مقابلة مع نيتين نوريا، عميد كلية هارفارد للأعمال
في عام واحد افتتحت كلية هارفارد للأعمال مركزاً للأبحاث في دبي، وفي ذات العام 2016 انطلقت رسمياً مجلة هارفارد بزنس ريفيو العربية. لتحتضن الإمارات العربية المتحدة المنصة الأكاديمية الرائدة عالمياً في تخريج قادة الريادة والإدارة الراغبين في الوصول بمؤسساتهم إلى نجاحات استثنائية على مستوى العالم.
هارفارد بزنس ريفيو: لماذا اخترتم دبي لافتتاح أحدث مراكز الأبحاث مؤخراً؟ وما هي القيمة التي سيضيفها إلى المنطقة في ظل الظروف الحالية؟
نيتين نوريا: أسسنا أول مراكز أبحاثنا في هونغ كونغ قبل حوالي عشرين عاماً. ولدينا الآن مراكز أبحاث في كلٍّ من هونغ كونغ، وطوكيو، ومومباي، واسطنبول، وباريس، وساو باولو، وبونيس أيريس، ووادي السليكون. في كلية هارفارد للأعمال، نعتمد على التعليم عبر التجارب العملية، أي "دراسة الحالة" لتعليم الطلاب. ونعمل علي تعميم هذا الأسلوب ليتعرف الطلاب على حقيقة العالم بشكل عملي. وبما أن قطاع الأعمال أصبح منهجاً عالمياً متشابهاً في كثير من النواحي، فقد رأينا أن طلابنا يحتاجون إلى تعلّم الفرص والتحديات التي تواجه ممارسة الأعمال في كل مكانٍ في العالم. والهدف من مراكز الأبحاث هو مساعدتنا في دراسات الحالة، وإجراء الأبحاث التي تقدّم لطلابنا الفهم لما تبدو عليه كلٌّ من الفرص الاقتصادية والتحديات، والعمل على اغتنام تلك الفرص في مختلف مناطق العالم.
وبالتأكيد فإن دبي ومنطقة الشرق الأوسط تُعد مثالاً مميزاً. فالنشاط الاقتصادي هنا مزدهر، برغم احتوائه مجموعة من التحديات. وبالتالي، فإن مركز أبحاثنا مصمم فعلاً للمساعدة بهذا الشأن. وإضافةً إلى ذلك، فإن استخدام "دراسات الحالة" لا تقتصر علينا فحسب، بل تدرّسها كليات الأعمال في كل مكانٍ في العالم. ولهذا السبب، فإن مساهمتنا في المنطقة ليست فقط من خلال طلابنا، بل أيضاً من خلال مشاركتنا مع الكليات الأخرى في تطوير جيل من الطلاب يساهم في تقديم أبحاث ودراسات عملية تتيح لهم فهماً أفضل للمنطقة.
نحن في منطقة أثّرت فيها أسعار النفط على الكثير من القطاعات في الفترة الأخيرة، وانعكس ذلك مباشرة على قطاع الأعمال وإدارته، فإلى أي مدى تنصح بالانضمام إلى برنامج لدراسة الماجستير في إدارة الأعمال الآن؟ وما هي القيمة التي ستقدمها هذه الدرجة فعلياً في الوقت الراهن؟
في كثير من التجارب العالمية، تبيّن أنه عندما تبدو الظروف الاقتصادية في أي مكانٍ في العالم غير واعدة، يزيد إقبال الطلاب على برامج الماجستير في إدارة الأعمال، فهي تكاد تكون مثل صناعة معاكسة لحركة دورات النمو الاقتصادي. إذ عندما يكون هناك الكثير من الفرص المتاحة للأعمال، وإمكانية تحقيق دخلٍ كبير، يفضّل الناس الاستمرار في العمل والانشغال به. وعندما تتلاشى تلك الفرص، فإنك تبدأ برؤية المزيد من طلبات الالتحاق بكليات الأعمال، ذلك لأن الناس في تلك الظروف يمكن أن يفكروا في إمضاء عامين لتحسين مجموعة المهارات التي يتمتعون بها عبر دراسة الماجستير. وهو خيار يمنحهم فرصتين: إذا بدأ قطاعهم بالازدهار مجدداً، فستكون هناك فرصة للعودة إليه والتميز أكثر، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإن التعليم الذي تقدمه كلية الأعمال سوف يمنحهم سعة الأفق للتفكير بفرص أخرى تجعلهم أقل اعتماداً على قطاع عملهم السابق.
فالتعليم في مجال الإدارة العامة الذي تقدّمه كليات الأعمال، يوسّع تفكيرك وآفاقك بطريقة مميزة. فهي تتيح لك التفكير كقائد إداري على نحوٍ أفضل، وبالتالي في حال عدت للعمل في قطاع ما، أو إلى شركة كنت تعمل فيها أصلاً يمكنك عندها القيام بعملٍ أفضل من الفترات السابقة، لكن إذا كنت ترغب في التغيير والتفكير في الفرص الأخرى، فستجد الكثير من الفرص في العالم. كما ستساعدك الدراسة على انفتاح أفضل في الرؤية والمخيلة، إضافة إلى القدرة على شقّ الطرق التي تؤدي إلى فرصٍ وظيفية أخرى بشكل أفضل.
بالحديث عن توسعة أفق التفكير، ما الذي يجعل دراسة إدارة الأعمال أمراً ريادياً ومطلوباً عالمياً؟ وما هي الجهود التي تبذلونها لجعل كلية هارفارد للأعمال كليةً رياديةً وعالمية؟
هناك طريقتان واضحتان يمكن أن تحمل بهما كليات الأعمال صفة العالمية: تُقاس الأولى بتركيبة الكلية والطلاب، ذلك أن حوالي 35% من طلابنا ينتمون لجنسيات عالمية متنوعة. لكن طلابنا لديهم خبرة عالمية أكثر بكثيرٍ مما تشير إليه هذه الإحصائيات، فكثيرون منهم خاضوا تجارب السفر إلى مختلف أنحاء العالم واطلعوا على تجاربه. كما أننا نركز على الخبرة والتجارب لدرجة أننا نستقطب الطلاب ذوي الأفق العالمي. ونهتم بتزيين فصول كلية هارفارد للأعمال بأعلام البلدان التي جاء منها الطلاب. وإذا زرتم أحد فصولنا فسترون دائماً وجود 30 أو 40 علماً في كل فصلٍ من الفصول، وهذا ما جعل الكلية تتصف بصفة الدوليةً بجدارة. ويظهر هذا من خلال الأبحاث التي قدمها طلابنا، فنحن نقدم مايزيد عن 300 دراسة حالة تقريباً كل عام، وأكثر من نصفها هي حالات عالمية.
وبالتالي نحن عالميون من حيث الطلاب، والكلية، وكذلك نوعية التعليم الذي يتلقاه طلابنا. فغالباً ما يعتقد الناس أن العالمية هي مجرد افتتاح فرعٍ للجامعة في الخارج. لكنني في الحقيقة أعتقد أن التفكير في العولمة من خلال تكوين تجربةٍ عالمية للطلاب أهم من ذلك بكثير، فبالإضافة إلى جلب العالم إلى كلية هارفارد للأعمال في مقرها الرئيسي، بدأنا مؤخراً إرسال طلابنا إلى العالم. إذ أطلقنا برنامجاً ميدانياً يشكّل فرصةً للطلاب للنزول إلى الميدان في مختلف الدول الأخرى. ونحن الكلية الوحيدة التي تطلب من جميع طلابها التسعمئة في السنة الأولى السفر إلى دولة ذات سوقٍ ناشئة والعمل مع شركةٍ ما لتقديم منتج أو خدمة جديدة في تلك السوق. وبالتالي يحصل جميع الطلاب في كلية هارفارد للأعمال على تجربة الانغماس عالمياً، حيث يُمضون بعض الوقت في التفكير في مشكلة حقيقية متعلقة بالأعمال في دولةٍ أجنبية. وجميعهم يسافرون برفقة أعضاء الهيئة التعليمية، وهذا يضمن أنه بمرور الوقت، سيكون جميع المدرسين قادرين على فهم الفرص الاقتصادية الموجودة حول العالم.
أما ريادة الأعمال، فهي بنفس أهمية العولمة، ذلك أننا نحرص على أن يكون لدى جميع طلاب كلية هارفارد للأعمال رؤية ريادية للأعمال. طبعاً لا نتوقع أن يصبح الجميع رواد أعمال، تماماً مثلما لن يقوم جميع الطلاب بأعمال على صعيدٍ عالمي. لكن هدفنا هو أن يمتلك الجميع الرؤية والفهم العالمي والريادي، لأن جميع الشركات سوف تتأثر بظروف الأعمال العالمية. وعلى النحو نفسه، أعتقد أنه ما من شركة اليوم محصنة من المسار الريادي. فيمكن مثلاً أن تأتي شركة غوغل وتزعزع قطاعك أو تغيّر طريقة عملك. لذلك نعتقد أنه ينبغي عليك أن تفهم آلية ريادة الأعمال، ولذلك لدينا مقرر إلزامي في منهاج السنة الأولى يدعى " المدير الريادي" للتأكد من أن كل فردٍ من طلابنا لديه بعض الاطلاع على ريادة الأعمال.
وبعد ذلك، وبالنسبة لهؤلاء الذين يريدون أن يصبحوا رواد أعمال، فإننا نوفر الكثير من الفرص من أجلهم كي يسعوا وراءها بأنفسهم. وقد أطلقنا مسابقةً لإعداد خطة العمل، بالإضافة إلى وجود قسمٍ كبير لريادة الأعمال. كما بنينا أيضاً مختبر الابتكار الخاص بنا؛ وهو مركز يشمل جميع الطلاب، حيث يمكن لأي طالب من جميع أرجاء جامعة هارفارد الاجتماع والتواصل مع طلابٍ آخرين لتشكيل مشروعات جديدة. كما أننا نحاول إيجاد بيئة عمل لدعم الطلاب في كلية هارفارد للأعمال من أجل تنظيم مساعيهم الريادية. وفي بعض الأحيان، يتمثل النجاح في اكتشاف أن فكرتك غير قابلة للتطبيق بنفس درجة اكتشاف أنها قابلة للتطبيق. وقد تمكّنا خلال السنوات العشرة الأخيرة من تكوين مجموعة مميزة من الموارد، كي يتمكن طلابنا من تجربة ريادة الأعمال والتعلّم من خلال العملية نفسها، وفيما إذا كان هذا الأمر يثيرهم أو يرغبون في السعي وراءه بشكلٍ احترافي.
ومن خلال إحصاءات الخريجين، تبين أن 50 إلى 75 طالباً من حوالي تسعمئة طالب سنوياً يؤسسون شركات جديدة فور تخرّجهم من كلية هارفارد للأعمال. وفي العام الماضي، اتجه نصف طلابنا للعمل في شركات تضم خمسمئة موظف أو أقل. الاعتقاد السائد هو أن كلية هارفارد للأعمال ترسل خريجيها إلى الشركات الكبرى حول العالم. ونحن نفعل ذلك، لكننا أيضاً نرسل عدداً مماثلاً إلى الشركات الريادية الصغيرة.
بمناسبة الحديث عن ريادة الأعمال وما تسببه من زعزعة للقطاعات التقليدية، هل تشعرون بالقلق من أن تطبيقاً أو تقنيةً ما يمكن أن يزعزعوا مكانة درجة الماجستير في إدارة الأعمال؟
لدي زملاء يقلقون لهذا الشأن، حيث كتب كريستنسن مقالةً شهيرةً، تقول إن كلية هارفارد للأعمال وجميع مدارس الأعمال وكافة أشكال التعليم العالي التي نعرفها سوف تتعرض للزعزعة. إذ يرى أن لديها العديد من الصفات التي تتلاءم مع النموذج القابل للزعزعة. فهي عالية التكلفة، وجامدة جداً، ويصعب تغييرها، وأن هناك الآن تقنيات جديدة آخذة في الظهور يمكنها توفير طريقة مختلفة اختلافاً جذرياً لتعليم الناس. وبالتالي، فإنني أشعر أن التعليم عبر الإنترنت، أو التعليم المقدّم بصورة رقمية لا بد أن يشكّل خلال السنوات المقبلة الجزء الأكبر من التعليم العالي بما في ذلك دراسة إدارة الأعمال. وبعد عشرة إلى عشرين عاماً من اليوم، سوف يكون هناك المزيد من الطلاب الذين تشكّل الخبرة الرقمية جزءاً من تعليمهم، إما بالكامل أو إلى حدٍ ما.
لكن ليس من الضروري أن تكون الزعزعة شبيهةً بما حصل في صناعة الموسيقى، حيث كانت هناك ذات يوم متاجر لبيع التسجيلات الموسيقية، ومن ثم اختفت جميعها بعد عشر سنوات. ففي حالات أخرى لا تأتي الزعزعة على شكل "كل شيء أو لا شيء". ففي مجال البيع بالتجزئة لم تغلق جميع متاجر التجزئة. فرغم وجود موقع أمازون للتجارة الإلكترونية إلا أن متاجر التجزئة ما زالت موجودة. وفي الحقيقة فإن أمازون نفسه يعيد الآن تأسيس مراكز للتسوق يمكن للناس زيارتها. وبالتالي أنا أعتقد أن التعليم العالي سيكون مزيجاً من الدراسة في الحرم الجامعي وعلى الإنترنت، وستتعايش فيه التجربتان دون إلغاء إحداهما للأخرى.
وفي كلية هارفارد للأعمال، نحاول التأكد أننا غير مهددين بما يحدث من زعزعة لقطاع التعليم. إذ نسعى لنصبح في طليعة التعليم الرقمي، حيث أطلقنا منصةً رقمية خاصة بنا عبر الإنترنت تدعى HBX. وأول مشروعاتنا برنامج HBX Core، وهو عبارة عن مجموعة تأسيسية تعلّمك لغة الأعمال والمحاسبة والاقتصاد والتحليل المنطقي. وقد أثبتنا أننا نستطيع بناء منصة يمكن أن تشكّل تجربةً تعليمية ذات قوة هائلة. وفي الحقيقة، نحن الآن نشجع طلابنا قبل التقدّم للدراسة في كلية هارفارد للأعمال والبدء فيها بالانضمام إلى ذلك البرنامج لأننا نعتقد أنه يساعدهم على تقديم أداء أفضل في الكلية. وبالتالي فإن تطلعاتنا هي أن نساهم في زعزعة قطاع التعليم، لا أن نكون ضحية له، تماماً كما أسّسنا برنامج الماجستير في إدارة الأعمال الذي قامت الجامعات الأخرى بمحاكاته، وكذلك عندما أطلقنا "دراسة الحالة" التي لم تعد مجرّد النظام التعليمي الذي نعتمده نحن فقط، بل بات الجميع يعتمدونها في كافة أرجاء العالم. ونأمل في إيجاد شكلٍ من أشكال التعليم عبر الإنترنت، يمكن أن يصبح ذا فائدةٍ كبيرة لا تقتصر على طلابنا فحسب، بل أيضاً بالنسبة لجميع الطلاب حول العالم.
إذاً أنت لا تعتقد أن القاعات الدراسية سوف تندثر في وقتٍ ما في المستقبل؟
لا أعتقد ذلك، بل أعتقد أن قاعات الدراسة ستكون موجودةً جنباً إلى جنب مع الصفوف الافتراضية، حيث يبقى البشر موجودون، وتبقى إمكانية إجراء المحادثات وكذلك أجواء الألفة. فالتعليم ليس مجرّد الحصول على المحتوى، بل يتعلّق أيضاً بتكوين العلاقات، وفهم كيف يتفاعل الناس مع بعضهم البعض، وتطوير المهارات والقدرات، وذلك يجعلك شخصاً قادراً على التعلّم من الآخرين وتطوير القدرة على الحكم، وليس من السهل القيام بهذه الأشياء عبر الإنترنت. وسوف يبقى هناك حاجة لدى الطلاب للتفاعل مع بعضهم بشكل حقيقي في بيئة واقعية وليس بشكل افتراضي وحسب.
وبالطبع، النقل المباشر للمعرفة يمكن أن يتم بطريقة رقمية. فليس هناك جدوى من تعليم أساسيات المحاسبة، حيث يمكنكم أن تتعلموها عبر الإنترنت. ولكن ما ينبغي أن نعلمكم إياه هو كيفية استخدام المحاسبة، وهذا يجري على نحوٍ أفضل في القاعات الدراسية بوجود أناسٍ آخرين.
ونحن في كلية هارفارد للأعمال نسعى لفهم أفضل الممارسات على الصعيد الرقمي، وسيفتح ذلك لنا آفاقاً لتطوير التدريس في الحرم الجامعي. ونحن نستثمر باستمرار لتحسين بنيتنا التحتية في الحرم الجامعي مثلما نستثمر في التعليم عن طريق الإنترنت.
ذكرت من قبل أنك لم تفكّر أبداً في أن تصبح أستاذاً، وها أنت ذا الآن أستاذ وعميد واحدةٍ من أكثر كليات الأعمال تأثيراً في العالم. كيف كانت تلك الرحلة؟ وما هي التحديات التي واجهتك على طول الطريق؟
كان لدي دائماً شعور بأن النجاح سيبدو واضحاً عندما يتحقق، أما في الواقع فإنه لا يبدو كذلك. وفي بعض الأحيان تتحول الحياة إلى رحلة، ثم في مكانٍ ما من هذه الرحلة يبدأ الناس في التفكير بأنك شخصٌ ناجح. وما زلت أذكر أنني عندما تقدّمت للدراسة في الولايات المتحدة، كنت أريد أن أصبح رجل أعمال وليس شخصاً أكاديمياً. والسبب الوحيد لتقدمي إلى برامج الدكتوراه كان لأنني أحتاج إلى منحةٍ دراسية كي أستطيع تحمّل تكاليف الدراسة في الولايات المتحدة. فاخترت نصف الكليات التي تقدمت إليها عشوائياً وتقدمت إلى برامج الدكتوراه، أما النصف الآخر فتقدمت فيه لبرامج الماجستير في إدارة الأعمال. فحصلت على منحة وحيدة من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، والسبب الوحيد في ذهابي إلى المعهد كان أنه المكان الوحيد الذي حصلت فيه على منحة. ولقد كان حصولي على المنحة من هذه المؤسسة التعليمية العظيمة ضربة حظ صرفة. في ذلك الحين، لم أكن متأكداً من رغبتي في الحصول على الدكتوراه حتى بعد مضي عامين أو ثلاثة من البرنامج، فقد كانت لدي شكوكٌ كبيرة. هل ينبغي أن أتابع؟ أم هل ينبغي أن أغادر؟ وهل لدي الإمكانات اللازمة؟ أم هل عليّ أن أنسحب فحسب وأتجه إلى الأعمال؟ وهل لدي ما يلزم لأكون أكاديمياً؟ فأنا لم أشعر فجأةً أنني سأصبح ناجحاً للغاية فور دراسة الدكتوراه.
وقد كانت هناك لحظات شكٍّ في العديد من المراحل خلال مسيرتي المهنية حول إمكانية تحقيقي للنجاح. فعندما تخرّجت من الدكتوراه، كنت أتساءل إن كنت سأحصل على وظيفةٍ أكاديمية؟ وعندما انضممت إلى كلية هارفارد للأعمال، سألت نفسي: هل سأكون أستاذاً ناجحاً؟ واستغرق مني الأمر سنتين لإيجاد طريقة لنشر أول بحثٍ لي. صحيح أنني كتبت بعد ذلك خمسين بحثاً، لكن الأول لم يكن سهلاً، وقد مررت بأوقاتٍ فكّرت فيها أنني ربما لستُ أهلاً لأكون أكاديمياً. لذلك أقول أنه كانت هناك الكثير من اللحظات في حياتي شعرت فيها وكأنني قريبٌ من الفشل مثلما أنا قريبٌ من النجاح. ومن ثم ينجح المرء بشكلٍ أو بآخر، وهكذا تعلّمت أمراً أقوله دائماً لطلابي: إن أفضل طريقة للعيش في الحياة هي بتحقيق تقدم بشكل مستمر كلّ يوم فلا أحد يدري أحد إلى أين سيؤدي الطريق في النهاية.
هل يمكن أن تخبرنا المزيد عن قَسَم الأعمال الذي عملت عليه مع المنتدى الاقتصادي العالمي ومعهد آسبن؟
الدافع وراء تأسيس هذا القسم بسيط جداً. إذ أن شقيقتي طبيبة، وقد كنت دائماً أتساءل لماذا يعتقد الجميع أن الأطباء أشخاصٌ شرفاء، بينما رجال الأعمال ليسوا كذلك. ذلك لأنه حسب خبرتي هناك رجال أعمالٍ شرفاء مثلما هناك أطباء غير شرفاء. ولكن الانطباع العام لدى المجتمع عن الأطباء هو أنهم شرفاء أكثر، لكن كما تعلمون هناك أطباء يرتكبون ممارسات خاطئة ويضعون مصلحتهم قبل مصلحة المريض. لذلك كنت أفكّر فيما إذا كان هناك شيء يمكننا فعله لإقامة فهمٍ مشترك لما يمكن أن يتعهد به قادة قطاع الأعمال، وأن يكونوا على استعداد لتحمّل المسؤولية حياله.
يُعدّ قسم أبقراط وثيقةً للأطباء، وسواء كان جميع الأطباء يتبنونه أم لا، فإنه على الأقل موجود ويشكّل معياراً يتوقع الناس أنهم سيتحمّلون مسؤوليته، وأن المجتمع سوف يحاسبهم بناءً عليه. ولدينا في كلية هارفارد للأعمال مقرر يدعى القيادة ومسؤولية الشركات، وقد وُلد هذا المقرر من حقيقة أننا ما نزال نرى حالاتٍ مثل شركة "إنرون" وبعض الأمثلة الأخرى حيث فشل قادة الشركات في تحمّل التزاماتهم الأخلاقية. وسبق لي أن شاركت في المقرر وكان لدي السؤال التالي: هل يمكن أن نضع فكرةً مثل قسم أبقراط من أجل قادة الأعمال؟
وهكذا في مرحلةٍ ما قبل أن أصبح عميداً للكلية، فكّرت أنني ربما سأُمضي وقتاً طويلاً في محاولة نشر هذه الفكرة على نحوٍ أوسع. ومن المثير للاهتمام، أنه في بداية تأسيس كليات الأعمال، كانت هناك وجهة نظرٍ تقول إنه ربما ينبغي أن يصبح مجال الأعمال مهنةً مثل المحاماة والطب، لأنه لم يكن لدى أحد فكرة واضحة لما ينبغي أن يكون عليه التعليم في مجال الأعمال. لكنني أظن أن الناس أدركوا صعوبة تحويل الأعمال إلى مهنة بالمعنى الدقيق، لأن التجارة أمرُ متاح للجميع ويمكن لأي شخص العثور على وسيلة للدخول فيها. وبالتالي أشعر بالخيبة إلى حدٍّ ما لأن فكرة القسم لم تصبح شائعة مثل قسم أبقراط. إلا انني أفهم أنه من الأسهل تعميم القسم كمعيار للمسؤولية عند تنظيم الدخول في قطاع الأعمال.
ومن جهةٍ أخرى، أشعر أنه تمرين مهم جداً، وما نزال ندرّسه في كليتنا، وما يزال لدينا أشخاصٌ يتبنونه. فالفكرة الجوهرية هي أمرٌ مهم، وهو أنه يجب على قادة قطاع الأعمال أن يتحملوا المسؤولية وفق معايير سلوكية يراها المجتمع جديرةً بالثقة.
هل يمكن أن تخبرنا قصة من مسيرتك المهنية تدور حول إنجازٍ تعتبره مميزاً؟
إنه سؤالٌ صعب، لأنني عادةً لا أفكّر في حياتي ضمن هذا الإطار. بل أفكر فيها على أساس وجود هذا التقدم الملحوظ في تجربة الأشياء كلّ يوم. والزمن وحده كفيل بالحكم ما إذا كانت هذه الأشياء تعدّ نجاحاتٍ كبيرة أم لا، لأنه في الحياة الأكاديمية لا يمكنك تحديد النجاح على المدى القصير. فأنا أحد أكبر المستفيدين من إرث كلية هارفارد للأعمال، فلدينا اليوم بعض الخريجين الذين يقومون بأشياء رائعة، وينتهي بهم الأمر بأن يصبحوا قادةً ذوي تأثيرٍ كبير على العالم بطرق متعددة كلّ وفق عمله.
وبين يديّ العدد الخاص من هارفارد بزنس ريفيو العربية، ويمكنكم قراءة أفكارنا الأكاديمية التي تمتد في الزمن من أيام تيد ليفيت إلى أفكار نُشرت العام الماضي. ومن بعض النواحي فإن قياس ما إذا كان لي تأثير إيجابي على كلية هارفارد للأعمال، سيكون من خلال المشاهدة على أرض الواقع بعد عشرين عاماً من الآن، إذا كان هناك خريجون من الكلية يتابعون القيام بأعمال مميزة، ومدرسون يمكنهم الاستمرار في طرح أفكارٍ مدهشة. وبالتالي فإنه من الصعب التفكير في النجاح اليوم لأنه ينبغي على المرء أن يكون متواضعاً، ويدرك أن النجاح الحقيقي هو شيء ستكون أجيال المستقبل قادرةً على الحكم عليه بصورة أفضل.
إلى أي مدى تعتقد أن هارفارد بزنس ريفيو العربية يمكن أن تضيف قيمة للأشخاص عندما يقرؤونها بلغتهم الأم؟
في الواقع، إن أول تجربة لي مع كلية هارفارد للأعمال كانت من خلال مجلة هارفارد بزنس ريفيو. حيث كنت أعمل في إحدى الشركات، وكانوا يحاولون تطبيق فكرة المصنع المركّز. وهي من الأفكار التي خرجت من اليابان، حيث يفترض أن تكون المصانع عبارة عن مجرد خطوط تجميع تنتج كل شيء. ومضمون الفكرة هو إنشاء خلايا، تتولى كل خلية منها إنتاج قطعة كاملة من المنتج. وقد كنت أجري تصميماً صناعياً في هذه الشركة عندما كانت تنتقل إلى مصنع مركّز، وعندما سألت من أين جاءت هذه الفكرة، تبيّن أنها جاءت من مقالة في مجلة هارفارد بزنس ريفيو، وكانت هذه الشركة تغيّر ترتيبات عملها حرفياً بسبب المجلة. فهذا يبين قوة المجلة، حيث أن شخصاً ما قرأ الفكرة فيها، وقرّر تغيير المعمل بكامله كي يتلاءم مع بعض الأفكار. وقد بقي ذلك معي دائماً على أنه مثالٌ قوي للغاية حول ما يمكن أن تفعله مجلة هارفارد بزنس ريفيو.
لقد نشأتُ في الهند، حيث الإنكليزية لغة شائعة الاستخدام. لذلك كانت قراءة النسخة الأميركية من المجلة أمراً سهلاً في الهند. لكننا اليوم نسعى لأن نصبح مؤسسة عالمية، ونحاول إحداث تأثير ومشاركة ما نعرفه حول أفضل الأفكار، لإحداث الأثر لدى القادة الذين نقدم لهم الأفكار التي نبتكرها. لذا فإن عملنا يحتاج إلى أن يكون في متناول الناس، والطريقة الوحيدة لجعله كذلك في عالم الأعمال العالمي هو صياغته بلغات العالم. وبهذه الطريقة يتمكن جميع الناس في العالم من الاستفادة من هذه البحوث التي نجريها. وأنا فخورٌ جداً بحقيقة أن هارفارد بزنس ريفيو الآن تُنشر بلغات متعددة، ومتحمسٌ جداً بإصدار النسخة العربية، لأنها تغطي جزءاً مهماً من العالم. وآمل أنه من خلال هذه المجلة سوف يكون الناس في المنطقة العربية قادرين على تحسين مهاراتهم القيادية وطرق ممارسة الأعمال، وأن يشعروا ببعض الارتباط فيما بيننا وبين المنطقة.
من الذي يلهمك من الجيل الشاب اليوم في عالم الأعمال؟
أنا ألتقي بجميع زملائنا الأساتذة الجدد في كلية هارفارد للأعمال، وأتناول الغداء معهم مرةً في كل فصلٍ دراسي، وهم يلهمونني دائماً بما يفعلونه. فهناك الكثير من الشباب في العالم اليوم الذين يقومون بأشياء تغيّر العالم. وبالطبع نحن نسمع عن المشاهير، لكن ينبغي أن ننظر إلى أبعد منهم. وأنا أشجع كل قادة الأعمال على الاجتماع بالشباب في مؤسساتهم. وأن تكون اجتماعات مصغرة تضم ستة إلى ثمانية أشخاص في وقت واحد، وأعدكم أنكم ستستلهمون فعلاً من واحدٍ أو اثنين منهم.
فالشباب هم الذين يملكون المستقبل، وهناك الكثير من الإلهام الذي يمكن العثور عليه من طريقة تفكيرهم، ورؤيتهم لما ينبغي أن يكون العالم عليه، ومن خيالهم الخاص حول كيفية جعل العالم على الصورة التي يريدونها.
ما هي نصيحتك للعرب الذين يفكرون حالياً في دخول كلية هارفارد للأعمال، إما من أجل الدراسة الجامعية أو الدراسات العليا.
من المؤكد أن تطوير القدرات الإدارية ضمن بيئة أكاديمية مثل كلية هارفارد للأعمال، يعدّ أمراً بالغ الأهمية. فعند الاطلاع على طلبات التقدم لبرنامج الماجستير، ستجد مثلاً أن عدد المتقدمين للاختبار يمكن أن يبلغ عشرة آلاف، وعليك أن تختار طالباً واحداً بالرغم من أن هناك خمسة يماثلونه تماماً في الكفاءات ودرجات الاختبارات. فنحن نبحث عن صفات قيادية غير محسوسة في طلابنا، إضافة إلى ما هو مكتوب في سيرهم الذاتية. لذا نقول دائماً لطلابنا: اعثروا على طريقة للقيام بالأمور التي توقد شرارة القيادة بداخلكم، حيث يمكنكم إيجاد تلك القدرة على التعبير عن أنفسكم بصفتكم قادة، وحيث تبدؤون التأثير من خلال القيام بأعمال تساهم في تطوير الآخرين وليس فقط تطوير أنفسكم. عندما تبدؤون بالفعل بالتحول من حالة "أنا" إلى حالة "نحن". فكلما زادت الأدلة على توجه الناس نحو "نحن" بدلاً من "أنا" زاد احتمال قبولهم في كلية هارفارد للأعمال. لأننا نهدف إلى تكوين تجربةٍ عالمية للطلاب يمكن أن تساعدهم على تحقيق النجاح في أي مكان.