، وهي منصتها المخصصة للبائعين من الأطراف الثالثة في وقت لاحق ذلك العام. كما توسعت توسعاً إضافياً أثناء الركود وبعده لتدخل شرائح جديدة (المطابخ، والسفر، والملابس) وأسواقاً جديدة (كندا).
وللعمل على حل الركود الاقتصادي بالفعل، تظهر الدراسات أن الشركات ذات المستويات العالية من الديون خاصة تكون في وضع هش أثناء الركود. في دراسة أجريت عام 2017، بحث كسافييه جيرو (من كلية سلون في معهد ماساتشوستس للإدارة) وهولغير مولير (من كلية ستيرن للأعمال في جامعة نيويورك) في العلاقة بين إغلاق الشركات وما يرتبط بذلك من بطالة وتراجع في أسعار المساكن في مختلف المقاطعات الأميركية. بالإجمال، كلما كان تراجع أسعار المساكن أكبر، كان تراجع الطلب من المستهلكين أكبر، الأمر الذي يقود إلى إغلاق المزيد من الشركات ونسبة بطالة أعلى. لكن الباحِثيَن وجدا أن هذا التأثير كان الأوضح بين صفوف الشركات التي تمتلك أعلى نسب من الديون. وقد قسما الشركات على أساس ما إذا كانت قد أصبحت أكثر أو أقل مديونية مع اقتراب الركود، حيث قاسا ذلك من خلال التغير في نسبة الدين إلى الأصول. كانت الغالبية العظمى من الشركات التي أغلقت أبوابها بسبب تراجع الطلب ذات مديونية عالية.
يفسر مولر الأمر قائلاً: "كلما زادت ديونك، ستكون بحاجة إلى أموال نقدية أكثر لكي تسدد الفائدة وأصل القرض". وعندما يحصل الركود وتقل الأموال النقدية الواردة، فإن ذلك "يعرضك لخطر الإفلاس". ولكي تتمكن الشركات ذات الديون الأعلى من الاستمرار في الدفع، فإنها ستكون مجبرة على خفض التكاليف بقوة أكبر، وغالباً ما يكون ذلك عبر تسريح الموظفين. يمكن لهذه التخفيضات الهائلة أن تقيد إنتاجيتها وقدرتها على تمويل الاستثمارات الجديدة. فالمديونية تحد عملياً من خيارات الشركات، وتقيد يديها، ولا تترك لها مجالاً واسعاً للتصرف بانتهازية.
تعتمد درجة خطورة المستويات العالية من الدين خلال الركود على عدة عوامل. فقد وجد شاي بيرنشتاين (من كلية الدراسات العليا للأعمال في جامعة ستانفورد)، وجوش ليرنير (من كلية هارفارد للأعمال) وفيليبو ميزانوتي (من كلية كيلوغ للإدارة في جامعة نورث وسترن) أن الشركات المملوكة من الصناديق الاستثمارية الخاصة - التي تشترط غالباً على الشركات التي تمتلكها الاستدانة - كانت أقدر على حل الركود الاقتصادي وتجاوز أزمة الركود العظيم من نظيراتها ذات المستوى المشابه من المديونية ولم تكن مملوكة من صناديق استثمارية خاصة. وتعود معاناة الشركات ذات الديون الكثيرة جزئياً إلى أن الوصول إلى رأس المال يصبح شحيحاً أثناء فترات الهبوط الاقتصادي. وقد خرجت الشركات المدعومة من الصناديق الاستثمارية الخاصة من الأزمة في وضع أفضل، كما تشير الدراسة، لأن مالكيها كانوا قادرين على مساعدتها في الحصول على رأس المال عندما كانت بحاجة إليه. وثمة طريقة أخرى تسمح للشركات بتجنب عبء التزامات الديون هي إصدار الأسهم. يقول مولير: "إذا أصدرت أسهماً قبيل فترة حصول الركود، تصبح مشكلة التخلف عن السداد أقل وضوحاً".
يشير الواقع بطبيعة الحال إلى أن العديد من الشركات تكون مديونة بمستوى معين عند حلول الركود. فقد وجدت دراسة مولير أن متوسط نسبة الدين إلى الأصول في الشركات التي كانت لديها مستويات عالية من الدين خلال الفترة التي سبقت الركود العظيم بلغ 38.3%. أما ضمن المجموعة التي كانت قد تخففت من عبء الدين فقد بلغت النسبة 19.5%. ورغم أنه ليس هناك من رقم سحري، إلا أن المستويات المتواضعة من الدين ليست بالضرورة مشكلة، كما تُظهر الأبحاث. ومع ذلك، فإن مولير يقترح على الشركات التي تعتقد أن الركود قادم دراسة إمكانية تقليص مديونيتها. تدعم أبحاث ماكنزي الأخيرة حول الركود هذه الخلاصة: فالشركات التي تمكنت من الوصول إلى حل الركود الاقتصادي وخرجت أفضل حالاً من الركود العظيم كانت قد خفضت مديونيتها تخفيضاً دراماتيكياً بين عامي 2007 و2011 بالمقارنة مع الشركات الأقل حظاً.
وعندما يتعلق الأمر بتخفيف عبء الدين، من المفيد البدء في وقت مبكر، كما يقول ميهير ميسور من شركة ماكنزي. هذا يعني تقليل مستوى الدين قبل أن يتضح أن الشركة تعاني من الركود. ويوجه ميسور النصيحة التالية: "يجب أن تُجروا مراجعة دقيقة لمحفظتكم الاستثمارية، لأن التخلص من الأصول يمكن أن يكون طريقة لتقليل المديونية دون إجراء تقليص بالضرورة للجوانب الأساسية للعمليات".
التركيز على صنع القرار
لا يعتمد أداء الشركة خلال الركود وبعده على القرارات المتخذة فحسب، وإنما على طريقة اتخاذ هذه القرارات أيضاً. ففي دراسة جرت عام 2017، بحث كل من رافاييلا سادون (من كلية هارفارد للأعمال)، وفيليب آغيون (من كوليدج دى فرانس)، ونيكولاس بلوم وبريان لوكينغ (من ستانفورد) وجون فان رينين (من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي)) في كيفية تأثير الهيكلية المؤسسية على قدرة أي شركة على تدبر أمورها أثناء فترات الهبوط الاقتصادي. فمن جهة، "الحاجة إلى اتخاذ قرارات قاسية قد تكون لصالح الشركات ذات الأسلوب المركزي"، حسبما يكتب الباحثون، لأنها تمتلك صورة أفضل عن المؤسسة بأكملها، وحوافزها عادة ما تكون أكثر تواؤماً مع أداء الشركة. لكن من جهة أخرى، قد تكون الشركات ذات الأسلوب اللامركزي في وضع أفضل للتعامل مع الصدمات الاقتصادية الكلية "لأن قيمة المعلومات المحلية تزداد".
اعتمد الباحثون على بيانات "المسح العالمي للإدارة" الخاص بالمصنعين الذي يشمل أسئلة حول حجم الاستقلال الذاتي الذي يتمتع به مدير المصنع للقيام باستثمارات، وطرح منتجات جديدة، واتخاذ قرارات تخص المبيعات والتسويق، وتعيين موظفين. اعتُبِرَت الشركات التي كان مدراء المعامل فيها يتمتعون بصلاحية تقديرية محدودة شديدة المركزية؛ في حين اعتُبِرَت الشركات التي كانوا يتمتعون فيها بصلاحية تقديرية كبيرة أقل مركزية. كما درس الباحثون أيضاً نتائج مسح مشابه أجراه مكتب الإحصاء في الولايات المتحدة الأميركية وطابقوها مع تقارير الشركات عن المبيعات، ومستويات التوظيف، والأرباح، وغير ذلك من مقاييس الأداء. وجمعوا بيانات عن الصناعات والقطاعات التي تلقت أقوى الضربات جراء الركود العظيم. وبحسب ما قال الباحثون فإن "اللامركزية اقترنت بأداء أفضل نسبياً في حالة الشركات أو المؤسسات التي واجهت أقسى بيئة أثناء الأزمة". كما وجدوا أيضاً أن منافع اللامركزية تلاشت مع تحسن الظروف - وهي علامة على أن تفويض الصلاحيات بطريقة لامركزية ينطوي على قيمة معينة في الأوقات التي تتصف بالغموض.
لماذا كانت اللامركزية مفيدة؟ تقول سادون: "تسبب الركود بالكثير من الغموض والاضطراب". فبما أن الشركات اللامركزية كانت تُفوض اتخاذ القرار إلى المراتب الأدنى في هيكلية المؤسسة، فقد كانت أقدر على التكيف مع الظروف المتغيرة. على سبيل المثال، كانت هذه الشركات أجرأ في تعديل ما تعرضه من منتجات استجابة للتغيرات الحاصلة في الطلب. تقول سادون: "ثمة نصيحة نقدمها ألا وهي التفكير المتأني بهيكلية مؤسستكم لأن ذلك إحدى الطرق التي تساعدكم في التأقلم مع حالة الغموض في الظروف".
بطبيعة الحال، ليس من السهل تعديل الهيكلية المؤسسية بسرعة في معرض الاستعداد لحالة الركود والعمل على التفكير في حل الركود الاقتصادي برمته، لكن ذلك لا يعني أن الشركات ليس بوسعها أن تتعلم من هذه النتائج. تقول سادون: "تؤدي اللامركزية إلى المطابقة بين القرارات والخبرات". وهي تقول إن الشركات يمكن أن تقع في فخ احتكار حقوق اتخاذ القرارات خلال فترة الهبوط الاقتصادي. لكن عدم اليقين الذي يسببه الركود يفرض بالضرورة اللجوء إلى التجريب، مما يستدعي اتخاذ القرارات في جميع أرجاء المؤسسة. وحتى لو قررت الشركات عدم استعمال اللامركزية، فإنها يمكن أن تحسن عملية جمع الآراء من الموظفين على جميع المستويات عند اتخاذ القرارات الرئيسة. تقول سادون: "يمنح الركود فرصاً للتغيير".
انظروا إلى ما هو أبعد من تسريح الموظفين
بعض عمليات تسريح الموظفين هي أمر حتمي خلال فترات الهبوط الاقتصادي؛ فخلال الركود العظيم سُرح أكثر من 2.1 مليون أميركي في 2009 وحده. لكن الشركات التي خرجت من الأزمة في أقوى حالاتها كان اعتمادها على تسريح الموظفين بهدف خفض التكاليف أقل، وكانت أكثر ميلاً إلى الاعتماد على إدخال تحسينات تشغيلية، وهو ما كشفه رانجاي غولاتي وزملاؤه في دراستهما للشركات العامة.
يعود السبب في ذلك إلى أن تسريح العمال غير مضر بالعمال فحسب، بل مُكلف للشركات أيضاً. فالتوظيف والتدريب مكلفان، لذلك تفضل الشركات ألا تضطر إلى إعادة التعيين عندما يتحسن الاقتصاد مجدداً، ولاسيما إذا كانت تعتقد أن الهبوط الاقتصادي سيدوم لفترة وجيزة. كما أن تسريح العمال يمكن أن يؤذي المعنويات، مما يشكل ضغطاً على الإنتاجية في وقت لا تكون الشركات قادرة على تحمل ذلك.
لحسن الحظ، ليس تسريح العمال هو الطريقة الوحيدة لخفض تكاليف اليد العاملة. إذ يجب على الشركات أن تدرس احتمالات تخفيض ساعات العمل، ومنح الإجازات المدفوعة أو غير المدفوعة، وربط الأجر بالأداء. بعد انهيار البورصة في العام 2000، سرحت شركة هانيويل (Honeywell) ما يُقارب 20% من قواها العاملة ثم عانت في التعافي من الهبوط الاقتصادي الذي تلاه. لذلك عندما حصل الركود العظيم في 2008، تبنت الشركة مقاربة مختلفة كما يصف كل من ساندرا سوشر وشالين غوبتا في مقال لهما في هارفارد بزنس ريفيو في 2018 بعنوان "عمليات التسريح التي لا تدمر شركتك". كتب سوشر وغوبتا قائلين: "منحت هانيويل موظفيها إجازات تتراوح من أسبوع إلى خمسة أسابيع، بعضها غير مدفوع الأجر وبعضها كان مدفوع الأجر جزئياً، بحسب أنظمة العمل المحلية". أدى ذلك إلى توفير ما يقارب 20 ألف وظيفة. وخرجت هانيويل من الركود العظيم بعد المضي قدماً في حل الركود الاقتصادي في وضع أفضل بالمقارنة مع تجربتها في ركود عام 2000 من حيث المبيعات، وصافي الدخل، والتدفقات النقدية، على الرغم من أن الهبوط الاقتصادي لعام 2008 كان أكثر حدة بكثير.
في بعض مناطق العالم، يشجع صناع السياسات على تقليص ساعات العمل عوضاً عن تسريح العمال. وتمتلك دول عديدة وأكثر من نصف الولايات الأميركية شكلاً ما من أشكل برامج التعويض الخاصة بالعمل "القصير الأجل"، بحيث يحصل العاملون الذين تقلل ساعات عملهم على تعويض بطالة جزئي. ففي فرنسا، استفاد 4% من العمال و1% من الشركات من برامج العمل القصير الأجل في 2009، وقد حقق البرنامج منافع لكل من العمال والشركات على حد سواء. في ورقة نقاشية عام 2018، نشرها مركز أبحاث السياسات الاقتصادية، وهو عبارة عن معهد للأبحاث الفكرية، وجد بيير كوهوك، وفرانسيس كرامارز، وساندرا نيفو أن الشركات التي استفادت من برنامج العمل القصير الأجل سرحت عدداً أقل من العمال وكانت أكثر ميلاً إلى النجاة بنفسها خلال الركود العظيم. كان التأثير في أقصى درجاته بين صفوف الشركات الأكثر تضرراً جراء الركود وفي تلك التي لديها أعلى مستويات من المديونية. ووفقاً للباحثين، فإن مقاربة العمل القصير الأجل سمحت للشركات الهشة بالتمسك بعدد أكبر من أفراد قواها العاملة. فبغياب الدعم الحكومي، كانت ستضطر على الأغلب إلى تسريح عدد أكبر من الموظفين، مما كان سيصعب عليها التعافي بعد الركود أو كان سيتسبب بإفلاسها بالكامل. يقدر الباحثون أنه في مقابل كل خمسة عمال منخرطين في عمل قصير الأجل، أمكن إنقاذ وظيفة واحدة. كما يقدرون أن تكلفة الوظيفة الواحدة التي أنقذت كانت أقل بالمقارنة مع الوظائف في البرامج المشابهة؛ وبما أن البديل كان يتمثل في دفع تعويض بطالة، فإن هذا البرنامج وفر على الحكومة الفرنسية بعض المال.
أحد الجوانب الجذابة للإجازات الإجبارية بأجر أو دون أجر والعمل القصير الأجل هو أنها، حالها حال عمليات تسريح العمال، تعطي الشركات سلطة تقديرية بخصوص تحديد العمال المتأثرين. وفي المقابل، فإن خفض أجور جميع العمال دون استثناء أو تجميع عمليات التوظيف بطريقة لا تأخذ إنتاجية الموظفين بالحسبان، يمكن أن يرتدا سلباً، ويضرا بالمعنويات، وينفرا أكثر العمال إنتاجية. وعلى المنوال ذاته، فإن تجميد عمليات التوظيف يؤثر على جميع الأقسام عشوائياً، دون إعطاء وزن خاص لقيمة مختلف الأشخاص الذين يمكن تعيينهم.
الأجور المرتبطة بالأداء - أي التعويضات المستندة إلى مقياس معين للإنتاجية أو المحصلات التجارية - هي طريقة أخرى لضبط تكاليف اليد العاملة دون الإضرار بالإنتاجية. ثمة نقاش دائر منذ أمد بعيد حول الأجور المرتبطة بالأداء، سواء بالنسبة للتنفيذيين أو العمال الميدانيين على الخطوط الأمامية، وهناك براهين وأدلة كثيرة مع هذه الأداة الإدارية وضدها وعلى كلا الجانبين. لكن دراسة حديثة لكريستوس ماكريديس (من مجلس الشؤون الاقتصادية في البيت الأبيض) وماوري غيتلمان (من مكتب إحصائيات العمل في الولايات المتحدة الأميركية) توثق حقيقة هامة. تُظهر هذه الدراسة التي تعتمد على الردود الواردة في المسح الوطني للتعويضات بين 2004 و2014، أن الشركات الأميركية تعتمد على الأجور المرتبطة بالأداء بوتيرة أكبر أثناء فترات الهبوط الاقتصادي. ورغم أنهما لا يستطيعان أن يقولا ما إذا كانت هذه الاستراتيجية ناجعة بالنسبة للشركات، لكنهما يظهران أن وظيفة معينة ستكون ذات أجر مرتبط بالأداء على الأغلب في الأوقات العصيبة. كما يضع المؤلفان فرضية تقول إن مرد ذلك إلى أن الأجور المرتبطة بالأداء تجعل الشركات أكثر مرونة من خلال المواءمة بين حوافز العمال والظروف المتغيرة.
تستثمر الشركات في التكنولوجيا أثناء الركود لأن تكلفة الفرصة بالنسبة لها أدنى بالمقارنة مع أوقات السراء.
الاستثمار في التكنولوجيا
من المغري الاعتقاد أن الركود هو الوقت المناسب للتعامل بهدوء مع الأزمة وعدم المجازفة. لكن فترات الهبوط الاقتصادي على ما يبدو تشجع فعلياً على تبني تكنولوجيات جديدة. ففي ورقة بحثية تعود إلى عام 2018، قارن براد هيرشبين (من معهد أبجون لأبحاث التوظيف) وليزا كان (من جامعة روتشيستر) أكثر من 100 مليون إعلان وظيفي وضعت على الإنترنت بين 2007 و2015 مع البيانات الاقتصادية لمعرفة كيفية تأثير الركود العظيم على أنواع المهارات التي كان أصحاب العمل يبحثون عنها. وقد وجدا أن المدن الأميركية الأكثر تضرراً من الركود شهدت طلباً كبيراً على المهارات ذات المستوى الأرفع - بما في ذلك المهارات المرتبطة بالكمبيوتر. وقد جاء هذا التحسن في الطلب جزئياً بسبب استفادة أصحاب العمل من البطالة العالية ليكونوا أكثر انتقائية، كما ألمح كل من أليسيا ساسر موديستينو (من جامعة نورث وسترن)، ودانيال شواغ (من كلية كندي في هارفارد وجامعة كيس وسترن ريزرف)، وجوشوا بالانس (من مركز نيو إنغلاند للسياسات العامة) في دراستهم إلى أن الطلب على المهارات التقنية يعود إلى مستويات أكثر طبيعية بعد تحسن سوق العمل.
لكن الشركات لم تكن أكثر انتقائية فقط، كما وجد هيرشبيان وليزا؛ وإنما كانت قد أصبحت أكثر رقمية أيضاً. ففي تلك المناطق التي تضررت كثيراً في الولايات المتحدة الأميركية، زادت الشركات أيضاً من استثماراتها في تكنولوجيا المعلومات، الأمر الذي قاد إلى حصول ارتفاع كبير في اشتراط وجود مهارات في مجال تقنية المعلومات في إعلاناتها الوظيفية.
فلماذا تستثمر الشركات في التكنولوجيا أثناء الركود عندما تكون الأموال شحيحة؟ تشير نظريات الاقتصاديين إلى أن ذلك يعود إلى كون تكلفة الفرصة بالنسبة لهذه الشركات أدنى بالمقارنة مع أوقات السراء. فعندما يكون الاقتصاد في أحسن أحواله، فإن الشركة يكون لديها كل الحوافز لتنتج بأكثر ما في وسعها؛ فإذا ما وُجهت الموارد للاستثمار في تكنولوجيات جديدة، فإنها ربما بذلك تفوت فرصاً لجني المال. ولكن إذا كان هناك عدد أقل من الناس المستعدين لشراء ما تبيعه، فإنه ليس هناك حاجة للإبقاء على العمليات التشغيلية عند طاقتها القصوى، مما يحرر جزءاً من الموازنة التشغيلية لتمويل مبادرات تكنولوجيا المعلومات دون الضغط على المبيعات. ولهذا السبب، فإن تكاليف التكنولوجيا، بشكل ما، تكون أقل خلال فترات الركود.
هذا أمر لا بأس به نظرياً، لكن هناك أسباباً أخرى قد تكون أكثر منطقية من الناحية العملية بالنسبة للمدراء. فالتكنولوجيا يمكن أن تجعل شركتكم أكثر شفافية، ومرونة، وكفاءة. ووفقاً لكاتي جورج، وهي شريكة أولى في ماكنزي، فإن السبب الأول لإعطاء الأولوية للتحول الرقمي قبيل الهبوط الاقتصادي أو أثناءه هو أن تحسين عملية تحليل البيانات يمكن أن يساعد في تكوين فهم أفضل للشركة، وكيف يؤثر الركود عليها، وأين توجد إمكانية إدخال تحسينات على العمليات.
السبب الثاني هو أن التحول الرقمي يمكن أن يساعد في خفض التكاليف. إذ يجب على الشركات أن تمنح الأولوية لمشاريع التحول "التي تمول ذاتها" وتعطي ثمارها بسرعة، كما تقول كاتي، مثل أتمتة المهام، أو تبني عملية اتخاذ القرارات بالاستناد إلى البيانات. السبب الثالث هو أن الاستثمارات في تكنولوجيا المعلومات تجعل الشركات أكثر رشاقة، وبالتالي أقدر على التعامل مع حالة عدم اليقين والتغير السريع المصاحبين للركود. تقول كاتيا: "بدأنا الآن أخيراً نرى تصاعداً في تبني العمليات المتقدمة في تحليل البيانات الرقمية"، في قطاع التصنيع. في الماضي، ربما كان المعتاد هو أن مصنعاً معيناً هو الأرخص في السوق أو بوسعه المحافظة على رشاقته في العمل - ولكن ليس الأمرين معاً. فالمرونة كانت تأتي بأثمان باهظة. بيد أن التكنولوجيات الرقمية "تزيد من حجم المرونة في التعامل مع التغيرات في المنتج، والتغيرات في الأحجام، إلخ، إضافة إلى المرونة في حركة سلاسل التوريد في أنحاء العالم".
اقرأ أيضاً: