تقرير خاص

القائد كمهندس للثقافة المؤسسية: كيف يصنع السلوك المؤسسي نجاح الاستراتيجية؟

5 دقيقة
القائد كمهندس للثقافة المؤسسية
shutterstock.com/MR SOCCER

ملخص: يقال: "إن الثقافة المؤسسية تتناول الاستراتيجية على فطور صباحي"، وهي عبارة كثيراً ما نسمعها، لكن قلة من يتوقف عند معناها العميق. من بين جميع المواضيع التي يتناولها القادة، تظل الثقافة المؤسسية من أكثرها تعقيداً فهماً وإدارة؛ فهي غير ملموسة، لكنها تتحكم بكل ما هو ملموس: في جودة القرارات، وطريقة التواصل، واستعداد الأفراد للتغيير، وحتى كيفية تعاملهم مع الخطأ. لقد أدرك عالم النفس والسلوك المؤسسي إدغار شاين هذه الحقيقة منذ عقود، حين وصف الثقافة المؤسسية بأنها "الأنماط العميقة من الافتراضات والمعتقدات التي يتبناها الأفراد وتوجه سلوكهم دون وعي". في كتابه المرجعي الشهير "الثقافة المؤسسية والقيادة"، يقدم شاين نموذجاً ثلاثي الطبقات للثقافة:

  1. الرموز الظاهرة: هي ما يراه الزائر فور دخوله المؤسسة وتعطيه الانطباع الأول عن بيئتها، مثل أسلوب الاجتماعات، ولغة التخاطب بين الزملاء، وغير ذلك.
  2. القيم المعلنة: تمثل مجموعة المبادئ والأفكار التي تعلنها المؤسسة وتحرص على إظهارها، مثل الإبداع والنزاهة والتعاون، لكنها لا تعبر بالضرورة عما يجري فعلياً على أرض الواقع.
  3. الافتراضات العميقة: هي نظام التشغيل الخفي الذي يوجه كل تصرف في المؤسسة، وهي ثقافة المنظومة. فهي القناعات غير المعلنة التي يتصرف الأفراد على أساسها دون وعي، مثل: هل يسمح بارتكاب الأخطاء من أجل التعلم أم يعاقب من يخطئ؟

يقال: "إن الثقافة المؤسسية تتناول الاستراتيجية على فطور صباحي"، وهي عبارة كثيراً ما نسمعها، لكن قلة من يتوقف عند معناها العميق. فبينما تأخذ المؤسسات وقتاً وجهداً لصياغة خططها واستراتيجياتها، تغفل عن القوة الخفية التي تحكم تنفيذ تلك الاستراتيجيات: الثقافة المؤسسية.

الثقافة ليست كلمات مكتوبة على الجدران، بل هي السلوك الجمعي الذي يتكرر كل يوم داخل المؤسسة. وهي في الوقت نفسه أكثر ما يصعب قياسه وإدارته، لكنها أيضاً أكثر ما يحدد النجاح أو الفشل.

القائد الحقيقي لا يترك الثقافة لتتكون بالصدفة، بل يصممها بوعي تام كما يصمم المهندس مخطط المبنى الذي يريد تشييده.

الثقافة المؤسسية: أكثر الموضوعات صعوبة وعمقاً

من بين جميع الموضوعات التي يتناولها القادة، تظل الثقافة المؤسسية من أكثرها تعقيداً فهماً وإدارة؛ فهي غير ملموسة، لكنها تتحكم بكل ما هو ملموس: في جودة القرارات، وطريقة التواصل، واستعداد الأفراد للتغيير، وحتى كيفية تعاملهم مع الخطأ.

لقد أدرك عالم النفس والسلوك المؤسسي إدغار شاين هذه الحقيقة منذ عقود، حين وصف الثقافة المؤسسية بأنها "الأنماط العميقة من الافتراضات والمعتقدات التي يتبناها الأفراد وتوجه سلوكهم دون وعي".

