هوس اللون الأخضر في المؤشرات: حين تتحول المستهدفات الاسمية إلى غاية مع إهمال الواقع التنفيذي

5 دقيقة
مؤشرات الأداء
app.envato.com/by Johnstocker

تحولت مؤشرات الأداء في كثير من المؤسسات، خصوصاً في القطاع العام، من أدوات قياس وإصلاح إلى أهداف بحد ذاتها، ما يفقدها معناها ويشوه الواقع المؤسسي. فالأخضر ليس دليلاً على النجاح دائماً، والأحمر والأصفر قد يكونان إشارتين للتدخل المبكر شريطة وجود الأمان النفسي الذي يسمح للم…

في كثير من المؤسسات، وخصوصاً في القطاع العام، لم تعد المؤشرات تستخدم بوصفها أداة إصلاح وتوجيه، بل أصبحت غاية في ذاتها. تختزل وظيفتها في أن تكون خضراء فقط، وكأن اللون الأخضر شهادة جودة مطلقة. غير أن هذا الهوس الذي يبدو ظاهرياً دليلاً على النجاح، هو في جوهره مؤشر خطر لا يهدد نزاهة البيانات فحسب، بل يمس ثقافة المؤسسة بأكملها.

يجسد هذا التحول المبدأ الذي صاغه الاقتصادي تشارلز جودهارت، والذي ينص في جوهره على أنه "عندما يصبح المقياس هدفاً، فإنه لن يبقى مقياساً جيداً". بعبارة أخرى، بمجرد أن يتحول المؤشر من أداة مراقبة إلى هدف بحد ذاته، فإنه يفقد قيمته ويصبح عرضة للتحايل.

المؤشر الأحمر: ضوء تحذير لا جرس إنذار

تخيل أنك تقود سيارتك في طريق طويل، وظهرت أمامك إشارات تحذيرية في لوحة القيادة: ضوء أصفر لفحص المحرك، وآخر أحمر لنظام الفرامل. لكنك تجاهلتها لأنك لا تريد أن تفسد صورة السيارة الجديدة. في أفضل الأحوال ستتوقف فجأة، وفي أسوئها ستتعرض لحادث.

تؤدي المؤشرات الحمراء والصفراء في المؤسسات الدور ذاته. فهي أدوات تنبيه ذكية تساعد على التدخل المبكر، لا وصمة يجب إخفاؤها. ظهور مؤشر أداء رئيسي باللون الأحمر أو الأصفر –مثل ارتفاع معدل دوران الموظفين أو انخفاض رضا العملاء– لا يعني فشل المؤسسة، بل يعكس نضجها وصدقها في مواجهة الواقع. يتطلب هذا النضج بيئة تتسم بما تسميه أستاذة الإدارة في كلية هارفارد للأعمال، إيمي إدموندسون، بـ "الأمان النفسي"، حيث لا يخشى الموظفون من إظهار البيانات السلبية (المؤشرات الحمراء) لأنهم ينظرون إليها على أنها فرصة للتعلم لا تهديد بالعقاب.

ما وراء الألوان: دوافع خفية

تلوين المؤشرات ليس سلوكاً عشوائياً، بل هو نتاج مزيج معقد من الضغوط الإدارية وضعف الوعي وسوء فهم جوهر المؤشرات. وتتعدد الدوافع التي تسهم في هذه الظاهرة، ويمكن ترتيبها حسب تأثيرها وأهميتها كما يلي:

  1. العناد الإداري: وهو المحرك الأعمق للانحراف؛ إذ يقود إلى تجاهل البيانات الموضوعية وتزييف الواقع لإثبات صحة قرارات القائد، ما يغلق باب التصحيح ويعطل التعلم المؤسسي.
  2. السعي لإرضاء المستويات العليا: أو الحفاظ على صورة مثالية للمؤسسة، وهو انعكاس مباشر لهيمنة القيادة على ثقافة الأداء، وتحويل المؤشرات إلى وسيلة للتلميع لا للتقويم.
  3. الأسلوب العقابي: وذلك في التعامل مع المؤشرات السلبية، الذي يزرع الخوف ويحول اللون الأحمر من فرصة للتحسين إلى تهديد يجب إخفاؤه.
  4. الخوف من المساءلة: وهو رد فعل طبيعي على البيئة العقابية، فيدفع بعض الفرق إلى إخفاء الواقع أو إعادة صياغته لتجنب الإدانة.
  5. ربط المؤشرات بالحوافز والمكافآت: وهو ما يخلق تضارباً بين النزاهة في القياس والرغبة في تحقيق النتائج المحسنة بأي وسيلة.
  6. غياب الحوكمة الرقابية الفعالة: ما يسمح بتمرير المؤشرات المضللة دون تحقق مستقل أو مساءلة حقيقية.
  7. الدوافع الشخصية للقيادات: كالرغبة في تجميل الصورة أمام الأقران أو إثبات صحة القرارات أمام الجهات العليا والرقابية، وهي انعكاس للفجوة بين المصلحة الفردية والمصلحة المؤسسية.
  8. ضعف ثقافة التحسين المستمر: وهو الأثر التراكمي لكل ما سبق؛ إذ تتآكل روح التعلم وتستبدل بثقافة الإصلاح ثقافة التبرير.

هذا التسلسل يعكس المنطق السببي في البيئات التنظيمية: من القيادة المتسلطة، إلى الخوف المؤسسي، إلى تحريف القياس، إلى ضمور ثقافة التحسين.

وعندما تتغلب هذه الدوافع على الغاية الحقيقية من المؤشرات، تتحول من أداة للتوجيه والتحسين إلى أداة للتجميل الإداري. يعرف هذا السلوك في الأدبيات الإدارية بـ "التلاعب بالقياس"، كما وصفه الباحثان بيفان وهود في دراستهما عن القطاع العام، إذ يجري تحسين الأرقام بطريقة مصطنعة استجابة للضغوط، ليتولد ما يسمى بـ "قرى بوتيمكين" الإدارية؛ أي واجهات مزيفة تخفي الخلل الواقعي.

الواقع المشوه: حين تصبح المؤشرات مكياجاً

في بعض المؤسسات، تتحول التقارير الدورية إلى بطاقات تهنئة خضراء لامعة، وكأن كل شيء يسير على ما يرام. غير أن الواقع التشغيلي يروي قصة مغايرة: تأخر في الإنجاز، وشكاوى متكررة، وقرارات ارتجالية بلا حوكمة أو مساءلة. عندها تصبح المؤشرات أشبه بـ "مكياج مؤسسي" يخفي الإرهاق والاختلالات تحت طبقة لامعة من الأرقام.

وهو ما يتماشى مع مفهوم "الفصل" الذي قدمه عالما الاجتماع ماير وروان، إذ تفصل المؤسسة بين هيكلها الرسمي وتقاريرها وبين ممارساتها التشغيلية الفعلية، وذلك لكسب الشرعية الخارجية بغض النظر عن الأداء الحقيقي. والأمثلة كثيرة، منها:

مشروع متأخر ونتائج مثالية: في أحد المشاريع، أظهرت التقارير إنجازات تتجاوز 90% على الرغم من تأخر التنفيذ أكثر من ستة أشهر. والسبب تعديل طريقة الحساب لتقتصر على الأنشطة المنفذة دون النظر إلى المخرجات أو الأثر الحقيقي. كمن يحسب عدد الوجبات المطبوخة دون قياس صلاحيتها للاستهلاك أو حاجة العميل لها.

  • التحليل (تشويه المخرجات): هذا انحراف منهجي في القياس بدافع تجنب النقد، يفقد المؤشر وظيفته ويعطل التعلم التنظيمي.

مؤشر رضا العملاء الخادع: في مؤسسة خدمية، ظل مؤشر الرضا أخضر على الرغم من تصاعد الشكاوى. عند التحقيق، تبين أن الاستبانة أرسلت فقط لمن أكملوا الخدمة بنجاح، فاختفى صوت المتضررين.

  • التحليل (الانتقاء): هذا تحيز في جمع البيانات بدافع تضليل الإدارات العليا، ويؤدي إلى قرارات مبنية على بيانات مشوهة.

التحايل بالدمج: في مؤسسة أخرى، ظل مؤشر أحد المراكز المستحدث وفق رأي القائد الشخصي باللون الأحمر فترة طويلة، فجرى "تصحيحه" بإضافة نتائج فروع أخرى إليه، فتحول إلى الأخضر بلمسة تجميلية، دون أن يتغير الأداء الفعلي.

  • التحليل (تزييف قيادي): هذا تلاعب مباشر بالبيانات بدافع حماية القرار الإداري الأصلي، ويؤدي لتآكل مصداقية منظومة القياس.

تظهر هذه الأمثلة آليات مختلفة للتلاعب بالبيانات صنفها باحثون، مثل دي يونغ وسيفيربو، إلى عدة أنواع، منها "تشويه المخرجات"، و"الانتقاء"، و"التلاعب بالبيانات".

ثقافة اللون الواحد: مرض إداري مزمن

حين تلزم الإدارة العليا فرقها بالحفاظ على اللون الأخضر مهما كلف الأمر، فإنها لا تحفز على التحسين، بل على التحايل. تتحول الإدارة بالأداء إلى إدارة بالمجاملة، وهو ما أسماه الباحث والمفكر الراحل كريس أرجيريس بـ "الروتين الدفاعي"، حيث تتجنب المؤسسة المعلومات المحرجة أو المهددة (المؤشرات الحمراء) للحفاظ على الوضع الراهن وتجنب الصراع، ما يمنع التعلم المزدوج أي التصحيح الجذري للأخطاء.

في بيئات العمل الاحترافية، لا يعد الأحمر أو الأصفر دليلاً على الفشل، بل إشارة حياة تدفع نحو التصحيح قبل أن يتفاقم الخلل. أما غياب الألوان السلبية تماماً فهو غالباً دليل على وهم الكمال أو ضعف الرقابة، وهما وجهان لخلل ثقافي واحد.

نحو إطار عمل يعيد للمؤشرات معناها

حتى تستعيد المؤشرات دورها بصفتها أداة وعي لا وسيلة تجميل، يجب بناء إطار مؤسسي يوازن بين الرقابة والتعلم. يوضح أستاذ كلية هارفارد للأعمال، روبرت سيمونز، أن الاعتماد المفرط على أنظمة الرقابة التشخيصية -أي مجرد مقارنة النتائج بالمستهدفات- هو ما يؤدي إلى هوس اللون الأخضر.

يشير سيمونز إلى أن الحل يكمن في موازنة هذا النظام بأنظمة الرقابة التفاعلية، التي تستخدم فيها المؤشرات باعتبارها نقطة بداية للحوار الاستراتيجي والتعلم الجماعي. يستند هذا الإطار المتوازن إلى أربعة محاور رئيسية:

1. حوكمة القياس

  • المفهوم: أن تكون جهة قياس المؤشرات مستقلة عن الجهة المنفذة، لمنع تضارب المصالح وضمان الموضوعية.
  • آليات التطبيق: إنشاء وحدات تدقيق بيانات مستقلة، ووضع قواعد احتساب واضحة، ومراجعة دورية للأرقام.
  • الهدف: أن يعكس اللون الواقع الحقيقي، ولا يكون مجرد تجميل لإرضاء الإدارة.

2. ثقافة الصراحة المؤسسية

  • المفهوم: تحويل المؤشرات السلبية (الحمراء أو الصفراء) من تهديد إلى فرصة للحوار والتحسين.
  • آليات التطبيق: تشجيع الإبلاغ عن الخلل دون خوف من العقاب، وعقد جلسات مراجعة تركز على "الحلول لا اللوم"، وتغيير مفهوم الفشل من "وصمة" إلى "إشارة للتعلم".
  • الهدف: تعزيز ثقافة التعلم، حيث تصبح "الإشارة الحمراء" فرصة للتصحيح.

3. تمكين القيادات والفرق من أدوات التحليل

  • المفهوم: المؤشر ليس مجرد رقم، بل هو قصة أداء تحتاج إلى فهم السياق والأسباب الجذرية.
  • آليات التطبيق: تدريب الفرق على قراءة البيانات تحليلياً (وليس الاعتماد على اللون فقط)، واستخدام أدوات التحليل السببي، وتشجيع الفرق على اقتراح الحلول.
  • الهدف: تمكين الموظفين من فهم "لماذا" و"كيف" حصل الانحراف.

4. المساءلة الذكية

  • المفهوم: ليس العقاب هو الهدف، بل ربط النتائج بالتحسين الحقيقي والمساءلة البناءة.
  • آليات التطبيق: ربط المكافآت بالتصحيح الفعلي للأخطاء (وليس فقط بالحفاظ على اللون الأخضر)، وتشجيع من يكتشف الانحراف ويصححه، ومتابعة فعالية الإجراءات التصحيحية.
  • الهدف: خلق بيئة تحفز على النزاهة والصدق في القياس.

بالمحصلة، عندما تنضج الحوكمة، وتترسخ الشفافية، ويتحرر القياس من المجاملات، تستعيد الألوان معناها الحقيقي ليصبح الأحمر صديقاً صدوقاً ينبه، والأصفر رفيقاً حذراً يذكر، والأخضر إنجازاً مستحقاً، لا تجميلاً إدارياً.

 

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي