إذا أردنا تفادي الآثار الأكثر ضرراً للتغير المناخي، فعلى الدول أن تتعاون من أجل الحد من التلوث وإبقاء ظاهرة الاحترار العالمي تحت 1.5 درجة مئوية. إلا أنّ الدول تتباين وتختلف في نهجها تجاه التنظيم البيئي. فيحاول بعضها الحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بفرض سياسات بيئية مشددة. والبعض الآخر إما يدرس الانسحاب من اتفاق باريس المبرم لمكافحة التغير المناخي بشكل جماعي وإما أنه انسحب بالفعل.
إنّ هذه الفجوة تُحدث فارقاً. ويكشف بحثنا عن أن مستويات الانبعاثات العالمية أقل لدى الدول ذات اللوائح البيئية الداخلية الأكثر تشدداً. ووجدنا أنّ السبب وراء ذلك أن الشركات الأكثر إسهاماً بانبعاثات ثاني أكسيد الكربون تنبعث منها كميات أقل من ثاني إكسيد الكربون في موطنها إذا كانت اللوائح البيئية أكثر تشدداً. ومع ذلك، فهذه الشركات أيضاً تسهم بكميات أكبر من الانبعاثات في الخارج، لاسيما في الدول ذات المعايير البيئية الأكثر تساهلاً.
ومن حسن الحظ أنّ مستويات الانبعاثات الأجنبية المرتفعة لا تفوق الانخفاضات داخلياً. ولكن، إذا أردنا التقدم لمواكبة ذاك المعدل، فسيتعين على الدول أن تتخذ إجراءات جماعية لتقليص مستويات الانبعاثات العالمية الكلية بشكل عام.
ملاجئ التلوث
لطالما احتج الأكاديميون بأن ثمة علاقة تكافلية بين السياسات البيئية للدول ومستوى تلويث الشركات للبيئة. غير أنّ علاقة السببية بين العاملين يمكن أن تكون ثنائية الاتجاه؛ بمعنى أن الدول ربما تستقطب شركات أجنبية أو قد تنقل الشركات عملياتها الملوثة للبيئة إلى تلك الدول. وفي كلتا الحالتين، تكمن الفكرة في أن الأنشطة الملوثة للبيئة من الأرجح أن تُمارس في دول ذات سياسات بيئية متراخية، ويُطلق علماء الاقتصاد على هذه الفرضية اسم "فرضية ملاجئ التلوث".
وحتى الآن، اُختبرت هذه الفرضية إجمالاً باستخدام بيانات على مستوى البلد أو الصناعة، وغالباً دون الوصول إلى قياس مباشر للتلوث. على سبيل المثال، تربط كثير من الدراسات بين النشاط الصناعي الكلي (أي الاستثمار الأجنبي المباشر كمصدر للتلوث) وصرامة القوانين البيئية في بلدان المنشأ مقارنة بالدول الأجنبية. ولا تلاحظ الدراسات التي تستخدم بيانات على مستوى الشركات الأنشطة الملوثة للبيئة مباشرة، وغالباً ما تستنبطها من متغيرات أخرى (على سبيل المثال، موقع الشركة أو قراراتها التصنيعية).
لقد استخدمنا مجموعة بيانات فريدة لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون لنرى ما إذا كانت الشركات حقاً تلوث البيئة بقدر أكبر في البلدان ذات القوانين البيئية المتساهلة والإنفاذ المتساهل لتلك القوانين. وتضمنت بياناتنا معلومات لأكثر من 1,800 شركة دولية وتقارير حول انبعاثاتها من ثاني أكسيد الكربون في كل بلد من البلدان التي عملت فيها خلال الفترة بين عامي 2008 و2016. وعلى الرغم من أنّ الشركات قد صرحت بأرقام الانبعاثات بنفسها، فقد خضعت تلك الأرقام إلى تعديلات بشكل متواتر، واستخدمها مستثمرون اعتباريون يراقبون تلك الشركات. ومزجنا بين هذه البيانات ومعلومات حول صرامة السياسات البيئية الوطنية استخلصت من المنتدى الاقتصادي العالمي.
كما أجرينا العديد من الاختبارات لتقصي مضامين فرضية ملاجئ التلوث. وبحثنا تحديداً مسألة ما إذا كانت الشركات تميل إلى التلويث بكميات أقل في بلدانها الأصلية ولكن بكميات أكبر بالخارج، لاسيما بالنظر إلى صرامة السياسات البيئية في بلدانها الأصلية. واستكشفنا أيضاً آثار "الفجوة التنظيمية" بين بلد الشركة الأصلي وكل بلد أجنبي (بتعبير آخر، الفارق بين مدى صرامة التنظيم البيئي في الوطن وفي الدولة الأجنبية)، على احتمالية إطلاق تلك الشركة ملوثاتها في تلك الدولة الأجنبية.
لقد وثّقنا عدداً من الارتباطات المهمة. وكشفت نتائجنا عن أنه في البلدان ذات التنظيم البيئي الصارم، تقل الانبعاثات المحلية للشركات بنسبة 29% في المتوسط. ومن ناحية أخرى، فإن هذا التشديد القانوني يفضي إلى انبعاثات أكثر بنسبة 43% في الخارج. والمهم أنه وعلى الرغم من أن الشركات تظهر وكأنها تُطلق كميات أكبر من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الخارج، إلا أن السياسات البيئية الأكثر صرامة على أرض الوطن ترتبط بتلوث عالمي أدنى في المجمل. وتشديد السياسات البيئية في أرض الوطن (الأمر الذي يمثل زيادة في انحراف معياري وحيد في التنظيم البيئي داخل عينة البلدان والشركات محل البحث والتقصي) يرتبط بانبعاثات ثاني أكسيد كربون عالمية أقل بنسبة 15% إجمالاً.
ولقد استكشفنا أيضاً عوامل متباينة ربما تجعل الشركات أكثر أو أقل قابلية للتلويث في الخارج. بالنسبة للشركات التي يُعتبر أنها تمتلك حوكمة رشيدة (باستخدام تصنيف معياري للحوكمة غالباً ما يُستعمل في أدبيات هذا المجال)، اكتشفنا أن الآثار الملحوظة أوهن عموماً؛ عندما يفرض البلد الأصلي سياسات بيئية مشددة، تنبعث من الشركات التي يُعتبر أنها تمتلك هياكل حوكمة رشيدة عموماً انبعاثات أقل في أرض الوطن، وتُصدّر انبعاثات أقل للبلدان الأجنبية. ومن ثم، فالشركات ذات هياكل الحوكمة الأضعف في الأعم الأغلب هي التي تتصرف وفقاً لفرضية ملاجئ التلوث، وتمارس أنشطتها الملوثة للبيئة في الخارج.
وهذا أمر مثير، حيث يمكن أن تواجه الشركات مفاضلة بين التلوث والقيمة. وقد تُفضل الشركات، على الأقل على المدى القصير، أن تلوث البيئة كي توفر التكاليف المرتبطة بالإنتاج النظيف. غير أنّ آليات الحوكمة الرشيدة، كالرقابة القوية لأصحاب المصلحة، قد تثني المدراء عن السعي وراء تلك الأهداف قصيرة الأجل، وتدفعهم نحو الإنتاج بانبعاثات أقل. وترتبط الحوكمة الرشيدة عموماً بقاعدة المستثمرين التي تقيم وزناً لممارسات المسؤولية المؤسسية، وتمارس ضغوطاً على الإدارة بغية السعي وراء تحقيق أهداف مسؤولة اجتماعياً وبيئياً، بما في ذلك انبعاثات أقل.
واكتشفنا أيضاً أن بعض الصناعات أكثر عرضة لتصدير ملوثاتها إلى الخارج من غيرها. والشركات الأكثر تلويثاً للبيئة هي التي تعمل في صناعات كالكهرباء والغاز والمصافي والإمداد بالبخار وتكييف الهواء والنقل الجوي والبحري وشركات تصنيع المواد المعدنية والمعادن. وتثبت دراستنا أن الشركات التي تعمل في تلك الصناعات لا تقلص انبعاثاتها في أرض الوطن بينما تُصدّر المزيد من ملوثاتها إلى الخارج. ونزعم بأن هذا يعود إلى أن السياسات البيئية المشددة مكلفة للشركات التي تعمل في صناعات ذات معدلات تلوث عالية، ما يسوقها إلى محاولة الخفض من التكاليف بتصدير ملوثاتها إلى الدول الأجنبية. وبالتالي، قد يكون لواضعي السياسات أثر أعظم على الانبعاثات العالمية إذا ما استهدفوا تلك الصناعات ذات معدلات التلوث العالية.
إلى أين "تُصدر" الشركات ملوثاتها؟ استناداً إلى أساليب تجريبية استُخدمت في أدبيات التجارة الدولية، اكتشفنا أنّ الشركات تلوث البيئة بقدر أكبر في الدول الأجنبية ذات القوانين الأكثر تساهلاً التي تتدنى معاييرها بشدة عن المعايير المعمول بها في البلدان الأصلية لتلك الشركات. على سبيل المثال، وجدنا أنّ ترينيداد وتوباغو والبوسنة والهرسك وسلوفاكيا وسورينام وباربادوس كثيراً ما تُصنف على أنها من بين أبرز خمس دول تتلقى سنوياً أغلب صادرات الانبعاثات المباشرة لثاني أكسيد الكربون مقارنة بالناتج الإجمالي المحلي الخاص بها. وهي أيضاً من بين الدول ذات التنظيم البيئي الأضعف على الإطلاق.
وإجمالاً، نجد دعماً لفكرة أن الشركات تزاول أنشطتها الملوثة للبيئة خارج بلدانها الأصلية عندما تمسي السياسات البيئية المحلية أكثر صرامة نسبياً مما هي عليه في الخارج. ويرتبط التنظيم البيئي المشدد بانبعاثات أقل على مستوى الشركة في أرض الوطن، غير أنّ الشركات تسعى حينئذ إلى مواصلة هذه الأنشطة الملوثة للبيئة في بقاع أخرى. ومن حسن الطالع أننا اكتشفنا أيضاً أن الشركات تلوث البيئة بمعدلات أقل على المستوى العالمي عندما تفرض أوطانها سياسات بيئية صارمة.
وتوحي نتائجنا إلى أنّ التنظيم الوطني يمكن أن يكون مفيداً، غير أنه مع ذلك يعتبر محدوداً في قدرته على مكافحة التلوث والتغير المناخي بفعالية. ونظراً لاحتمالات الالتفاف عليه لاستغلال الثغرات التنظيمية، فإنّ الدول بحاجة إلى اتخاذ إجراءات مضاعفة لضمان عدم زيادة المعدلات الكلية لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون. وإذا لم تُبذل جهود متضافرة لمواجهة التغير المناخي، فسيجد أصحاب المصلحة الكبار، كالشركات الكبرى، سبلاً على الأقل لتفادي القوانين البيئية الصارمة والانتقال بأنشطتهم ذات انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الكثيفة إلى أماكن أخرى. وينبغي أن تستكشف الأبحاث المستقبلية الآثار المحتملة لتعديل القوانين على تبديل السلوكيات الراسخة محلياً وفي الدول الأجنبية.