في كتابه المرجعي الشهير "الثقافة المؤسسية والقيادة"، يقدم شاين نموذجاً ثلاثي الطبقات للثقافة:

  1. الرموز الظاهرة: هي ما يراه الزائر فور دخوله المؤسسة وتعطيه الانطباع الأول عن بيئتها، مثل أسلوب الاجتماعات، ولغة التخاطب بين الزملاء، وغير ذلك.
  2. القيم المعلنة: تمثل مجموعة المبادئ والأفكار التي تعلنها المؤسسة وتحرص على إظهارها، مثل الإبداع والنزاهة والتعاون، لكنها لا تعبر بالضرورة عما يجري فعلياً على أرض الواقع.
  3. الافتراضات العميقة: هي نظام التشغيل الخفي الذي يوجه كل تصرف في المؤسسة، وهي ثقافة المنظومة. فهي القناعات غير المعلنة التي يتصرف الأفراد على أساسها دون وعي، مثل: هل يسمح بارتكاب الأخطاء من أجل التعلم أم يعاقب من يخطئ؟

هذا الكتاب ليس مجرد مرجع أكاديمي، بل هو دليل لا غنى لأي قائد أو رئيس تنفيذي عنه؛ لأنه يكشف العلاقة الحقيقية بين القيادة والثقافة. فالقائد هو من يخلق الثقافة ويغذيها ويعيد تشكيلها من خلال قراراته اليومية وسلوكه الشخصي.

وقد أشار الكاتب دانيال كويل في كتابه "شفرة الثقافة: أسرار المجموعات الناجحة للغاية" إلى أن الثقافة الناجحة لا تبنى من خلال الشعارات، بل من خلال ثلاث ممارسات جوهرية، وهي: خلق الأمان، والمكاشفة الصادقة، وتحديد الغاية المشتركة. وهي الممارسات نفسها التي تحول القادة من ناقلين للاستراتيجية إلى مهندسين لثقافة الثقة والتكامل داخل فرقهم.

وكما يؤكد غريغ لاين في كتابه "الثقافة على المسار: دليل عملي لمواءمة الثقافة المؤسسية مع الاستراتيجية وتحويل الإدارة إلى قيادة"، فإن الثقافة ليست نتيجة للاستراتيجية، بل هي الإطار الذي يسمح لها بأن تحيا وتتحقق. ومن دون ثقافة داعمة، تبقى الاستراتيجية فكرة أنيقة على الورق، لكنها بلا روح ولا أثر.

القائد كمهندس للثقافة

إن جوهر دور القائد يتمثل في أن يكون مهندساً للثقافة قبل أن يكون مخططاً للاستراتيجية. فالهندسة الثقافية لا تعني بناء الهياكل، بل تشكيل السلوك الجمعي وتوجيهه نحو تحقيق رؤية المؤسسة.
والقائد الواعي يدرك أن الثقافة لا يمكن فرضها، بل يحتذى بها. فالثقافة تتكون عندما يرى الموظفون أن ما يقوله القائد وما يفعله متسق تماماً.

وعليه، تتطلب الهندسة الثقافية أربع مراحل أساسية:

المرحلةالعنوان التنفيذيالتوصيف العملي
1. التصميمتحديد البوصلة الثقافية: الربط بين القيم والسلوكيات المهمة.تتمثل هذه المرحلة في التفكير الواعي والمسبق لتحديد الجدارات السلوكية المطلوبة لتنفيذ الخطة الاستراتيجية بنجاح. لا يكفي تحديد القيم الأساسية؛ بل يجب تعريفها بسلوكيات قابلة للقياس والملاحظة. يتمحور التصميم حول الإجابة على السؤال: "ما هي الطريقة التي يجب أن نعمل بها لنحقق أهدافنا؟" ومن ثم، ربط كل هدف استراتيجي بقيمة ثقافية واضحة تدعمه.
2. النمذجةالقدوة كأداة للتحول: تجسيد القائد للثقافة المطلوبة.هذه هي المرحلة الأكثر أهمية في بناء المصداقية. على القائد أن يكون المجسد الأول والأكثر وضوحاً للقيم المصممة. تتجسد النمذجة في إرسال إشارات سلوكية ثابتة وشفافة في المداولات اليومية، وكيفية التعامل مع الأخطاء، وإدارة الأزمات. إن التزام القائد بمشاركة المعلومات والاعتراف بالفشل (حينما يكون ذلك ضرورياً) هو الذي يحول الثقافة من مبادئ معلنة إلى حقيقة مُعاشة.
3. التكرارتضمين الثقافة في النظم التشغيلية: مكافأة السلوكيات وتعزيزها.تركز هذه المرحلة على دمج السلوكيات الثقافية في الدورة التشغيلية للمنظمة. يجب تعديل نظم المكافآت والتقدير والتوظيف وتقييم الأداء لتصبح "مكررات للثقافة". على سبيل المثال، يجب أن ترتبط نسبة من تقييم الأداء بـكيفية تحقيق الموظف للأهداف (مدى التزامه بالقيم)، وليس فقط بتحقيق الأهداف بحد ذاتها. يضمن التكرار أن تصبح الثقافة هي الطريقة الافتراضية للعمل.
4. المأسسةالتحصين المؤسسي: دمج الثقافة في السياسات وآليات القرار.تُعنى هذه المرحلة بضمان استدامة الثقافة وتحويلها إلى مكون مؤسسي دائم ومستقل عن الأشخاص. يتم ذلك من خلال دمج الثقافة في الأطر الرسمية للمنظمة: السياسات، الإجراءات، وآليات صنع القرار. الثقافة تضمن أن قيم المنظمة هي معايير أساسية في الموافقة على الميزانيات أو التوسع أو التغيير، ما يحصنها من التغييرات القيادية ويضمن بقاءها كقوة دافعة استراتيجية.

قياس نضج الثقافة المؤسسية

قد يتساءل القادة: كيف نعرف أن ثقافتنا تتطور بالاتجاه الصحيح؟

الخطوة الأولى هي القياس المنتظم لنضج الثقافة؛ فهو ما يحول الفكرة إلى ممارسة. ويمكن للقادة استخدام استبيان داخلي مبسط يقيس ثلاثة أبعاد رئيسية:

  1. وضوح القيم والسلوكيات المتوقعة (هل يفهمها الجميع؟)
  2. مدى تجسيد القادة لهذه القيم وظهورها في لغتهم المحكية (هل تحكى في تواصلهم وترى في سلوكهم اليومي؟)
  3. مدى انعكاس الثقافة في القرارات والأنظمة (هل تكافأ السلوكيات الإيجابية؟)

ولمن يبحث عن أطر أكثر نضجاً، يمكن الاستعانة بنماذج عالمية أثبتت فعاليتها في قياس الثقافة المؤسسية، مثل:

  • نموذج دينسون (Denison Culture Model)، الذي يربط بين الثقافة والأداء المؤسسي من خلال أربعة أبعاد: المهمة، والانتماء، والاتساق، والتكيف.
  • أو نموذج الصحة المؤسسية لماكينزي (McKinsey Organizational Health Index)، الذي يقيس مدى حيوية المنظومة من خلال تسعة أبعاد تشمل القيادة، والمساءلة، والقدرة على التعلم.

إن تطبيق مثل هذه الأدوات -ولو بصورة مبسطة- يساعد القادة على تحويل الثقافة من مفهوم معنوي إلى مؤشر قيادي يمكن متابعته وتطويره على نحو منهجي.

الثقافة المؤسسية هي ثقافة الرئيس التنفيذي

من أجمل التعريفات التي قرأتها عن الثقافة المؤسسية هي أنها ببساطة "ثقافة الرئيس التنفيذي". لقد لاحظت كيف يمكن لتصرفات بسيطة من الرئيس التنفيذي -مثل طريقة الاستماع أو احترام الوقت، أو حتى سرعته في الرد على الرسائل الإلكترونية وتوقعه الأسلوب نفسه- أن تغير ديناميكيات المؤسسة بأكملها.

وأذكر أنني حضرت مقابلة لأحد القادة ختمها بقوله: "أنا الرئيس التنفيذي للثقافة"، وهذه العبارة تختزل جوهر القيادة الواعية؛ فالقائد ليس مسؤولاً عن النتائج فقط، بل عن البيئة التي تخلق هذه النتائج.

إن أي سلوك يصدر عن الرئيس التنفيذي، سواء كان صحيحاً أو خاطئاً، إيجابياً أو سلبياً، يترسب في المنظومة ويتحول إلى قاعدة غير مكتوبة ويدخل فيما نسميه "المعيار الضمني للسلوكيات المقبولة". إن تأثير الرئيس التنفيذي مركز للغاية، بل إن سلوكياته تتفاعل فيما بينها لتشكل ما يمكن أن نسميه "ثقافات فرعية" تدخل في صلب نسيج الثقافة المؤسسية العامة.

هذا التأثير لا يقتصر عليه وحده، بل يمتد إلى الصف الثاني من القادة الذين يعكسون سلوكياته ويضيفون إليها، ولكن بتأثير أقل تركيزاً. فالثقافة تنتقل بعدوى السلوك لا بتعميم القيم ونشرها. لذلك يحتاج الرئيس التنفيذي والقادة الميدانيون إلى اتساق سلوكي يمنع التناقض بين الوحدات المؤسسية.

دورة حياة الاستراتيجية ودورة التحول المؤسسي

قبل وضع الخطة والبدء بتنفيذها، تحتاج أي مؤسسة إلى التحضير لتنفيذ الاستراتيجية من خلال وضع خطة التحول الاستراتيجي التي تعد الجسر بين الرؤية والتنفيذ، وتشمل بطبيعتها التهيئة المؤسسية والثقافية.

فالثقافة ليست ناتجاً ثانوياً للتخطيط، بل عنصراً أصيلاً في نجاح التنفيذ. ودون هندسة واعية للبيئة المؤسسية، تبقى الاستراتيجية حبراً على ورق مهما بلغت دقتها التحليلية.

وهذا ما اعتمدناه في الجمعية الدولية لمحترفي الاستراتيجية مع نخبة من الخبراء العالميين في مجال الاستراتيجية، في سبيل تطوير دليل الجدارات لبرنامج الشهادات المهنية في الجمعية.

القائد الواعي في عصر الرؤية

منذ بدايات رؤية 2030، وفي إحدى مقابلات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، برز هذا الفهم العميق، حين أكد أن نجاح الرؤية يعتمد على كفاءة القيادة وقدرتها على بناء فرق عمل قادرة على التغيير.

هذا الإدراك المبكر من أعلى هرم القيادة يجسد جوهر الفكرة التي نناقشها هنا: التحول الوطني لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال قيادات تمتلك الوعي والقدرة على هندسة ثقافة المؤسسة بما يضمن استدامة الأداء وتماسك القيم المؤسسية.

القائد في هذا العصر مطالب بأن يكون مهندساً للثقافة؛ يبنيها بالقدوة والتواصل المستمر بعناية، ويقيسها بالأثر، ويغذيها بالثقة والتقدير. فالثقافة القوية لا تفرض، بل تحتضن وتنمى.

لقد علمنا إدغار شاين أن الثقافة تبدأ بالقائد وتنتهي به، وعلمنا دانيال كويل أن الثقة والمكاشفة الصادقة والغاية المشتركة هي ركائز الثقافة الناجحة، وعلمنا غريغ لاين أن الثقافة هي الإطار الذي تعيش فيه الاستراتيجية وتتحقق، وعلمنا مجتمع الاستراتيجيين أن الثقافة الواعية يجب هندستها وتخطيطها، وهي تقاس مثل أي مؤشر أداء.

ختاماً، الثقافة المؤسسية ليست قضية "لطيفة" تترك لإدارة الموارد البشرية، بل هي المحرك الخفي لكل استراتيجية ناجحة. إنها الميدان الذي يختبر فيه القائد وعيه، وصدق نيته، واتساق سلوكه.

الاستراتيجية تكتب في الاجتماعات، لكن الثقافة تختبر في الممرات.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي