في العام 1978، تفاجأ سكان المنطقة الشمالية الشرقية في الولايات المتحدة الأميركية بعاصفة ثلجية قوية ضربت المنطقة، حيث كان حينها خبراء الأرصاد الجوية يتوقعون حدوث عاصفة ثلجية طفيفة فقط، ما جعل السكان يشعرون بالطمأنينة والخروج من منازلهم لممارسة أعمالهم الاعتيادية. وعندما بدأت العاصفة تضرب المنطقة بقوة، توقفت حركة المرور بالكامل بسبب تراكم الثلوج بشكل كبير على الطرقات بوقت قصير لدرجة أنها شلت حركة جرافات الثلوج، ما دفع آلاف الأشخاص إلى ترك سياراتهم في وسط الطريق. وللأسف لم تكتب الحياة لجميع الأشخاص الذين بقوا عالقين في العاصفة، حيث استغرقت عمليات الإنقاذ وتنظيف الطرقات أكثر من أسبوع بمساعدة الحرس الوطني.
أما اليوم، وعلى الرغم من زيادة شدة الظروف المناخية بمختلف أنواعها بسبب التغير المناخي، إلا أننا أصبحنا أكثر استعداداً لمواجهة مثل هذه الحالات من نواح عديدة، حيث تطورت تقنيات الأرصاد الجوية، وأصبح حكام ومحافظو الولايات والمدن يتبعون ممارسات معيارية تمكنهم من التعامل مع مثل هذه الأحوال بطريقة أفضل باستثناء العواصف الكبرى (مثل إعصار كاترينا أو ساندي). كما أن القطاع الخاص بات يضطلع بدور هام اليوم في هذا الشأن، فإذا كان هناك احتمال حدوث عاصفة ثلجية، أو إعصار، أو فيضان مفاجئ في منطقتك، سيتم إخطارك عبر هاتفك الذكي حتى تتمكن من أخذ التدابير اللازمة لحين انتهاء الخطر.
وفي حين أن التقدم التكنولوجي في مجال مراقبة المخاطر المتعلقة بالطقس عزز من السلامة العامة والمرونة في الاستجابة لأي من الظروف الجوية، إلا أننا لم ننجح في تحقيق ذاك التقدم الكبير لمواجهة المخاطر البيولوجية والتهديدات الوبائية على الصعيد العالمي، حيث أوضحت "لجنة دراسة الشريط الأزرق" - الممثلة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري والمعنية في مجال الحماية البيولوجية – أن مستويات الاستعداد في الولايات المتحدة والتنسيق العالمي لمواجهة مثل هذه المخاطر ضعيفة جداً. وهذا الأمر لا تعاني منه الولايات المتحدة لوحدها فقط، بل إنها مشكلة عالمية.
شهد العالم خلال العقود الماضية تفشي العديد من الأوبئة التي كادت أن تودي بحياة الملايين، مثل فيروس الإيبولا في غرب أفريقيا، وظهور سلالات مختلفة من أنفلونزا الطيور، وآخرها كان التفشي السريع لفيروس زيكا. وفي الآونة الأخيرة، بتنا نواجه جيلاً جديداً من الفيروسات والبكتيريا المقاومة للعقاقير الدوائية، ما يجعلنا متأكدين من أننا الآن لسنا مستعدين لمواجهة أي وباء عالمي. ولكي نتمكن من مواجهة ومعالجة ذلك، يجب أن يكون هذا الأمر على رأس أولويات قطاع الصحة العامة والعلماء والحكومات والشركات الأخرى المعنية في القطاع الخاص.
في قطاع الصحة العامة، يعد من السهل جداً مواجهة مثل هذه المخاطر والتهديدات عندما نشرع في تطبيق خطوات احترازية استباقية مقارنة بأن نكون في موقع الدفاع عند ظهور أو تفشي وباء ما، ولكن ذلك يتطلب المزيد من التنسيق على الصعيدين الدولي والمحلي. ونرى أن أولى الخطوات الواجب تطبيقها تتمثل في قيام الولايات المتحدة بالتعاون مع الحكومات حول العالم بتأسيس وكالة أو منظمة دولية على غرار "وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتطورة" (DARPA) التي تعمل على تضافر جهود مختلف القطاعات حول تعزيز الجاهزية لمواجهة المخاطر والتهديدات البيولوجية والوبائية.
لماذا يجب على القطاع الحكومي أن يقود الجهود في هذا الشأن؟
لأن الخطة طويلة الأمد والقرارات اللازمة لتطوير وتحديد الإجراءات الواجب تطبيقها لمواجهة التهديدات الوبائية هي من أكبر المعضلات التي لا يمكن حلها من قبل قطاع بعينه. لذا يمكن للحكومة أن تضطلع بدور كبير في تحفيز التعاون بين مختلف القطاعات لمواجهة هذه التهديدات. ونستعرض فيما يلي ما يمكن للقطاعات الحكومية والخاصة ومجتمعات الأبحاث والعلماء القيام به سوية لتحقيق نتائج أفضل في هذا الخصوص:
القطاع الحكومي
خصصت الحكومة الفيدرالية الأمريكية 6 مليار دولار لأغراض البحث حول هذه التهديدات. وقد يبدو هذا المبلغ ضخماً للوهلة الأولى، لكنه ليس كذلك عند مقارنته بالمبالغ التي تنفق على الأمن السيبراني، أو أمن ومراقبة المطارات، أو على أمن الحدود. وهذا المبلغ غير كاف لتحقيق النتائج المرجوة، لأنه يتم تخصيصه بشكل مفصل. وبالإضافة إلى قيامها بالأبحاث والمشاريع التطويرية المطلوبة، يجب على الحكومات الالتزام بالتعاون والعمل المشترك مع المجتمع الدولي مثل منظمة الصحة العالمية لضمان وجود إطار عمل مشترك على الصعيد الدولي لمواجهة مثل هذه التهديدات، ولاسيما الدول الضعيفة التي لا تمتلك أنظمة صحية متطورة. ونرى من خلال ذلك أن قوتنا تكمن في تعزيز التعاون الدولي وإنشاء أنظمة الإنذار المبكر التي لا تسبب الهلع والذعر بين القطاعات المتعاونة فيما بينها. وعند تطبيق كل ذلك، يمكننا حينها تسليط الضوء على التهديدات غير المرئية لكي تتمكن الولايات المتحدة والمجتمع الدولي من إدارتها.
القطاع الخاص
لا تعتبر المرونة والجاهزية لمواجهة التهديدات البيولوجية والوبائية بذاك الأمر الجلل بالنسبة لمؤسسات الصحة العامة والحكومات والجيش. وعلى الرغم من ذلك، كان خيار عسكرة الاستجابة لفيروس الإيبولا من بين أكثر الاستجابات تكلفة حتى الآن، وهذا قد يزيد من تعقيد الاستجابات المستقبلية، فالخيار العسكري يجب أن يكون خط الدفاع الأخير وليس الأول لمعالجة مثل هذه الحالات.
ويعد التخفيف من التهديدات الوبائية والبيولوجية من الأمور الضرورية التي تستوجب مشاركة القطاع الخاص بشكل كبير. وكما حذر بيل غيتس خلال "مؤتمر ميونيخ للأمن" بأن هناك ملايين الأشخاص المعرضين للخطر، والآثار الاقتصادية الناجمة عن مثل هذه التهديدات كبيرة جداً مقارنة بالتهديدات العالمية الأخرى، حيث كلف فيروس زيكا اقتصادات أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي حوالي 18 مليار دولار، في حين كلف تفشي فيروس الإيبولا الأخير خسارة أكثر من 11 ألف شخص، فضلاً عن خسائر اقتصادية بلغت أكثر من 32 مليار دولار.
ويجب على القطاع الخاص أيضاً كسر النمطية المتبعة ولاسيما في قطاع صناعة المستحضرات الدوائية، والذي يولي اهتمامه بشكل رئيسي على المنتجات الدوائية المدرة للأرباح والاستثمارات المربحة الأخرى. هذا ولأنه على المدى الطويل، لا يمكن تعويض خسائر انهيار السوق العالمية بسبب المخاطر البيولوجية والوبائية بالأرباح الكبيرة التي تولدها مثل تلك المنتجات. ويجب أن تتضافر الجهود الجماعية لتعزيز الجاهزية والمرونة في مواجهة التهديدات الاجتماعية بالدرجة الأولى، حتى ولو كانت نتائجها الاقتصادية غير ملموسة. وبالنسبة للجهات التي تمتلك الموارد والتمويل وغيرها، عليهم الالتزام بشكل خاص في التركيز على العديد من التحديات الخطرة الناجمة عن تزايد التهديدات المعقدة والمتداخلة فيما بينها.
باختصار، علينا أن نتبنى نهجاً اقتصادياً عالمياً نشرع في ضخ الاستثمارات فيه الآن أو سنضطر إلى مواجهة عواقب وخيمة لاحقاً. وفي وسط كل هذا الغموض، سيكون هناك عوائد مجزية يجنيها المبتكرون ورواد الأعمال الذين يدركون مدى الفرص الإيجابية المتاحة والتي يمكنهم الاستفادة منها من خلال مواجهة هذه التحديات البيولوجية والوبائية ومعالجتها.
مجتمع العلوم/التكنولوجيا
كما هي الحال في "وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتطورة"، يعد الناشطون في مجالات العلوم والتكنولوجيا هم الأبطال المجهولين وراء تحسين وتطوير الجاهزية والإمكانات العالمية لمواجهة التهديدات البيولوجية والوبائية. ولكن على عكس الأبحاث العسكرية المتقدمة التي تتم بسرية تامة، يجب على العلماء الذين يعملون على تحسين قدراتنا الدفاعية ضد أي تهديدات ناشئة أن يتبعوا أسلوباً يتسم بالشفافية ويشجع على التعاون المفتوح. وغالباً ما تتبع استثمارات الأبحاث والتكنولوجيا، خاصة تلك التي يجريها القطاع الخاص، منهجاً لا يسعى إلى تحقيق أي أرباح مادية. ويجب أن تُنسق الجهود العلمية المدعومة بالمنح المالية، والاستفادة من هذه المبادرات بما يضمن تحقيق قفزات معرفية نوعية على الصعيد العلمي والتكنولوجي، كما ينبغي أن تتمحور حول رفع سوية الوعي العالمي حول التدابير الوقائية البسيطة مثل غسل الأيدي.
ونحن نعي تماماً أنه هناك العديد من المشاكل الكبرى التي يواجهها العالم، ابتداء من التغير المناخي وصولاً إلى النزاعات المسلحة، لكن قضية تفشي الأوبئة، وما تنطوي عليه من مزيج فريد يتسم بسرعة الانتشار وقضاءه على حياة آلاف الأشخاص، تستحق منا اهتماماً أكبر بكثير مما نوليه لها الآن. ويجب أن تندرج هذه القضية ضمن قائمة أولوياتنا. ونحن ندرك أيضاً أن الدعوة إلى تعزيز التعاون، ولاسيما على الصعيد الدولي، في وقت نشهد فيه تزايد النزعات القومية والشعبية قد تبدو مجرد أوهام. ومع ذلك، فإن الأوبئة وتفشيها لا تعرف حدود دول ولا تتوقف عند دولة معينة. وبدلاً من محاربة العولمة والمعوقات التجارية واتباع سياسة النأي بالنفس، نحن بحاجة إلى تعزيز التعاون والجهود والاستثمارات الدولية. إنّ السماح لهذه المخاطر بالتفاقم، مثل ما فعلت حكومات عديدة في بداية أزمة الإيبولا، سيكشف فقط عن مدى ضعف هذا العالم ومدى تأثره بأي مشكلة قد تصيب أي من بقاعه. وفي ظل وجود اقتصاد مترابط عالمياً، لا يمكننا فصل ثروات الشركات عن الدول، أو أي بلد عن آخر.
وسيكون من الصعب التنبؤ بالوباء القادم، والذي سيكون أكثر فتكاً من الذي قبله ما لم نتعاون جميعاً على مواجهته.