كيف تزيد الدول جاذبيتها للتمويل الجماعي؟ دروس من مجموعة العشرين

4 دقيقة
shutterstock.com/Andrii Yalanskyi

تطور التمويل الجماعي خلال العقد الأخير من أداة تجريبية إلى آلية استراتيجية في الاقتصاد الرقمي، لكن هذا النوع من التمويل يسجل انتشاراً محدوداً في المنطقة العربية نظراً لعوامل ترتبط بقلة الوعي والثقة بمنصات التمويل الجماعي، والميل إلى وسائل تمويل تقليدية قليلة المخاطر، با…

قبل 10 سنوات فقط، كان ينظر إلى التمويل الجماعي على أنه أداة تجريبية محدودة التأثير. أما اليوم، فقد أصبح إحدى أكثر آليات التمويل تحولاً في العصر الرقمي، وتمتد أهميته إلى ما هو أبعد من جمع الأموال، ليمثل أداة قوية للتحقق من جدوى السوق، وبناء المجتمع، وتقليل المخاطر.

على عكس التمويل التقليدي، الذي يعتمد على مصادر مؤسسية مفردة، يتيح التمويل الجماعي لرواد الأعمال الوصول إلى رأس مال غير محدود من خلال مساهمات صغيرة من جمهور متنوع. هذا التمكين يسمح للأفراد الذين يفتقرون إلى الضمانات أو السجلات الائتمانية بالحصول على التمويل اللازم، ما يعزز الابتكار والنمو الاقتصادي خصوصاً في الأسواق المهمشة.

ويوفر التمويل الجماعي نماذج تمويل بديلة ومهمة لرواد الأعمال عندما تكون المصادر التقليدية، مثل البنوك أو رأس المال المغامر محدودة. ومن أهم هذه النماذج، التمويل الجماعي بالأسهم، الذي يمكن رواد الأعمال من جمع التمويل عبر منصات إلكترونية من عدد كبير من المستثمرين مقابل حصص ملكية في الشركة، ومن المتوقع أن ينمو هذا التمويل من 1.45 مليار دولار في عام 2024 إلى 5.43 مليارات دولار بحلول عام 2033.

توسعت سوق التمويل الجماعي من 17.7 مليار دولار في عام 2024 إلى 20.4 مليار دولار متوقعة في عام 2025، ما يمثل معدل نمو سنوي مركب بنسبة 15.5%. وبحلول عام 2029، من المتوقع أن يصل حجم السوق إلى 38.71 مليار دولار، ما يعكس معدل نمو سنوي مركب مستدام بنسبة 17.3%.

لكن هذا النمو لا يحدث في كل مكان، فبعض الدول أصبحت مراكز جاذبة للتمويل الجماعي، في حين ظلت أخرى بعيدة عن الركب. فما الذي يفسر هذا التباين؟

تحديات تبني ثقافة التمويل الجماعي 

في الوقت الذي تتصدر فيه الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا هذا المجال، تعاني دول أخرى بطئاً في التبني على الرغم من حاجتها الملحة إلى بدائل تمويل مبتكرة، إذ تشير دراسات حديثة إلى أن قلة انتشار ثقافة التمويل الجماعي في المملكة العربية السعودية والمنطقة العربية تعود إلى مزيج من عوامل ثقافية واقتصادية وتنظيمية. على المستويين الثقافي والاجتماعي، لا يزال الوعي بهذه الآلية التمويلية ضعيفاً، إذ أظهر أحد التقارير أن الوعي بها لا يزال في مراحله الأولى ويحتاج إلى مبادرات توعية مكثفة. بالإضافة إلى ذلك، وجد بحث أن مستوى الثقة المتصورة في المنصة والمخاطر المتصورة منها هما من أهم العوامل التي تحدد تقبل الأفراد للتمويل الجماعي.

أما من الناحية الاقتصادية، فغالباً ما يفضل المستثمرون وسائل التمويل التقليدية، مثل القروض البنكية أو التمويل الجماعي بالدين على تمويل الأسهم، نظراً لأنها توفر عائداً أسرع ومخاطر أقل. وعلى الصعيد التنظيمي، كانت التشريعات المتخصصة بالتمويل الجماعي حديثة النشأة في معظم الدول العربية، ما أدى إلى الحذر من التعامل مع منصات غير منظمة على نحو واضح. وقد أشار تقرير إلى أن غياب إطار قانوني واضح يضعف ثقة المستثمرين ويحول دون انتشار المنصات الرقمية للتمويل الجماعي.

ولتجاوز هذه التحديات، يمكن اتباع ما يلي:

  • تكثيف حملات التوعية والتثقيف المالي من خلال ورش وبرامج تدريبية تسلط الضوء على آليات التمويل الجماعي وفوائده وكيفية استخدامه.
  • تقديم دعم حكومي ملموس من خلال إصدار تشريعات مرنة وحوافز، مثل الإعفاءات أو التمويلات الميسرة للمشاريع الممولة جماعياً، مع إشراف رسمي على المنصات بما يضمن الشفافية وحماية المستثمرين.
  • صياغة قوانين خاصة بالتمويل الجماعي لتعزيز الثقة العامة، إذ إن حوكمة هذا النشاط تنظيمياً تحمي الممولين وتشجع على المشاركة بفعالية في هذه المنصات الرقمية.

يثير التفاوت في تبني ثقافة التمويل الجماعي والتحديات المرتبطة به سؤالاً جوهرياً: كيف يمكن قياس جاذبية دولة ما للتمويل الجماعي بالأسهم؟

مؤشر جاذبية التمويل الجماعي

طورت في دراستي الأخيرة: "تقييم جاذبية التمويل الجماعي للأسهم: أدلة من مجموعة العشرين"، مؤشر جاذبية التمويل الجماعي. وهو أول مؤشر شامل يدمج 16 عنصراً موزعة على 6 ممكنات هيكلية:

  1. الظروف الاقتصادية: الناتج المحلي، وتدفق الاستثمار الأجنبي، ومعدل البطالة.
  2. عمق أسواق المال: عبر نشاط الطروحات العامة، والاندماجات والاستحواذات، وحجم السوق.
  3. البيئة التنظيمية: جودة اللوائح، وقوة المؤسسات، ومستويات الشفافية.
  4. القدرة على الابتكار: حجم الإنفاق على البحث والتطوير ومخرجات الابتكار.
  5. البنية التحتية الرقمية: انتشار الإنترنت ومستوى الأمن السيبراني.
  6. الشمول المالي: امتلاك الحسابات المصرفية، واستخدام المدفوعات الرقمية، والحصول على الائتمان.

ما يميز هذا المؤشر هو أنه لا يقيس الحجم فقط، بل يركز على عوامل الثقة والتمكين التي تحدد قدرة السوق على احتضان التمويل الجماعي. ويوفر المؤشر أداة عملية لصناع القرار لتقييم الجاهزية، وتحديد الإصلاحات ذات الأولوية، وتوجيه الاستثمارات بفعالية.

من يتصدر ومن يتأخر؟

كشف تحليل بيانات دول مجموعة العشرين بين 2014 و2023 أن:

  • الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا حافظت على موقع الصدارة بفضل امتلاكها أسواقاً مالية متطورة، وبنية تحتية رقمية متينة، وشمولاً مالياً واسعاً.
  • كوريا الجنوبية قفزت إلى القمة مؤخراً بفضل "التحول الرقمي الجديد"، الذي عزز الابتكار والأمن السيبراني والشمول المالي.
  • كندا وألمانيا واليابان أظهرت أداءً مستقراً في المراتب العليا.
  • الاقتصادات المتوسطة الدخل، مثل الصين والبرازيل والمكسيك وتركيا، تمركزت في الوسط. على الرغم من امتلاكها أسواقاً كبيرة، لكن ضعف الشفافية واللوائح حد من جاذبيتها.
  • أما الاقتصادات المنخفضة الدخل والمتوسطة الدخل، مثل الهند وإندونيسيا وجنوب إفريقيا، فقد بقيت في المراتب الأخيرة على الرغم من التحسن التدريجي في الشمول المالي.

المفاجأة أن النتائج كشفت عن جوانب أهم من الجانب الاقتصادي، فالمؤشرات المرتبطة بسلوك الأفراد ومستوى ثقتهم كانت أكثر تأثيراً من مؤشرات الابتكار وعمق السوق وفرص الخروج. على سبيل المثال، أدى انخفاض معدل البطالة دوراً أكبر من الناتج المحلي الإجمالي، وبرز الشمول المالي ضمن أهم المحددات لنجاح التمويل الجماعي، بالإضافة إلى أن أهمية الأمن السيبراني والثقة الرقمية ازدادت على نحو لافت بعد عام 2020، مع تزايد المخاطر الإلكترونية.

الرسالة هنا هي أن التمويل الجماعي لا يزدهر فقط في الاقتصادات الكبرى، بل في البيئات التي يشعر فيها الأفراد بالثقة والقدرة على المشاركة. لكن ماذا يعني هذا للمدراء والمستثمرين؟

الثقة الرقمية هي رأس المال الحقيقي

دون أمن سيبراني وبنية تحتية موثوقة، لن يضع المستثمرون أموالهم في منصات التمويل الجماعي، حتى لو كان الاقتصاد ضخماً.

الشمول المالي يحدد حجم السوق

زيادة نسبة الأفراد الذين يملكون حسابات مصرفية ويستخدمون المدفوعات الرقمية تفتح الباب أمام مشاركة أوسع، وتزيد من فرص نجاح الحملات.

الإصلاحات المستهدفة تغير قواعد اللعبة

تبرهن تجربة كوريا الجنوبية أن السياسات الذكية قادرة على نقل دولة من منتصف الترتيب إلى القمة في غضون سنوات قليلة.

المؤشر كأداة استشرافية

يمكن للمستثمرين استخدام المؤشر لاختيار أسواق واعدة مبكراً، خصوصاً تلك التي تظهر تحسناً سريعاً في بعض الممكنات الهيكلية، حتى قبل نمو حجم التمويل الجماعي نمواً ملحوظاً.

الخلاصة أن التمويل الجماعي بالأسهم ليس مجرد قناة تمويلية إضافية، بل هو أداة استراتيجية لإطلاق طاقات ريادة الأعمال وتعزيز الابتكار، لكن نجاحه لا يعتمد على حجم الاقتصاد وحده، بل على مزيج من الثقة الرقمية والشمول المالي والبيئة التنظيمية.

من خلال مؤشر جاذبية التمويل الجماعي، بات لدى الدول والمستثمرين "بوصلة" واضحة، فهو أداة قوية تساعد الدول على تشخيص الفجوات، وتقييم مستوى الجاهزية، ورسم خريطة طريق للإصلاح، وتحديد الأولويات، ووسيلة فعالة تمكن المستثمرين من اختيار الأسواق الواعدة مبكراً، وتوجيه الاستثمارات بفعالية نحو البيئات الأكثر استعداداً للنمو.

الدرس الأبرز من تجارب مجموعة العشرين أن الإصلاحات المستهدفة يمكن أن تغير موقع دولة عالمياً خلال أقل من عقد واحد. وهذا ما يجعل التمويل الجماعي فرصة استراتيجية يجب استغلالها.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي