كيف تكتشف الطبيعة القيادية في داخلك؟

18 دقيقة

أجرى الباحثون في القيادة أكثر من 1,000 بحث منذ 50 عاماً وحتى اليوم، في محاولة لتحديد أنماط محددة للقادة العظماء ومميزاتهم أو سماتهم الشخصية. ولكن، ولحسن الحظ، لم تنجح أي هذه الأبحاث في إيجاد صورة واضحة للقائد المثالي. فلو تمكن الباحثون من تحديد قالب معين لنمط القيادة لأمضى الموظفون أعمارهم يحاولون تقليده، محاولين اصطناع شخصيات بعيدة عن حقيقتهم، وسيكون بإمكان الآخرين اكتشاف زيفهم على الفور. 

لن يكون أي منا أصيلاً في محاولته تقليد شخص آخر. يمكنك التعلم من خبرات الآخرين لكن يستحيل نجاحك وأنت تحاول تقليد شخص آخر. وسيثق بك الآخرون عندما تمثل نفسك وحقيقتك بصدق، وليس عندما تجعل من نفسك نسخة عن شخص آخر. ونستشهد بكيفين شيرر، الرئيس التنفيذي لشركة أمجين (Amgen) ورئيسها، الذي كان يعمل كمساعد لجاك ويلش في ثمانينيات القرن الماضي واكتسب خبرة لا تقدر بثمن من عمله هذا. إذ لاحظ كيفين الجوانب السلبية لتمجيد الأشخاص في شركة جنرال إلكتريك في تلك الفترة، ويوضح ذلك بقوله: "كان الجميع يريدون أن يكونوا مثل جاك. ولكن القيادة تتمتع بالعديد من الأصوات، ويجب أن تكون على حقيقتك لا أن تحاول تقليد شخص آخر".

لقد تعمق شرخ الثقة بالقادة لدى الموظفين على مدى الأعوام الخمسة الماضية، وأصبحت حاجتنا إلى نوع جديد من قادة الشركات في القرن الحادي والعشرين أكثر وضوحاً. في عام 2003، كان كتاب بيل جورج "القيادة الأصيلة ’الطبيعة القيادية’: إعادة اكتشاف أسرار خلق قيمة تدوم" (Authentic Leadership: Rediscovering the Secrets to Creating Lasting Value) يتحدى الجيل الجديد ليمارس القيادة الأصيلة. فالقائد الأصيل يبدي شغفاً بهدفه ويطبق قيمه باستمرار ويقود بقلبه كما بعقله، ويؤسس علاقات عميقة على المدى الطويل مع الآخرين ويتمتع بالانضباط الذاتي الذي يعينه على تحقيق النتائج، وهو يعلم حق المعرفة من يكون. 

قال العديد ممن قرأوا كتاب "القيادة الأصيلة"، بما فيهم عدة رؤساء تنفيذيين، أنّ رغبة قوية تملّكتهم ليصبحوا قادة أصيلين وأرادوا معرفة السبيل لتحقيق ذلك. ولذلك، عمل فريقنا لإيجاد إجابة عن السؤال: "كيف يمكن للإنسان أن يصبح قائداً أصيلاً، وأن يبقى كذلك؟" فأجرينا مقابلات مع 125 قائداً من أجل معرفة كيف طوروا قدراتهم القيادية. وشكلت هذه المقابلات أكبر دراسة مستفيضة لتطوير القيادة على الإطلاق، إذ أجرينا من خلالها نقاشات مفتوحة وصريحة مع القادة عن كيفية تحقيقهم لطموحاتهم وتحدثوا بصراحة عن قصص حياتهم وصراعاتهم الشخصية وعثراتهم وانتصاراتهم. 

تراوحت أعمار القادة الذين أجرينا معهم المقابلات بين 23 و93 عاماً، وكل عقد يضم ما لا يقل عن 15 قائداً. وتم اختيارهم بناء على سمعتهم بالصدق والكفاءة كقادة، بالإضافة إلى معرفتنا الشخصية بهم، كما التمسنا أيضاً توصيات قادة وباحثين آخرين. ضمت المجموعة نساء ورجالاً من خلفيات اجتماعية اقتصادية وجنسيات مختلفة. وكان نصفهم رؤساء تنفيذيون والنصف الآخر يتألف من مجموعة من قادة شركات ربحية وشركات غير ربحية وقادة في منتصف مسيرتهم المهنية وقادة يافعين بدأت رحلتهم للتوّ. 

وبعد إجراء المقابلات مع هؤلاء القادة، نعتقد أننا استطعنا فهم سبب عجز أكثر من 1,000 بحث عن تحديد صورة القائد المثالي. وقد ذهل فريقنا بعد تحليل 3,000 صفحة من نصوص المقابلات عند اكتشاف عدم امتلاك هؤلاء القادة أي مميزات أو سمات أو مهارات أو أساليب عامة أدت إلى نجاحهم، وإنما كان نجاح كل منهم نتيجة لقصة حياته. فقد كانوا يختبرون أنفسهم باستمرار، إرادياً أو لا إرادياً، من خلال تجارب الحياة الواقعية ويضعون قصص حياتهم ضمن أطر تمكنهم من فهم حقيقتهم وجوهر شخصياتهم. وبذلك تمكنوا من اكتشاف هدفهم من القيادة وتعلموا أن تمسكهم بحقيقتهم جعلهم أكثر فعالية.

ذهل فريقنا بعد تحليل 3,000 صفحة من نصوص المقابلات عند اكتشاف إنه ليس بالضرورة أن تكون مميزات القائد وسماته المحددة موجودة لديك منذ الولادة، بل تنتج القيادة عن قصة حياتك. 

كانت هذه النتائج مشجعة للغاية، فليس بالضرورة أن تكون مميزات القائد وسماته موجودة لديك منذ الولادة، وليس عليك انتظار التشجيع من أحد، ولا يجب أن تكون على رأس مؤسستك، وإنما يمكنك اكتشاف قدراتك الآن. من بين القادة الذين أجرينا معهم مقابلات، كانت آن فادج، الرئيسة التنفيذية لشركة يونغ آند روبيكام (Young & Rubicam). ونذكر قولها: "إن شرارة القيادة موجودة داخل كل منا، سواء كنا في الأعمال أو الحكومة أو متطوعين في جهات غير ربحية. ويكمن التحدي في فهم أنفسنا بما يكفي لاكتشاف المكان الذي يمكننا استثمار مواهبنا القيادية فيه من أجل خدمة الآخرين".

إن اكتشاف إمكانات القيادة الأصيلة لديك يتطلب التزاماً بتطوير نفسك. ويجب أن تكرس نفسك لقضاء عمرك بأكمله في تحقيق قدراتك، تماماً كما يفعل الموسيقيون والرياضيون. لقد كان معظم القادة الجيدون الذين التقى بهم ديفيد ديلون، الرئيس التنفيذي لشركة كروغر (Kroger)، أشخاصاً عصاميين. قال ديلون: "أنصح الموظفين لدينا ألا ينتظروا من الشركة تقديم خطة التطوير لهم. بل عليهم أن يتحملوا مسؤولية تطوير أنفسهم".

من خلال ما هو قادم في المقال، استندنا على الدروس المستقاة من مقابلاتنا من أجل وصف كيف يصبح الإنسان قائداً أصيلاً. أولاً والأهم، يضع القائد قصة حياته ضمن إطار يسمح له برؤية نفسه كشخص يمكنه تنمية وعيه الذاتي من خلال خبراته، وليس من خلال النظر إلى حياته من منظور شخص آخر. ويعمل القائد الأصيل بناء على هذا الوعي الذاتي عن طريق تطبيق قيمه ومبادئه حتى إذا كان في ذلك مجازفة كبيرة بنفسه، وهو يحرص على موازنة دوافعه كي تكون منقادة بهذه القيم الداخلية بقدر انقيادها برغبتها في الحصول على المكافأة أو التقدير الخارجي. كما يحيط القائد الأصيل نفسه دائماً بفريق دعم قوي كي يضمن أن يحيا حياة متكاملة قائمة على قاعدة ثابتة. 

تعلم من قصة حياتك

تبدأ رحلتك نحو القيادة الأصيلة بفهم قصة حياتك، فهي تقدم السياق لخبرتك، ويمكنك من خلالها العثور على الإلهام من أجل ترك أثر في العالم. وكما قال الروائي جون بارث مرة: "قصة حياتك ليست هي حياتك، بل هي القصة التي ترويها أنت". أي أن روايتك أنت عن حياتك هي ما يهم، وليس الحقائق المجردة فيها. إن قصة حياتك هي فيلم مسجل مستمر يعرض باستمرار في ذهنك، حيث تعيد عرض الأحداث والمواقف الشخصية المهمة في حياتك مراراً وتكراراً، وتحاول فهمها من أجل العثور على مكانك في العالم. 

وفي حين تغطي قصة حياة القائد الأصيل مجموعة خبراته بأكملها، بما فيها التأثير الإيجابي للأبوين والمدربين الرياضيين والمعلمين والمرشدين، قال العديد من القادة أن دوافعهم أتت من التجارب الصعبة التي مروا بها في حياتهم. ووصفوا الآثار التحويلية لخسارة وظيفة أو المعاناة من المرض أو وفاة أحد الأصدقاء أو الأقرباء بصورة مفاجئة أو الشعور بالإقصاء أو المعاناة من التحيز أو صدّ الزملاء. وبدلاً من اعتبار نفسه ضحية بعد المرور بإحدى هذه التجارب، استعان القائد الأصيل هذه التجربة التكوينية من أجل إيجاد معنى لحياته، وأعاد صياغة هذه الأحداث كي يرتقي على التحديات ويكتشف شغفه في القيادة. 

فلنركز الآن على قائد بعينه، وهو دانيال فاسيلا رئيس شركة نوفارتس (Novartis) ورئيسها التنفيذي الذي كانت قصة حياته من أصعب القصص التي سمعناها في مقابلاتنا. فقد تمكن من تجاوز تحديات قصوى في طفولته والوصول إلى قمة الصناعات الدوائية العالمية، وهو مسار يوضح المحاولات العديدة التي يضطر الكثير من القادة القيام بها أثناء رحلاتهم نحو القيادة الأصيلة. 

ولد فاسيلا عام 1953 في عائلة متواضعة في فريبورغ، سويسرا. وكانت سنوات عمره الأولى مليئة بالمشاكل الصحية التي أذكت شغفه ليصبح طبيباً، وتتحدث أولى ذكرياته عن المستشفى التي أدخل إليها في عمر الرابعة بسبب إصابته بتسمم غذائي، ومن ثم أرسل وحده في الخامسة من عمره إلى جبال شرق سويسرا للعلاج من الربو صيفين متتاليين، حيث كان ابتعاده عن والديه لمدة أربعة أشهر متواصلة في غاية الصعوبة إذ كان الشخص الذي من المفترض أن يعتني به غير قادر على تلبية احتياجاته.

وفي عمر الثامنة، أصيب فاسيلا بالسل، تلاه التهاب السحايا، فأرسل إلى مصح لمدة عام عانى فيه كثيراً بسبب الوحدة والحنين إلى والديه اللذين لم يزوراه كثيراً. ولا زال يذكر الألم والخوف اللذان عانى منهما عندما كانت الممرضات تمسكنه لتثبيته كي لا يتحرك أثناء إجراء البزل القطني. وفي أحد الأيام، وصل طبيب جديد وأمضى بعض الوقت مع فاسيلا ليشرح له كل خطوة من خطوات البزل القطني، فطلب منه الطفل حينها أن تمسك الممرضة بيده بدلاً من تثبيته. يقول: "المذهل أن العملية لم تكن مؤلمة هذه المرة، وسألني الطبيب بعدها: ’كيف كانت العملية؟‘ فنهضت واحتضنته بقوة. لقد ترك هذا الطبيب بتعامله الإنساني وتسامحه واهتمامه وتعاطفه، أثراً عميقاً في نفسي وفي الشخص الذي أردت أن أكونه".

واستمرت الاضطرابات في طفولة فاسيلا. عندما كان في العاشرة، توفيت أخته ذات 18 ربيعاً بعد معاناة من السرطان دامت عامين، وبعدها بثلاثة أعوام توفي والده أثناء عملية جراحية، فبدأت أمه بالعمل في بلدة بعيدة من أجل إعالة الأسرة، وكانت تعود إليهم مرة كل ثلاثة أسابيع. وبما أنه كان وحيداً كان يقيم مع أصدقائه الحفلات وكانت تتحول دائماً إلى شجارات، واستمر على هذه الحال ثلاثة أعوام إلى أن التقى بحبيبته الأولى التي غيرت بعاطفتها حياته. 

وعندما كان في العشرين من عمره، دخل فاسيلا كلية الطب وتخرج منها لاحقاً بمرتبة الشرف. وسعى أثناء دراسته الجامعية للخضوع للمعالجة النفسية كي يتمكن من تجاوز تجاربه الأولى ويتخلص من شعوره كضحية. فمكنه علاجه من إعادة صياغة قصة حياته وإدراك رغبته بمساعدة أكبر عدد ممكن من الناس بصفته طبيب. وعندما أنهى برنامج تدريبه تقدم لمنصب رئيس الأطباء المقيمين في جامعة زيوريخ، إلا أن لجنة البحث وجدت أنه أصغر من أن يستلم هذا المنصب. 

أصيب فاسيلا بخيبة أمل على الرغم من أنه لم يتفاجأ بهذا الرفض، فقرر استخدام قدراته من أجل زيادة أثره في الطب. وفي ذاك الوقت كان لديه ولع متنام بقطاع المال والأعمال. فتحدث مع رئيس قسم الصناعات الدوائية في شركة ساندوز (Sandoz) والذي بدوره قدم له فرصة الانضمام إلى فرع الشركة في الولايات المتحدة، حيث قضى 5 أعوام وازدهر ضمن بيئتها المشجعة كمندوب مبيعات بداية ثم كمدير المنتجات، وتقدم بسرعة في قسم شركة ساندوز للتسويق. 

وفي عام 1996، اندمجت شركة ساندوز مع شركة سيبا غايغي (Ciba-Geigy) ونشأت شركة نوفارتس. وتسلم فاسيلا منصب الرئيس التنفيذي للشركة الجديدة على الرغم من صغر سنه وخبرته المحدودة، فازدهر كقائد فور بدء عمله في منصبه الجديد. وأخذ يتصور الفرصة المتاحة له لبناء شركة رعاية صحية عالمية عظيمة يمكنها مساعدة الناس بواسطة عقاقير جديدة تنقذ أرواحهم، مثل عقار غليفيك (Gleevec) الذي أثبت فعاليته الكبيرة في علاج مرضى سرطان الدم النخاعي المزمن. وبناء على نماذج الأطباء الذين أثروا عليه في حياته بنى ثقافة جديدة كلياً في شركة نوفارتس تتمحور حول التعاطف والكفاءة والتنافس. وأسس بذلك شركة نوفارتس العملاقة في القطاع وبنى نفسه كقائد متعاطف. 

تعتبر تجربة فاسيلا واحدة من بين عشرات التجارب التي أخبرنا بها القادة الأصيلون الذين استوحوا الإلهام من قصص حياتهم مباشرة. وعندما سألناهم عن مصدر قوتهم في القيادة كانت إجابتهم دائماً أنهم استمدوها من تجارب مروا بها وغيرت مجرى حياتهم. فهذه التجارب هي التي مكّنتهم من فهم هدف قيادتهم الحقيقي. 

اعرف حقيقة نفسك

عندما طلب من أعضاء المجلس الاستشاري لجامعة ستانفورد للأعمال، البالغ عددهم 75 عضواً، تقديم نصيحة بشأن أهم قدرة يجب على القادة تنميتها، كاد يكون هناك إجماع على إجابة واحدة، ألا وهي الوعي الذاتي. ولكنّ العديد من القادة، وبالأخص الذين لا يزالون في بداية مسيرتهم، يحاولون بجد تأسيس أنفسهم في العالم حتى أصبحوا لا يملكون الوقت الكافي لاستكشاف أنفسهم. كما يسعون جاهدين لتحقيق نجاح ملموس كي يتمكنوا من إثبات أنفسهم للعالم الخارجي والحصول على المال أو الشهرة أو المركز أو رفع أسعار الأسهم. وغالباً ما يكون دافع القائد الشاب سبباً لنجاحه مهنياً لفترة قصيرة، ولكن هذا النجاح لن يستمر. ومع تقدمه بالعمر، قد يجد نقصاً في حياته، ويدرك أنه لا يستطيع أن يكون الشخص الذي أراد. وتتطلب معرفة المرء لحقيقة نفسه الشجاعة والصدق لمواجهة تجاربه بصراحة والتمعن فيها. 

وعندما يقوم بذلك سيصبح أكثر إنسانية وسيكون مستعداً للاعتراف بضعفه الإنساني. 

عندما طلب من أعضاء المجلس الاستشاري لجامعة ستانفورد للأعمال، البالغ عددهم 75 عضواً، تقديم نصيحة بشأن أهم قدرة يجب على القادة تنميتها، كاد يكون هناك إجماع على إجابة واحدة، ألا وهي الوعي الذاتي.

كان ديفيد بولتراك من بين القادة الذين قابلناهم، وهو الرئيس التنفيذي الأسبق لشركة تشارلز شواب (Charles Schwab)، وخاض رحلة صعبة لاستكشاف الذات. فقد كان لاعب كرة قدم في المرحلة الثانوية من دراسته، وأصبح أفضل لاعب في فريق كليته في جامعة بنسلفانيا. وبعد حصوله على شهادة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة وارتون وفترة تدريب لدى مجموعة سيتي غروب، انضم إلى تشارلز شواب كرئيس قسم التسويق وانتقل من نيويورك إلى سان فرانسيسكو. كان بوتريك دؤوباً في عمله للغاية، ولم يتمكن من فهم سبب استياء زملائه الجدد من الساعات الطويلة التي كان يقضيها في العمل وإصراره الشديد على تحقيق النتائج. يقول: "كنت أعتقد أن إنجازاتي ستتحدث عن نفسها، ولم يخطر لي إطلاقاً أن مستوى طاقتي في العمل سيرعب الموظفين الآخرين ويسيء إليهم، لأني كنت أرى أني أسعى لمساعدة الشركة".

أصيب بوتراك بصدمة عندما قال له مديره أن زملاءه لا يثقون به، ويتذكر قائلاً: "أصابني هذا التقييم كخنجر في قلبي، ووقعت في حالة نكران لأني لم أستطع رؤية نفسي كما رآني الآخرون. فأصبحت أجذب الخلافات كالمغناطيس ولم أدرك أني كنت أبدو أنانياً للغاية في أعين الآخرين. ولكن كان هناك صوت عميق في داخلي يقول أنّ ذاك التقييم صحيح". وأدرك بوتراك أنه لن يتمكن من النجاح ما لم يتعرف على النقاط العمياء لديه ويتغلب عليها. 

يمكن أن يكون النكران أكبر عقبة يواجهها القادة في رحلتهم نحو الوعي الذاتي. 

يمكن أن يكون النكران أكبر عقبة يواجهها القادة في رحلتهم نحو الوعي الذاتي. فجميعهم يحتاجون إلى دغدغة غرورهم وتبديد شكوكهم وطمأنة مخاوفهم. ويدرك القائد الأصيل أنه بحاجة لسماع الآراء والتقييمات، وبالأخص التي لا يرغب بسماعها. لم يتمكن بوتراك من الاعتراف بوجود نقاط عمياء كبيرة لديه إلا بعد طلاقه الثاني، يقول: "بعد انهيار زواجي الثاني، ظننت أني أعاني من مشكلة في اختيار الزوجة". ثم عمل مع مستشار صدمه ببعض الحقائق المرة، حيث قال له: "الخبر الجيد هو أنك لا تعاني من مشكلة في اختيار الزوجة، ولكن الخبر السيئ هو أنك تعاني من مشكلة في سلوكك كزوج". فعمل بوتراك بعد ذلك بإصرار على تغيير نفسه، ويصف لنا ذلك بقوله: "كنت كمن أصيب بثلاث سكتات قلبية قبل أن يدرك أن عليه الإقلاع عن التدخين وتخفيف وزنه".

واليوم، يعيش بوتراك زواجاً سعيداً ويصغي لآراء زوجته البناءة بإمعان. وهو يقرّ أنه يعود لعاداته القديمة أحياناً وبالأخص عندما يتعرض لضغط كبير، ولكنه أصبح يتبع طرقاً جديدة للتعامل مع الضغط. يقول: "لقد حظيت في حياتي بنجاح كاف لتمكين احترامي لذاتي، ولذلك أستطيع قبول الانتقاد دون أن أنكره. لقد تعلمت أخيراً تحمل عثراتي وخيباتي والتسامح معها دون أن أجلد ذاتي لأجلها". 

طبق قيمك ومبادئك

نستمد قيمنا التي تشكل قاعدة القيادة الأصيلة من معتقداتنا وقناعاتنا، ولكننا لن نعرف قيمنا الحقيقية إلا عندما نختبرها تحت الضغط. إنه لمن السهل نسبياً أن تتحدث عن قيمك وتعيش وفقاً لها عندما تكون أمورك تسير على خير ما يرام. ولكن عندما يكون نجاحك ومسيرتك المهنية أو حتى حياتك بأكملها على المحك، ستتعرف حينها على ما يهمك أكثر وما أنت مستعد للتضحية به والمقايضات التي سترضى بها. 

ومبادئ القيادة هي قيم تترجم إلى أفعال. وسيمكنك امتلاك قاعدة متينة من القيم واختبارها تحت الضغط من وضع المبادئ التي ستتبعها في القيادة. خذ مثلاً قيمة "الاهتمام بالآخرين"، يمكن ترجمتها إلى مبدأ قيادي مثل "أنشئ بيئة عمل يحظى الموظفون فيها بالاحترام على مساهماتهم ويشعرون بالأمان الوظيفي ويتاح لهم تحقيق إمكاناتهم".

خذ مثلاً جون هانتسمان الابن مؤسس شركة هانتسمان (Huntsman) ورئيسها. فقد واجه تحدياً شديداً لقيمه الأخلاقية أثناء عمله في إدارة الرئيس نيكسون عام 1972، قبيل فضيحة ووترغيت. فبعد عمله لفترة وجيزة في وزارة الصحة والخدمات البشرية الأميركية، تسلم وظيفة تحت إدارة هاري هولدمان، رئيس موظفي البيت الأبيض في عهد نيكسون والذي كان يتمتع بقوة ونفوذ كبيرين. 

يقول هانتسمان: "كانت تجربة تلقي الأوامر من هالدمان مختلطة جداً. فأنا لم أعتد تلقي الأوامر بغض النظر عما إذا كانت محقة أخلاقياً أو معنوياً أم لا. ونشبت بيننا عدة خلافات لأن الكثير من الأمور التي أراد هالدمان تنفيذها كانت مشبوهة. وكان هناك جو غير أخلاقي يسود البيت الأبيض". 

وفي أحد الأيام، أعطى هالدمان توجيهات لهانتسمان بمساعدته في الإيقاع بعضو في الكونغرس من ولاية كاليفورنيا كان معارضاً لإحدى مبادرات البيت الأبيض، وكان هذا العضو مالكاً لمعمل قيلإأنه يوظف عمالاً غير مسجلين بصورة نظامية. فطلب هالدمان من هانتسمان أن يدفع مدير معمل تابع لإحدى شركات الأخير لدسّ عناصر يؤدون مهمة سرية كعمال غير مسجلين قانونياً في معمل عضو الكونغرس من أجل جمع معلومات تسبب له الإحراج. 

يقول هانتسمان: "هناك أوقات تتصرف فيها بسرعة دون تفكير ودون أن تدرك الخطأ من الصواب على الفور. وأنا لم أفكر كثيراً بتلك العملية، بل عرفت بصورة غريزية أنها كانت أمراً خاطئاً، ولكن استغرقت الفكرة بضع دقائق كي تتغلغل في ذهني. وبعد 15 دقيقة تحركت بوصلتي الأخلاقية الداخلية وجعلتني أدرك أنه من الخطأ تنفيذ هذه العملية، وبدأت القيم التي رافقتني منذ الطفولة تتدخل. وفي منتصف محادثتي مع مدير المعمل التابع لشركتي قلت له: ’دعنا من هذا الأمر. لا أريد الدخول في هذه اللعبة، انس أني اتصلت بك‘". 

أخبر هانتسمان مديره هالدمان أنه لا يريد استغلال موظفيه على هذا النحو، يقول: "وها أنا أقول ’لا‘ لثاني أقوى رجل في البلاد، وهو لا يحب هذه الكلمة وكان يعتبرها علامة على الخيانة. كنت أعلم أني برفضي هذا أجازف بخسارة وظيفتي، ولكني لم أكترث، وغادرت الوظيفة فعلاً بعد 6 أشهر". 

وازن بين دوافعك الذاتية والخارجية

من الضروري أن يدرك القائد الأصيل دوافعه التي تحركه كي يتمكن من الحفاظ على مستوى عال من التحفيز والإبقاء على توازن حياته. وهناك نوعين من الدوافع، ذاتية وخارجية. ويقيس قادة كثر نجاحهم بحسب معايير العالم الخارجي التي تدفعهم لتحقيق النجاح على الرغم من ترددهم في الاعتراف بذلك. فهم يستمتعون بالتقدير والمركز الاجتماعي اللذين يترافقان مع الترقيات والمكافآت المالية. وفي المقابل، تنشأ الدوافع الذاتية لدى القائد من معنى حياته، وهي وثيقة الارتباط بقصة حياته والطريقة التي يصيغها بها. وتشمل الأمثلة على الدوافع الذاتية النمو الشخصي ومساعدة الآخرين على التطور والدفاع عن القضايا الاجتماعية وترك أثر في العالم. والأهمّ هو إيجاد التوازن بين رغبتك بالتقدير الخارجي والدوافع الذاتية التي تشعرك بالرضا في عملك. 

نصح العديد من القادة الذين قابلناهم القادة الطموحين بالحذر من الوقوع في فخ التوقعات الاجتماعية أو توقعات الزملاء أو الوالدين. خذ مثلاً ديبرا دن التي عملت كمديرة في شركة هيوليت-باكارد (آتش بي) (HP - Hewlett-Packard) في وادي السيليكون لسنوات. فهي تقرّ بالضغوط الدائمة التي تتسبب بها الموارد الخارجية قائلة: "إن طريق تكديس الممتلكات المادية واضح وتعلم كيف تقوم بقياسه، وإن لم تتبعه سينظر لك الآخرون على أنك تعاني من مشكلة ما. والوسيلة الوحيدة لتفادي الوقوع في الفخ المادي هي معرفة المكان الذي ستجد فيه السعادة والرضا". 

ليس من السهل دوماً الابتعاد عن التقدير الخارجي للإنجازات الشخصية. والقائد الذي تدفعه إنجازاته يكون شديد الاعتياد على الإنجازات المتتالية في سنواته الأولى لدرجة تصعب عليه اتباع دوافعه الذاتية. ولكن هناك مرحلة يدرك عندها معظم القادة أنه يجب عليهم معالجة مسائل أصعب من أجل تحقيق نجاح ذو معنى حقيقي. خذ مثلاً أليس وودوورك المديرة في شركة ماكنزي، التي حققت نجاحاً كبيراً قبل بلوغ 29 من عمرها. تقول: "وجدت أن تفسيري للنجاح كان ساذجاً للغاية، إذ استقيته من الأشياء التي تعلمتها في مرحلة مبكرة من حياتي عن الحصول على الثناء والتقدير. ولكن إذا كنت تجري في الميدان تطارد أرنباً لن يكون سعيك هذا موجهاً نحو أي هدف قيّم". 

تتماشى دوافعك الذاتية مع قيمك، وهي مرضية أكثر من الدوافع الخارجية. يقول جون ثين، الرئيس التنفيذي لشركة "بورصة نيويورك للأوراق المالية" (New York Stock Exchange): "دافعي هو إجادة العمل الذي أقوم به مهما كان، ولكني أفضل أن أضاعف الأثر الذي أحققه على المجتمع من خلال مجموعة أشخاص". أو كما قالت آن مور، رئيسة مجلة التايم ورئيستها التنفيذية: "بدأت عملي هنا منذ 25 عاماً لسبب واحد فقط وهو أنني أحببت المجلات وعالم المنشورات". تلقت مور عشرات عروض الأعمال بعد تخرجها من جامعة الأعمال ولكنها قبلت بالعمل الأقل أجراً في ذاك الوقت بسبب شغفها بالنشر. 

ابن فريق الدعم الخاص بك

لا يمكن للقائد النجاح بمفرده، وحتى الذي يُظهر للعالم ثقة قصوى بنفسه يحتاج الدعم والنصيحة، وسينحرف بسهولة عن مساره من دون علاقات متينة تمده بوجهات نظر مختلفة.

يبني القائد الأصيل فريق دعم استثنائي لمساعدته على البقاء ضمن مساره المحدد. ويقدم له هذا الفريق المشورة عندما يسكنه الشك، ويساعده في الأوقات الصعبة ويحتفل معه عندما يحقق نجاحاً. وبعد مرور القائد بأيام عصيبة يجد الراحة في وجوده مع أشخاص يستطيع الاعتماد عليهم ومصارحتهم وإبداء ضعفه وحساسيته أمامهم. وإذا كبا يوماً سيعتزّ بأصدقائه الذين يثمنونه لشخصه لا لمنصبه. كما يجد القائد الأصيل أن فريق دعمه يمده بالثقة والنصيحة ووجهات النظر ويحذره إذا ما أخطأ في مساره يوماً ويعينه على تصحيحه إن لزم الأمر. 

كيف تبني فريق الدعم الخاص بك؟ يبني القائد الأصيل عادة فريق دعم متعدد الجوانب يشمل شريك الحياة أو شخص يتمتع بالأهمية في حياته، وعائلته ومرشده وأصدقائه وزملائه. ويبني شبكته مع مرور الزمن في حين تبني خبراته وقصصه الذي يشاركها مع الأشخاص المقربين إليه وصراحته معهم الثقة والطمأنينة التي يحتاجها في الأوقات العصيبة وحين يتملكه الشك. ويجب أن يقدم القائد لفريق الدعم على قدر ما يأخذ منه كي يتمكنوا معاً من تطوير هذه العلاقات المفيدة المتبادلة بينهم. 

ويبدأ بناء الفريق بشخص واحد في حياتك على الأقل، بإمكانك أن تكون على سجيتك معه ويقبلك على ما أنت عليه تماماً وبكل عيوبك. وغالباً ما يكون هذا الشخص هو الوحيد الذي بإمكانه إخبارك بالحقيقة الصادقة، وغالباً ما يكون هو شريك الحياة، إلا أن هناك قادة يبنون هذه العلاقة مع أحد أفراد العائلة أو صديق مقرب أو مرشد موثوق. وعندما يمكن للقائد الأصيل الاعتماد على دعم غير مشروط تزداد قدرته على تقبل نفسه على حقيقتها. 

إن النتائج المتفوقة على مدى فترة زمنية متواصلة هي العلامة الأهم للقائد الأصيل. 

تنمو علاقات كثير مع مرور الزمن من خلال التعبير عن القيم المشتركة والهدف المشترك. خذ راندي كوميسار على سبيل المثال، الذي يعمل في شركة رأس المال المساهم كلاينر بيركنز كوفيلد آند بايرز (Kleiner Perkins Caufield & Byers). فقد قال أنّ زواجه من ديبرا دن التي تعمل في شركة إتش بي مستمر لأنه تأسس على قيم متشابهة، ويشرح ذلك بقوله: "أنا وديبرا مستقلين عن بعضنا ولكننا منسجمين للغاية من ناحية طموحاتنا الشخصية وقيمنا ومبادئنا. فنحن متفقين جداً على أسئلة مثل: ’ماهو إرثك في هذا العالم؟‘ من الضروري أن نكون متوافقين بشأن ما يفعله كل منا في حياته".

كما حظي العديد من القادة بمرشد غيّر حياتهم. إذ تطلق أفضل المواقف الإرشادية شرارة التعلم المشترك واستكشاف القيم المتشابهة والمتعة المشتركة. وإن كان الموظف لا يأمل من مرشده سوى المعونة من أجل التقدم دون الاهتمام بحياة هذا المرشد لن تدوم علاقته به طويلاً، لأن التواصل المتبادل بين طرفي العلاقة هو ما يجعلها تدوم. 

ويمكن أن تأخذ مجموعة الدعم الشخصي والمهني أشكالاً عدة. كمجموعة "مدمني الأدوية المهدئة المجهولين" التي يشارك فيها تاد بايبر، من شركة جافراي (Jaffray)، ويقول عنها: "ليست مجموعة رؤساء تنفيذيين، بل هي مجموعة من الأشخاص اللطفاء المجدين الذين يحاولون الإقلاع عن الأدوية المهدئة والتمتع بحياة جيدة والعمل مع بعضهم البعض ليتمكنوا من التعامل بصراحة وصدق وحساسية. ونحن نعزز سلوك كل فرد من المجموعة عن طريق التحدث عن إدماننا بطرق منظمة ضمن 12 مرحلة نتجاوزها معاً. وأنا أشعر أن وجودي بين أشخاص يفكرون بهذه الأمور ويقومون بشيء حيالها ولا يكتفون بالكلام فحسب هو نعمة كبيرة".

وتشابه تجربة بيل جورج تجربة بايبر، ففي عام 1974 انضم إلى مجموعة رجال تم تشكيلها بعد قضاء عطلة أحد الأسابيع في عزلة. واليوم، بعد مرور أكثر من 30 عاماً، لا زال أفراد المجموعة الثمانية يلتقون في صباح كل أربعاء، يبدؤونه بحوار صريح ويتحدث كل واحد منهم عن المستجدات في حياته ويعالجون أي مشكلة تواجه أياً منهم، ثم يبدأ أحدهم نقاشاً حول موضوع من اختياره. وتكون هذه النقاشات مفتوحة واستكشافية وعميقة في أغلب الأوقات، ويكمن سر نجاحها في أنهم يعبرون عن قناعاتهم دون خوف من حكم الآخرين ولا انتقاداتهم ولا انتقامهم. كما أنّ هذه المجموعة هي أحد أهم جوانب حياة كل فرد من أفرادها، فهي تمكنهم من توضيح معتقداتهم وفهمهم للمواضيع الحيوية بالإضافة إلى أنها تشكل مصدراً للرأي والتقييم الصادق عندما يكونون بأمس الحاجة إليه.

اجعل حياتك متكاملة من خلال إيجاد قاعدة ثابتة تستند عليها 

إن إحدى أصعب التحديات التي يواجهها القائد هي بناء حياة متكاملة. ومن أجل التمتع بحياة متوازنة يجب عليك جمع كافة عناصرها معاً، العمل والعائلة والمجتمع والأصدقاء، كي تبقى الشخص ذاته في أي بيئة تتواجد فيها. فكر بحياتك على أنها منزل مؤلف من غرفة نوم لأجل حياتك الخاصة، وغرفة مكتب لأجل حياتك المهنية، وغرفة العائلة لأجل عائلتك، وغرفة المعيشة التي تشاركها مع أصدقائك. هل يمكنك هدم الجدران بين هذه الغرف وأن تكون الشخص ذاته فيها جميعها؟ 

فكر بحياتك على أنها منزل. هل يمكنك هدم الجدران بين هذه الغرف وأن تكون الشخص ذاته فيها جميعها؟ 

نوه جون دوناهو، رئيس قسم الأسواق في شركة إيباي (EBay) والمدير الإداري العالمي الأسبق في شركة باين (Bain)، مشدداً أن الأصالة تعني الحفاظ على معنى الذات أينما كنت. وقال محذراً: "يمكن للعالم أن يشكلك إذا سمحت له. وكي تحافظ على معنى ذاتك طوال حياتك يجب أن تتخذ قرارات واعية، ويمكن أن تكون القرارات في غاية الصعوبة ويمكن أن ترتكب الكثير من الأخطاء". 

يتمتع القائد الأصيل بحضور ثابت وواثق، ولا تتغير شخصيته يوماً. ويتطلب هذا الثبات الانضباط، وبالأخص في حال التعرض للضغوطات عندما يكون من السهل على الإنسان التصرف وفق ردود الأفعال والانجراف نحو العادات السيئة. يتملّك دوناهو شعور قوي بأن إدراك التكامل في حياته هو ما جعل منه قائداً كفؤاً. يقول: "ليست هناك نهاية سعيدة، وإنما يستمر هذا الصراع لأن المقايضات لا تصبح أسهل مع تقدمك في العمر". ولكن بالنسبة للقائد الأصيل، ليست هناك لعبة ربح أو خسارة بين الحياة الشخصية والحياة المهنية، وكما قال دوناهو: "ليس لدي أي شك اليوم أن أولادي جعلوا مني قائداً أفضل بكثير في العمل. لقد كان لحياتي الشخصية القوية الأثر الأكبر". 

إن القيادة عمل شديد الضغط، وليست هناك أي طريقة لتفادي الضغط عندما تكون مسؤولاً عن موظفين ومؤسسات ونتائج والتعامل مع الشك في البيئة المحيطة بك. وكلما ارتفعت ازدادت حريتك في التحكم بمصيرك، ولكن تزداد درجة الضغط الذي تعاني منه كذلك. ليست المشكلة في قدرتك على تفادي الضغط، بل في كيفية تحكمك به من أجل الحفاظ على توازنك الذاتي. 

يدرك القائد الأصيل على الدوام أهمية استناده على قاعدة ثابتة، ويحرص على ممارسة التمارين الرياضية والاشتراك في أنشطة روحية وخدمة المجتمع ويعود للأماكن التي نشأ وترعرع فيها بالإضافة إلى قضاء الوقت مع عائلته وأصدقائه المقربين. فجميع هذه الأمور جوهرية لكفاءته كقائد وهي تمكّنه من الحفاظ على أصالته. 

شجع الآخرين ليصبحوا قادة

والآن وقد ناقشنا عملية اكتشاف القيادة الأصيلة داخلك، فلنر كيف يشجع القائد الأصيل الموظفين في مؤسسته ليحققوا نتائج متفوقة على المدى الطويل، وهي الأساس الذي تقوم عليه القيادة. 

يدرك القائد الأصيل أن القيادة لا تتعلق بنجاحه فحسب، ولا هي متعلقة بالحصول على مرؤوسين مخلصين يتبعونه. ويدرك أن السر في نجاح المؤسسة يكمن في تعزيز القادة على جميع المستويات، وذلك يشمل من لا يديرون مرؤوسين مباشرين. فالقائد الأصيل يمد من حوله بالإلهام ويشجعهم كي يتميزوا ويصبحوا قادة هم أيضاً.

اشتهرت رئيسة شركة زيروكس (Xerox) ورئيستها التنفيذية آن مولكاهي بقدرتها الكبيرة على بناء العلاقات وتعزيز الموظفين، وهو ما كان له دور رئيسي في تحقيق تحول مذهل في الشركة. فعندما طُلب من مولكيهي استلام زمام الأمور في الشركة بعد إخفاق سلفها، كانت ديون الشركة تبلغ 18 مليار دولار وجميع خطوط ائتمانها مستنفذة، ومع تراجع سعر سهم الشركة تراجعاً كبيراً كان الجميع محبطون بشدة. وازدادت الأمور سوءاً عندما بدأت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية بالتحقيق في ممارسات إثبات الإيرادات في الشركة.

كان تعيين مولكيهي مفاجئاً لها وللجميع، فهي لم تملك أي خبرة في الشؤون المالية على الرغم من كونها واحدة من قدامى موظفي الشركة. فقد عملت فيها 25 عاماً في المبيعات الميدانية وفي وظائف مختلفة ضمن الشركة أيضاً، إلا أنها لم تعمل في وظائف قسم الشؤون المالية أو البحث والتطوير أو التصنيع. إذن، كيف تمكنت من التغلب على الأزمة على الرغم من افتقادها الخبرة في الشؤون المالية؟ لقد استلمت منصبها الجديد كرئيسة تنفيذية مع كل ما تتمتع به من علاقات بنتها على مدى 25 عاماً وفهم عميق للمؤسسة، والأهم هي المصداقية التي اكتسبتها كقائدة أصيلة. كما أن الجميع كان يعلم أنها ضحت بالكثير لأجل الشركة، ولذلك، كانوا جميعهم عازمين على بذل قصارى جهودهم لأجلها. 

بعد تعيين مولكيهي، أجرت لقاءات شخصية مع أهم 100 مدير في الشركة كي تسألهم عن رغبتهم في البقاء في الشركة على الرغم من الصعوبات التي تواجهها. تقول مولكيهي: "لقد عرفت أن هناك موظفين لا يدعمونني، لذلك واجهت اثنين منهم وقلت لهما أن الأمر متعلق بالشركة". قرر أول مديرين تحدثت مولكيهي إليهما مغادرة الشركة، وكانا يديران وحدات تشغيلية كبيرة، في حين تعهد بقية المدراء بالبقاء في الشركة، وكان عددهم 98.

وفي أثناء الأزمة كانت مولكيهي تشجع الموظفين على النهوض والقيادة كي تستعيد الشركة مجدها القديم. وفي نهاية الأمر، استطاعت بقيادتها إنقاذ الشركة من الإفلاس عندما دفعت 10 مليارات دولار من ديونها واستعادت نمو العائدات والفوائد عن طريق مزيج من توفير التكاليف وابتكار منتجات جديدة. وأدى ذلك إلى ارتفاع سعر سهم الشركة إلى ثلاثة أضعاف.

يجب على القادة جميعهم تحقيق نتائج في الدخل الصافي مثل مولكيهي تماماً. ويمكن للقائد الأصيل الحفاظ على هذه النتائج في الأزمات كما في فترات الرخاء عن طريق إنشاء حلقة فعالة قوية تعزز نتائجها كفاءة قيادته. إذ يمكنه نجاحه من جذب الموظفين الموهوبين وجعل نشاطات الموظفين متوافقة مع الأهداف المشتركة، وفي ذات الوقت يقوم بتشجيع الآخرين في فريقه ليمارسوا القيادة من خلال مواجهة تحديات أكبر. وفي الحقيقة، تعتبر النتائج المتفوقة على مدى فترة زمنية مستمرة أهم علامة للقائد الأصيل. قد يبدو ممكناً للقائد تحقيق نتائج على المدى القصير حتى إذا لم يكن أصيلاً، ولكن القيادة الأصيلة هي الطريقة الوحيدة التي نعرفها لتحقيق نتائج مستمرة على المدى الطويل. 

هناك مكافآت خاصة بالقائد الأصيل، ولا يتساوى أي إنجاز فردي مع السعادة الناشئة عن قيادة مجموعة موظفين من أجل تحقيق هدف سامٍ. وعندما تجتاز خط النهاية معهم يتلاشى كل ما مررت به من ألم ومعاناة بسرعة، ويحل محله شعور عميق بالرضى عن نفسك لأنك شجعت الآخرين وجعلت العالم بذلك مكاناً أفضل. وهذا هو تحدي القيادة الأصيلة وإنجازها. 

هذا المقال مقتبس بتصرف من كتاب "الشمال الحقيقي: اكتشف القيادة الأصيلة داخلك" (True North: Discover Your Authentic Leadership) لمؤلفيه بيل جورج بالاشتراك مع بيتر سيمز (منشورات جوسي باس، مارس/آذار عام 2007).

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي