في عصرنا الحديث هذا الذي يتصف بانشغال الجميع قد لا يكون من السهل على أي مدير أن يختلي بنفسه في مكتبه. لكن المفكرين المبدعين يشتركون عموماً بخصلة أساسية، وهي الحاجة إلى العزلة مع النفس، وعادة ما يمارسون الابتعاد عن مشوشات الحياة اليومية لمنح أذهانهم بعض الوقت للتدبر والتأمل وربط الأمور ببعضها بطريقة جديدة والعثور على المعنى.
لقد عبّر الكثير من المفكرين والقادة العظام طوال التاريخ –من فيرجينيا وولف إلى مارسيل بروست إلى الشريك المؤسس لشركة "آبل" ستيف ووزنياك– عن مدى أهمية وجود غرفة رمزية في حياة الإنسان. لكن ثقافتنا هذه الأيام تفرط في التأكيد على أهمية التفاعل الاجتماعي الدائم، ويعود ذلك الأمر جزئياً إلى وجود وسائل التواصل الاجتماعي. كما نميل إلى الاعتقاد بأن الوقت الذي نقضيه مع أنفسنا هو وقت مهدور أو هو بمثابة إشارة إلى حالة من العداء الاجتماعي للآخرين أو وجود حالة من الكآبة والحزن. ولكن عوضاً عن ذلك، يجب أن ننظر إلى هذه الخلوة مع النفس بوصفها دلالة على النضوج العاطفي والتطور النفسي الصحيح.
لا شك بطبيعة الحال أن التفاعل الاجتماعي الإيجابي مع الآخرين والتعاون معهم هما جانب أساسي وحاسم لضمان سلامة بيئة العمل. وعلى الرغم من أن بعض الناس قد يشعرون بإلهام أكبر جراء التفاعل الشخصي مع الآخرين، فإن التأمل الفردي غالباً ما يقود إلى تشكل الأفكار وتوضيحها وترسيخها. فكما كتب عالم الكيمياء الحيوية إسحاق أزيموف في مقالته الشهيرة حول طبيعة الإبداع: "الإبداع مُحرج. فمقابل كل فكرة جيدة تمتلكها، هناك مئات بل عشرة آلاف فكرة غبية، أنت تخجل بطبيعة الحال من كشفها".
لقد أكد العلم الآن ما يعرفه عدد لا يحصى من الفنانين والمبتكرين، ألا وهو أن التأمل الذاتي في حالة من العزلة يغذي العقل المبدع. وفي السنوات القليلة الماضية، اكتشف علماء الأعصاب أن الإنسان يتوصل إلى أفضل أفكاره عندما لا يكون اهتمامه منصباً على محيطه المباشر أو على مهمة قيد الإنجاز. فعندما لا نركز على أي شيء محدد، أي عندما نطلق العنان لعقلنا ليسرح به الخيال أو عندما نتأمل بعمق في مخزوننا من الذكريات والأفكار والعواطف، فإن الشبكة الافتراضية في الدماغ تتفعل، والعديد من أفكارنا المبتكرة تظهر نتيجة للنشاط الذي يحصل في هذه الشبكة الدماغية، والتي نطلق عليها اسم "شبكة الخيال".
وغالباً ما تعمل المكونات الثلاثة لهذه الشبكة – أي تحديد المعنى الشخصي والمحاكاة الذهنية واتخاذ الموقف – معاً عندما نكون في حالة من التأمل. وبما أن عمل شبكة الخيال هذه يعتمد على أجزاء عديدة من الدماغ، فإن ذلك الأمر يمكّننا من تذكر الماضي والتفكير في المستقبل ومراعاة الآراء والسيناريوهات الأخرى واستيعاب القصص وفهم أنفسنا وإيجاد المعنى بحسب تجاربنا.
وكما ذكرنا أعلاه، فإن تفعيل عمل هذه الشبكة يقتضي وجود حالة من التأمل الداخلي – وهي الحالة التي يشير إليها الكثير من الفنانين والفلاسفة عندما يصفون الطريقة التي يتوصلون بها إلى أكثر أفكارهم إبداعاً. وهذا النوع من التأمل يصبح أفضل عندما يكون المرء منعزلاً عن الآخرين، وهذا هو السبب الذي يفسر لماذا نتوصل غالباً إلى الأفكار الخلاقة عندما نكون في حالة استرخاء أو في أثناء القيام بأعمال بسيطة معتادة مثل الاستحمام أو غسل أطباق الطعام.
لكن المؤسف في الأمر هو أن الناس نادراً ما يمنحون أنفسهم الوقت الكافي للتأمل والتفكر بطريقة ذات معنى. وعلى الرغم من أن مكان العمل في العصر الحديث لا يشجع على هذا النوع من العزلة الفردية، هناك بعض الأشياء التي يمكن للمدراء والفرق العاملة معهم فعلها لاستعادة حالة العزلة الضرورية هذه، وتحسين قدرتهم على التفكير بطريقة مبدعة وخلاقة، دون أن يقود ذلك إلى تراجع في التعاون بينهم.
يتمثل أحد الحلول في منح الموظفين الفرصة للعمل بمرونة من مكان بعيد، وتحديداً عندما يركزون على تنفيذ مهام تتطلب حالة من الإبداع والابتكار وتوليد أفكار خلاقة وجديدة. وثمة حل آخر، هو تخصيص مكتب أو غرفة اجتماعات للأعمال التي تتطلب هدوءاً. لكن الأهم من كل ذلك هو أن يبادر المدراء إلى طمأنة الموظفين إلى أنهم سيحترمون أساليبهم الشخصية في العمل، وإخبارهم أنه لا مشكلة في ابتعاد الموظف عن مكتبه ليختلي بنفسه ويفكر على راحته. ويجب على المدراء تشجيع هذه الحالة بنشاط، وحث الموظفين على أخذ كل أيام إجازتهم المستحقة، لأن تخصيص وقت للراحة والتأمل بشكل دوري، سيعطي فريقك المساحة التي تسمح لأعضائه باستعادة طاقتهم الإبداعية.
لقد حان الوقت للسماح للموظفين المُبدعين (ومن منا ليس مضطراً إلى حل المشاكل بطريقة مبدعة في هذه الأيام؟) "بحماية الوقت والمكان" اللذين يعملون فيهما، لأن ذلك سيساعد في إرساء الأساس للابتكار الحقيقي.