السعادة لا تعني غياب المشاعر السلبية

7 دقائق

يشعر العديد منا أن السعادة هي كالسراب الذي لا يمكنهم اللحاق به. فهي أحياناً تشبه الضباب الذي تستطيع رؤيته من بعيد كثيفاً وممتلئاً. ولكن عندما تقترب منه، تجد بأن ذرّاته تختفي وتتسرب فجأة من بين يدك، رغم أنها تحيط بك من كل جانب.

نحاول نحن معشر البشر في حياتنا التركيز كثيراً على السعي وراء السعادة، ولكن إذا توقفت قليلاً وفكرت في الأمر، تكتشف أن السعي وراء الشيء يعني مطاردته دون وجود أي ضمانة باللحاق به أو الحصول عليه.

حتى ما قبل 6 سنوات مضت تقريباً، كنت أسعى دون جدوى إلى مطاردة السعادة. فقد كنت أعيش أنا وزوجي جيم في سان خوزيه في كاليفورنيا، مع ابننا البالغ من العمر سنتين، بينما كان ابننا الثاني لا يزال جنيناً في بطني. فعلى الورق، يمكن القول بأن حياتنا كانت وردية في كل جوانبها. ومع ذلك، لم أكن أجد نفسي في حالة من المتعة. ولطالما شعرت بالذنب بسبب حزني. والمحرج في الأمر هو أن مشاكلي كانت "من النوع الذي لا يصيب إلا المترفين في دول العالم المتقدمة".

ولكن فجأة في شهر سبتمبر/أيلول من العام 2009، انقلب عالمي رأساً على عقب. أصيب زوجي جيم بمرض خطير، حيث شخّص الأطباء وجود أنفلونزا الخنازير وفيروس غرب النيل لديه، ثمّ متلازمة "غيلان باريه" (GBS) وهي (التهاب الأعصاب الحاد المزيل للنخاعين)، بسبب ضعف جهاز مناعته.

لم يكن جيم يخشى الموت أبداً، لكنني أنا من كنت يخشى أن يصيبه مكروه.

عندما قيل لنا أن حالة جيم المرضية كانت في تحسّن، وبأنه بدأ يقهر المرض وينتصر عليه، شعرنا بشيء من الارتياح. وعندما أُخبِرَنا بأن جيم قد لا يتمكن من المشي إلا بعد فترة من الزمن، ربما لعام أو أكثر، شعرنا بالقلق. فقد علمنا بأن هذا التشخيص كان يعني نهاية حياة جيم المهنية كلاعب محترف للبيسبول. لكن الشيء الذي لم يكن لدينا جواب عليه هو كيف سنسدد الفواتير الطبية، أو مدى قدرة جيم على المساعدة في تربية الأطفال.

في ذلك الوقت، لم يكن قد تبقّى على ولادتي لطفلنا الثاني سوى 10 أسابيع. وبالتالي، لم يكن لدي متسع من الوقت للتفكيرفي الأمر وتدبّره. أما جيم، من جهته، فلم يكن يملك شيئاً سوى الوقت، حيث كان معتاداً في السابق على التحرك بسرعات عالية، سواء في الحياة أو في الملعب. لذلك مرت الدقائق التي قضاها في المستشفى عليه وكأنها ساعات طوال. لقد كانت تمارين المعالجة الفيزيائية والرياضية تملأ عليه وقته، لكنه كان بحاجة أيضاً إلى الدعم النفسي.

لقد كان جيم يضع المنشورات على صفحاته على شبكات التواصل الاجتماعي طالباً من أصدقائه أن يقترحوا عليه كتباً معينة ليقرأها بحيث يمكن أن تساعده في التعافي نفسياً. وتدفقت عليه الاقتراحات. كما وصلت إلى سريره حتى الكتب الورقية وأشرطة الكتب الصوتية المسجلة مرفقة ببطاقات تخبره "كم هي مفيدة" هذه الكتب، خاصة وأن الكثير ممن أرسلوها كانوا قد استفادوا منها في التغلب على المصاعب التي واجهوها في حياتهم.

كان جيم يقضي أيامه الطويلة في قراءة الكتب المحفّزة التي تشحذ المعنويات من تأليف توني روبينز أو أوبرا وينفري، أو مشاهدة الخطابات المُلهمة على الإنترنت "تيد توكس" (TED talks)، مثل خطاب جيل بولت تايلور حول تأثير سرطان الدماغ على حياته. كما كان يحلل الكتب التي ألفها أشخاص روحانيون مثل ديبكا تشوبرا والدالاي لاما. وكان يقضي الوقت أيضاً في مراجعة الأوراق البحثية العلمية حول السعادة والشعور بالامتنان من تأليف باحثين مثل مارتن سيليغمان، وشون آكور، وسونيا ليبومرسكي، وغيرهم الكثير.

من بين المواضيع التي تكرر ورودها في كل هذه الأدبيات "الامتنان"، والذي كان يظهر مراراً وتكراراً في الأوراق العلمية، والقصص الحقيقية، وفي العوامل المحفزة على النجاح. وقد تجاوب جيم مع هذا الأمر من خلال كتابة مذكراته التي يسجل فيها تحديداً شعوره بالامتنان تجاه الآخرين. فقد كان يعبر عن شكره للناس الذين كانوا يغيّرون شراشف سريره. كما كان ممتناً لعائلته التي كانت تحضر له وجبات الطعام اللذيذة الساخنة في المساء. وكان يعرب عن شكره وامتنانه للممرض الذي كان يشجعه، ولأعضاء فريق المعالجة الفيزيائية الذين كانوا يمنحونه وقتاً إضافياً من حياتهم الخاصة، فقد أخبروه ذات مرة بأنهم لم يكونوا ليقضوا معه وقتاً إضافياً، لولا أنهم كانوا يعلمون كم هو ممتن لهم على جهودهم المبذولة.

لقد طلب مني جيم أن أشاركه مساعيه هذه، وبما أنني كنت أتشوق إلى مساعدته على الشفاء من مرضه، وأرى مدى صعوبة الأمر بالنسبة له، فقد حاولت بكل ما أملك من قوة أن أكون إيجابية كلما دخلت إلى عالمه في قلب غرفته في المستشفى. لم أكن في أفضل حالاتي على الدوام. وفي بعض الأحيان كنت أمتعض من فكرة أنني لم أكن قادرة على الانهيار – لكن بعد مرور فترة من الزمن، بدأت أرى كيف كان يتعافى بسرعة. ورغم أن طريقتينا في التعامل مع الأمر لم تكونا متطابقتين، كنا ننجح في مساعينا. لقد كنت أتغير واقترب منه أكثر.

كان الأمر صادماً ومخيفاً، ولكن عندما خرج جيم من المستشفى على عكازين (حيث رفض وبكل عناد استعمال الكرسي المتحرك) بعد 6 أسابيع فقط من نقله على وجه السرعة إلى غرفة الطوارئ في سيارة إسعاف، قررنا أن شفاءه لم يكن مسألة حظ فقط وأن الأمر يحتاج إلى شيء أكثر من ذلك أيضاً.

واحد من الكتب التي أثّرت في جيم في مرحلة مبكرة من مرضه كان كتاب "الازدهار" (Flourish) من تأليف مارتن سيليغمان، عالم النفس والرئيس السابق للجمعية الأميركية لعلم النفس. لقد كان سيليغمان هو المسؤول عن إطلاق مفهوم "بيرما" (PERMA) باللغة الإنجليزية ونشره، حيث شكّل هذا المفهوم أساساً للعديد من المشاريع البحثية التي درست علم النفس الإيجابي في أنحاء العالم. وكان هذا التعبير باللغة الإنجليزية عبارة عن كلمة منحوتة من الأحرف الخمسة الأولى لخمسة عناصر أساسية كفيلة بضمان القناعة الدائمة لدى الإنسان:
(P) العواطف الإيجابية: السلام، والامتنان، والسعادة، والإلهام، والأمل، والفضول المعرفي والحب، كلها تندرج في فئة واحدة.
(E) التفاعل: الانغماس في مهمة أو مشروع يمنحنا إحساساً "بتلاشي الزمن"، لأننا نشعر بقدر هائل من التفاعل والانخراط يدفعنا إلى نسيان أنفسنا حتى.
(R) العلاقات: الناس الذين لديهم علاقات إيجابية وذات مغزى مع الآخرين، يُعتبرون أكثر سعادة ممن لا يمتلكون هذا النوع من العلاقات.
(M) المعنى أو المغزى: شعورنا بالمغزى في حياتنا يأتي من خدمة قضية أسمى منا، سواء كانت هذه القضية هي الدين الذين نؤمن به، أو قضية تساعد الإنسانية جمعاء بشكل من الأشكال، فنحن جميعاً بحاجة إلى وجود معنىً معيّن في حياتنا.
(A) الإنجاز: لكي نشعر برضا كبير في حياتنا، يجب أن نسعى إلى تحسين حياتنا بطريقة ما.

لقد اعتنقنا هذه العقائد الخمس في حياتنا ببطء وبالتدريج. فقد عاد جيم إلى جامعة "ويلفريد لوريير" لإجراء أبحاث في العلوم العصبية، كما أنشأنا موقعاً على الإنترنت (www.plasticitylabs.com) لنساعد من خلاله في تعليم الآخرين ما تعلمناه بخصوص السعي وراء السعادة. وبما أن حياتنا أنا وجيم باتت تشمل قدراً أكبر من التعاطف مع الآخرين، والامتنان، والمعنى، فقد تخلّيت عن الشعور بالحزن.

لذلك، عندما أرى في الآونة الأخيرة أناساً يوجهون سهام النقد والتشكيك نحو حركة علم النفس الإيجابي، فإنني أشعر وكأن النقد والتشكيك يطالانني شخصياً. وأتساءل: ما هي مشكلة هؤلاء النقاد مع الشعور بالامتنان؟ والعلاقات؟ والمغزى؟ والأمل؟

قد يكون جزء من المشكلة هو أننا نفرط في تبسيط السعادة في ثقافتنا الشعبية ووسائل إعلامنا، الأمر الذي يجعل من السهل على البعض التخلي عن الفكرة بوصفها غير واقعية. وقد عبّرت فانيسيا بوتي، التي تجري أبحاثاً في علم النفس الاجتماعي، عن الأمر بشكل جميل في رسالة إلكترونية أرسلتها لي حيث قالت:

"واحدة من التصورات الخاطئة الشائعة عن السعادة، هي أن السعادة تعني أن يكون المرء مبتهجاً وفرحاً وقانعاً طوال الوقت؛ وأن يرسم البسمة على وجهه على الدوام. لكن الأمر ليس كذلك. فسعادة المرء وعيشه حياة غنية يرتبطان بقبول هذا المرء للسراء والضراء في حياته، وتعلّم كيفية التعامل بطريقة إيجابية مع الأشياء السلبية في الحياة. ففي بحث حديث بعنوان "التنوع العاطفي والنظام العاطفي العام المحيط بنا"، وجد الباحث في جامعة "هارفارد" جوردي كويدباش، بأن إحساس الإنسان بمجموعة واسعة من العواطف – سواء الإيجابية أو السلبية – يقوده إلى وضع عقلي وجسدي إيجابي".

إذاً، نحن لا نميل إلى إساءة فهم معنى السعادة فحسب، بل إننا نميل أيضاً إلى السعي وراءها بطريقة خاطئة. وقد أخبرني شون آكور، الباحث والمدرب لدى الشركات الكبرى، الذي ألف مقالة بعنوان "الذكاء الإيجابي" نُشرت سابقاً في "هارفارد بزنس ريفيو"، بأن معظم الناس ينظرون إلى السعادة بطريقة خاطئة. "أكبر التصورات الخاطئة تجاه السعادة هي أن السعادة غاية وليست وسيلة. فنحن نعتقد بأننا إذا حصلنا على ما نريد، فإننا سنكون سعداء. لكن الذي تبين هو أن أدمغتنا تعمل فعلياً في الاتجاه المعاكس".

وتوافقه فانيسيا بوتي الرأي قائلة: "أحياناً نميل إلى اعتبار "حالة السعادة" الهدف النهائي، لكننا ننسى أن الجزء المهم فعلياً هو الرحلة التي تقودنا إلى هدفنا؛ أي العثور على الأشياء التي تجعلنا في أقصى درجات السعادة والانخراط في أنشطة دائمة، مما يساعدنا على عيش حياة تحقق لنا قدراً أكبر من الإنجازات".

بعبارة أخرى، نحن لا نكون سعداء عندما نطارد السعادة. بل نحن نكون في أسعد حالاتنا عندما لا نفكر فيها، وإنما عندما نعيش اللحظة الراهنة لأننا غارقون في مشروع أو نشاط ذي معنىً ومغزى بالنسبة لنا، أو عندما نعمل على تحقيق هدف أسمى، أو عندما نساعد شخصاً يحتاج إلينا.

الإيجابية الصحية لا تعني التستر على مشاعرك الحقيقية. والسعادة ليست غياب المعاناة؛ بل هي القدرة على الخروج من حالة المعاناة هذه عند حصولها. كما أن السعادة تختلف عن المتعة أو النشوة الغامرة؛ فالسعادة تشمل الرضا والقناعة، والسلامة، والمرونة العاطفية التي تسمح باختبار مجموعة كاملة من العواطف. ففي شركتنا، على سبيل المثال، واجه البعض منا حالات من القلق والاكتئاب وتعاملوا معها. وعانى البعض من حالات اضطراب ما بعد الصدمة. وبعضنا شهد أمراضاً نفسية حادة في عائلته، بينما لم يختبر البعض منا هذا الأمر. نحن نتشارك مشاعرنا وقصننا علناً. أو قد لا نفعل ذلك. والأمران مقبولان ولا بأس بهما. ولا مانع من البكاء في المكتب، إذا كان الوضع يستدعي ذرف الدموع (سواء دموع الحزن أو دموع الفرح).

أما اليوم، في محاولة للنظر إلى الأمر من زاوية جديدة، فقد ذهب البعض إلى القول حتى بأن السعادة مؤذية. فالهدف من ممارسة التمارين التي تساعد على تحسين اللياقة الذهنية والعاطفية لا يعني أن تتعلّم اصطناع الابتسامة على وجهك أو تتغاضى عن مشاكلك وتتخيل أنها لم تعد موجودة. وإنما الهدف منها هو أن تتعلم كيف تتصدى للعوامل المسببة للشدة والتوتر بقدر أكبر من المرونة، تماماً كما لو أنك لن تشارك في سباق للركض أو في الماراتون دون التدرب عليه مسبقاً.

خلال الوقت الذي قضيته أنا وجون في المستشفى، كنت أراقبه كيف كان يتغيّر. وقد أدركت ذلك في البداية بشكل ضبابي، ولكن بعد ذلك فجأة ودفعة واحدة، أن الامتنان والسعادة منحاني هدية عظيمة. لقد منحاني زوجي جيم. فإذا كانت السعادة مؤذية، فإنني أقول عندئذ، يا أهلاً وسهلاً بها.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي