كان التعاطف يعتبر في يوم من الأيام شعوراً رقيقاً ومرهفاً للغاية لا يتناسب مع عالم العمل، ولكن عقوداً من الأبحاث حطمت هذه الأسطورة. ويشمل التعاطف ثلاثة أجزاء: مشاركة تجارب الآخرين، ومحاولة فهم رؤيتهم للعالم، والاهتمام برفاهتهم. عندما يعبر الناس عن التعاطف، فإنهم يبنون علاقات أعمق وأغنى، وعندما يتلقونه ترتفع ثقتهم ومعنوياتهم وسعادتهم.
ينطبق هذا على العمل أيضاً. فالقادة المتعاطفون يعززون الالتزام والولاء لدى القوى العاملة، حيث تنتاب الموظفين مشاعر إيجابية (تزيد سعادتهم ومرونتهم ورفاهتهم) ويعملون على نحو أفضل (يتعاونون بكفاءة أكبر وتزداد إنتاجيتهم وقدرتهم على الابتكار). في الوقت الحالي، يجب على أي شركة تريد اتباع نهج قائم على البيانات في ثقافتها أن تضمن إظهار قادتها التعاطف، وتلقيه من قبل القوى العاملة لديها.
ولكن ماذا عن عملائها؟ في استطلاع عالمي جديد أجريناه برعاية مجموعة زيوريخ للتأمين (زيوريخ)، استطلعنا آراء ما يقرب من 12,000 شخص في 11 دولة، ووجدنا أن أغلب العملاء يريدون أن يلمسوا تعاطفاً من الشركات التي يتعاملون معها، وأن غالبية الشركات لا تقدم هذا التعاطف.
ويمثل التعاطف في هذا السياق شعور العميل بأن الشركة وممثليها يحاولون بصدق فهم الحالة العاطفية للعميل والاستجابة لها، خاصة في لحظات الضعف. بالنسبة لعملاء التأمين، قد يعني ذلك أن ممثل الشركة لا يكتفي بمعالجة مطالبة العميل فحسب، بل الاعتراف بالصعوبات التي يمر بها أو التواصل معه لاحقاً للاطمئنان عليه. إنها القدرة على رؤية الموقف من منظور العميل وتحويل هذا الوعي إلى فعل ينم عن اهتمام حقيقي واستجابة عملية.
كشف استطلاعنا أن هذا النوع من التجارب يأتي على رأس قائمة رغبات المستهلكين؛ إذ قال 79% من المشاركين في الاستطلاع إن لقدرة العلامة التجارية على إظهار التعاطف في تفاعلها مع العميل دوراً في اختياراتهم، ما يجعلها أهم من المراجعات عبر الإنترنت (73%) وتوصيات الأصدقاء والعائلة (64%). كما قال 61% منهم إنهم على استعداد لدفع المزيد من المال لعلامة تجارية تظهر تعاطفاً في تفاعلاتها مع عملائها.
لكنهم لا يحصلون على ما يسعون إليه؛ حيث يرى 78% من الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع أن الشركات لا تبدي اهتماماً حقيقياً بعملائها، وقال أكثر من 40% منهم إنهم توقفوا عن التعامل مع علامة تجارية بسبب عدم تعاطفها مع عملائها. ستتسع هذه الفجوة مع تغلغل الذكاء الاصطناعي في تفاعلات العملاء؛ فقد أخبرنا أكثر من 70% من المشاركين في الاستطلاع أنهم يشكون في قدرة بوتات الدردشة على إظهار تعاطف حقيقي، وأعرب أكثر من 60% منهم عن قلقهم من أن الذكاء الاصطناعي يدمر العلاقات مع العملاء. فعبارة مثل "نحن نهتم بمكالمتك" تبدو جوفاء، خاصة عندما تكتبها خوارزمية.
إن فجوة التعاطف هذه مقلقة ولكنها تشير إلى عدم كفاءة السوق. عندما يشعر العملاء بأن العلامة التجارية تتعامل معهم بتعاطف، فمن المرجح أن يظلوا مخلصين لها ويوصوا الآخرين بها. وهذا يمثل فرصة مهمة؛ إذ يمكن للشركات التي تستثمر في التعاطف مع العملاء أن تكسب ميزة تنافسية كبيرة.
بناء على أبحاثنا وخبراتنا، إليك طريقة تحقيق أقصى استفادة من هذه الفرصة.
تحويل التعاطف إلى بنية تحتية:
في أوائل الألفية الثالثة، كان توبي كوسغروف الرئيس التنفيذي لمستشفى كليفلاند كلينيك، أحد المستشفيات الرائدة في العالم. وبعد أن ألقى محاضرة في كلية هارفارد للأعمال، رفعت إحدى الطالبات يدها، كان والدها بحاجة إلى إجراء عملية جراحية في القلب، وكانا قد بحثا معاً عن خيارات أخرى. قالت لكوسغروف: "كنا نعلم عن كليفلاند كلينك والنتائج الممتازة لعملك فيها، لكننا قررنا عدم الذهاب إليها لأننا سمعنا أنك إنسان غير متعاطف".
أصاب هذا الموقف كوسغروف بصدمة، فقد أدرك أن مستشفى كليفلاند كان يركز على التميز في الطب من الناحية الفنية وليس على تجربة المريض. لم يشعر مرضاه باهتمام كاف وتوقفوا عن التعامل معه، ولكي يتغير هذا الوضع، كان على المستشفى تحويل التعاطف من رفاهية إلى أولوية ملحة.
واستجابة لذلك، أنشأ كوسغروف مكتباً لتجربة المريض، وعين أول رئيس مسؤول عن تجربة المرضى في المستشفى. أجرى الفريق الجديد حملات استماع لمعرفة المزيد عن مشكلات المرضى المستعصية، وأعاد تصميم خدمات الرعاية الصحية لتصبح مرضية أكثر. أعيد تنظيم المستشفى وتحولت الأقسام التقليدية (أمراض القلب والجراحة وما إلى ذلك) إلى مراكز شاملة، بما فيها مركز قد يخدم والد تلك الطالبة على نحو أفضل، وهو معهد القلب والأوعية الدموية. أصبح الآن بإمكان المرضى، الذين كانوا يتنقلون من مبنى إلى آخر، تلقي الخدمات الطبية في مكان واحد. كما طلب مكتب تجربة المرضى أيضاً المزيد من الملاحظات من المرضى، وناقش الردود مع الأطباء، ونشر بيانات رضا المرضى بانتظام على الإنترنت. عندما عرف المعنيون أن المرضى يشتكون من طول أوقات الانتظار للمعاينة، حددوا مواعيد في اليوم نفسه لبعض الخدمات.
لجعل التعاطف حقيقياً بالنسبة للعملاء، يجب على المؤسسات أن تتخطى مجرد الكلام الشفهي وتجعله جزءاً من بنيتها التحتية. ويبدأ ذلك بالحصول على بيانات أدق. فبدلاً من مجرد السؤال عن مدى رضا العملاء، يمكن للشركات أن تتعمق أكثر، على سبيل المثال، من خلال الانخراط فيما يعرف في عالم التفكير التصميمي باسم "تخطيط الرحلة"؛ تنطوي هذه الممارسة على رسم خريطة لكل نقطة تفاعل بين العميل والمنتج أو العلامة التجارية، والصعوبات التي يمكن أن تنتج عن كل تفاعل، وفرص تحسينها. يمكن للشركات بعد ذلك وضع استراتيجية للتغييرات الملموسة في منتجاتها أو خدماتها أو الدعم الذي يستجيب للمشكلات المستعصية. والأهم من ذلك، يجب دعم هذه الجهود من أعلى المستويات؛ إذ يجب أن يدرك القادة أن التعاطف أمر بالغ الأهمية لبناء علاقات قوية مع العملاء.
الاستثمار في تحسين المهارات.
أعاد كوسغروف تصور القوى العاملة في المستشفى. فقد تغير لقب موظفي كليفلاند البالغ عددهم 43,000 شخص جميعهم إلى "مقدم رعاية" بغض النظر عن أدوارهم، وأخضعوا "لمعسكر تدريبي على التعاطف"، حيث تعمقوا في تجربة المريض. وكانت الآثار كبيرة؛ ففي غضون سنوات قليلة، قفز مستشفى كليفلاند من المستوى الأوسط إلى أعلى 10% من المستشفيات من حيث رضا المرضى. وكان من الآثار الجانبية غير المتوقعة ارتفاع مستوى مشاركة الموظفين ورضاهم بدرجة كبيرة، إذ تمكنوا من رؤية القيمة العميقة لعملهم بصورة أوضح.
وجد مختبر جميل أن نحو نصف السكان يعتقدون أن التعاطف سمة فطرية غير قابلة للتغيير، وأنهم أقل استعداداً لاستثمار الوقت والطاقة في فهم مشاعر الآخرين. ونحن نعلم الآن أن الأمر نفسه ينطبق على العملاء. ففي دراستنا العالمية، أفاد 45% من العملاء أن التعاطف لا يمكن تعليمه.
لكن البيانات تقول خلاف ذلك؛ فقد وجدت عشرات الدراسات الآن أن التعاطف في الواقع مهارة يمكن تعلمها وتنميتها من خلال العادات الصحيحة، وقد ابتكر جميل بالاستناد إلى علمه "صالات بناء التعاطف" باستخدام تقنيات مدعومة بالبيانات لتعلم هذه العادات ومساعدة المؤسسات على أن تصبح أكثر صحة وإنتاجية. على سبيل المثال، وجد أن تدريب المدراء على التعاطف يحسن صافي نقاط الترويج الخاصة بهم ويعزز التزام مرؤوسيهم المباشرين.
في الآونة الأخيرة، وعلى مدار عامين، عملت مجموعة زيوريخ للتأمين، وهي الشركة الراعية للدراسة الاستقصائية، على نحو منهجي لتحسين تعاطف موظفيها مع العملاء. فقد صممت برنامجاً تدريبياً يركز على قيمة التعاطف وقابليته للتطويع، والأدوات التي يمكن للموظفين استخدامها في أوقات الأزمات لدعم العملاء. وتشهد التجربة الغامرة التي استمرت يومين مشاركة الموظفين في أداء الأدوار بناء على سيناريوهات حقيقية حتى يتعلموا التعرف على الإشارات السلوكية وتكييف تفاعلاتهم وفقاً لها.
حتى الآن، تدرب ما يقرب من ربع القوى العاملة العالمية في مجموعة زيوريخ على التعاطف، من خلال ما يقرب من 46,000 ساعة من التدريب الإجمالي. وقد كان لهذا التدريب إلى جانب المبادرات الأخرى تأثيرات ملحوظة، إذ زادت نسبة صافي نقاط ترويج العملاء 7 نقاط، إضافة إلى إجابات العملاء التي أظهرت تأييداً وولاء للعلامة التجارية، ما يظهر تحسناً ملحوظاً. إن نجاح زيوريخ هو دليل على المفهوم الذي يمكن لأي مؤسسة اتباعه، إضافة إلى أنه يسلط الضوء على نقطة بسيطة: يمكن أن يوفر التعاطف عائداً قوياً على الاستثمار، داخلياً وخارجياً.
الجمع بين كفاءة الذكاء الاصطناعي واللحظات الإنسانية.
يمكن لبوتات الدردشة الآلية أن تزيد كفاءة تجربة العملاء من خلال جمع المعلومات التي يحتاجونها، ومشاركتها معهم في ثوانٍ، على سبيل المثال، بدلاً من جعل انتظارهم يطول. ولكن عندما يتعين على العملاء اتخاذ قرار مؤثر، أو عندما يعبرون عن مشاعرهم القوية، فالتكنولوجيا ليست كافية؛ فمثل هذه اللحظات تتطلب تواصلاً بشرياً.
في الواقع، تستطيع الشرِكات الذكية تصميم رحلة العميل بحيث تكتشف نماذج اللغة الكبيرة تلك اللحظات الحرجة ثم "تدعو" الموظفين المدربين على التفاعل التعاطفي لاستلام المحادثة. على سبيل المثال، تستخدم فودافون مساعدها الذكي "توبي" للتعامل مع الاستفسارات الروتينية للعملاء، ثم تسلم المحادثات بسلاسة إلى موظفين مدربين عندما تصبح القضايا معقدة أو حساسة عاطفياً. وهذا يضمن تلبية توقعات العميل حين يكون في أمس الحاجة إليها.
إذا كان مجال العلاقات مع العملاء خلال العقد الماضي يتمحور حول إتقان وسائل الراحة الرقمية، ففي العقد القادم سيتمحور حول استعادة التواصل الإنساني على نطاق واسع. من خلال تضمين التعاطف في صلب عمليات الشركات سيصبح بالإمكان بناء علاقات مرنة مع العملاء، ودفع عجلة النمو المستدام، والفوز في نهاية المطاف في سوق يركز على الإنسان.