ملخص: لا يعد الاستثمار في صحة الحيوان رفاهية، بل ضرورة استراتيجية لتحقيق الأمن الغذائي والاستدامة الاقتصادية في ظل ضغوط الموارد والتغير المناخي. وفي بيئة مثل المملكة العربية السعودية، حيث المياه شحيحة والأراضي الزراعية محدودة، تتحول صحة الحيوان إلى ركيزة أساسية في الاستدامة الاقتصادية، ومن هنا تبنت السعودية مجموعة من الحلول المبتكرة التي تعكس تحول استراتيجي نحو نموذج لإدارة صحة الثروة الحيوانية بفعالية، من خلال:
- إطلاق تطبيق يجمع بين الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء وتقنيات السحابة لتقديم إدارة قائمة على البيانات البيومترية الدقيقة.
- بناء مختبر إقليمي بالرياض لإنتاج لقاحات بيطرية مخصصة للسلالات المحلية، بهدف القضاء على الأمراض المتوطنة وتقليل الاعتماد على الاستيراد.
- تمكين المجتمعات الريفية عبر نماذج الدعم البيطري الميداني في المناطق النائية مثل جازان والحدود الشمالية.
- إنشاء مراكز لمكافحة الأمراض الحيوانية وإطلاق منظومة تنبؤية متقدمة قادرة على توقع تفشي الأمراض الحيوانية قبل حدوثها بستة أشهر، بناءً على تحليل بيانات بيئية وصحية.
- توظيف الروبوتات وأجهزة الاستشعار الذكية لتحسين الرعاية الحيوانية.
- تكريس مفهوم الأمن الحيوي في الزراعة، من خلال دليل رسمي يطبق في منشآت الثروة الحيوانية.
في مواجهة التحديات التقليدية مثل ندرة المياه والممارسات الزراعية غير الفعالة وتعقيدات إدارة الأمراض، تقود الحلول التكنولوجية المتطورة ثورة في إدارة صحة الحيوان. من خلال استثمارات ضخمة في الذكاء الاصطناعي وتطبيقات إنترنت الأشياء والبنى التحتية المخبرية المتقدمة وأنظمة المراقبة الوبائية الشاملة، تبين المملكة العربية السعودية كيف يمكن للتكنولوجيا تحويل تربية الحيوانات التقليدية إلى صناعة متطورة تعتمد على البيانات قادرة على ضمان الرفاهية الحيوانية والاستدامة الاقتصادية.
الأهمية الحاسمة لصحة الحيوان في الاستدامة الزراعية
في بيئة تتسم بندرة المياه وقلة الأراضي الصالحة للزراعة، تصبح الإدارة الفعالة للصحة الحيوانية ركيزة أساسية في الاقتصاد الزراعي بما يضمن استقرار الإمدادات الغذائية، ومنع انتقال الأمراض الحيوانية المنشأ، وتحسين المستوى المعيشي للمزارعين.
وفي المملكة العربية السعودية، تسهم الثروة الحيوانية بنحو 43% من الإنتاج الزراعي الإجمالي، وبحسب بيانات الهيئة العامة للإحصاء لعام 2023، سجلت مزارع المملكة 29.4 مليون رأس غنم، و2.2 مليون رأس إبل، و7.4 مليون رأس ماعز، و234 ألف بقرة حلوب، لكن معظم المربين يديرون هذه المزارع باستخدام ممارسات تقليدية، إذ شكلت تحديات انخفاض كفاءة الإنتاج ونقص العمالة عوائق أمام الإدارة المثلى لصحة الحيوان. ما دفع المملكة إلى تطوير حلول تكنولوجية شاملة تعالج المخاطر الصحية المباشرة وتسهم في تحقيق أهداف الاستدامة طويلة المدى، مع الأخذ في الاعتبار تكامل أنظمة الإدارة الصحية البيطرية الحديثة إذ يمكن أن تؤدي الممارسات الصحية البيطرية السيئة إلى مقاومة مضادات الميكروبات، والتلوث البيئي، وخلل اقتصادي كبير عبر سلسلة القيمة الزراعية.
والعكس صحيح، يمكن أن تؤدي الممارسات السليمة إلى استخدام أكثر كفاءة للأعلاف والموارد، وإلى نظام غذائي أكثر استدامة لتتحول إلى "مكسب ثلاثي" يفيد كلاً من المزارعين والمستهلكين والبيئة.
الابتكارات التكنولوجية في إدارة صحة الثروة الحيوانية
تكامل إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي
يمثل تطبيق "سمارت فلوك السعودية" نقلة نوعية من الأساليب الزراعية التقليدية إلى الإدارة المعتمدة على البيانات، وقد طورته وزارة البيئة والمياه والزراعة بالتعاون مع برنامج التنمية الزراعية الريفية المستدامة (ريف)، وبالاستفادة من إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي وتقنيات السحابة الإلكترونية المصممة خصيصاً للظروف الزراعية السعودية.
يقدم نظام التعرف المتقدم على الحيوانات في التطبيق خيارات متطورة تلائم متطلبات المزارع المتنوعة، حيث يستخدم التعرف القائم على القياسات الحيوية تقنية البصمات لتحديد الهوية البيومترية، والتتبع باستخدام شرائح تحديد الهوية بموجات الراديو اللاسلكية (آر إف آي دي)، والتنبيهات الذكية للتطورات الصحية والتكاثرية، إلى جانب إدارة الأعلاف وإصدار الشهادات الصحية آلياً، ما يعزز من الإنتاجية وتتبع الثروة الحيوانية للكشف المبكر عن الأمراض والإدارة الصحية.
ومن جهة أخرى، يشهد اعتماد تقنيات إنترنت الأشياء على نطاق أوسع في الزراعة السعودية نمواً ملحوظاً مقارنة بالسنوات السابقة، لتمكين المزارعين من مراقبة المحاصيل والثروة الحيوانية بفعالية أكبر مع خفض التكاليف وتحسين الغلات. تسهل هذه التقنيات جمع البيانات الفورية عن رطوبة التربة ودرجة الحرارة وصحة الحيوان، لتشكل ملفات بيئية وبيولوجية شاملة تدعم عمليات صنع القرار القائمة على الأدلة.
البنية التحتية المخبرية المتقدمة وتطوير اللقاحات
استثمرت السعودية ما يتجاوز 175 مليون ريال (46.6 مليون دولار) في بناء مختبر إقليمي في الرياض لإنتاج لقاحات بيطرية تستهدف سلالات الأمراض المحلية، ومعالجة الأمراض النادرة في البيئة الشرق أوسطية، حيث يطور العلماء لقاحات سعودية خاصة من السلالات الميكروبية المحلية، توفر استجابات مناعية متفوقة على اللقاحات العالمية.
يعزز نهج توطين اللقاحات البيطرية القدرة على السيطرة والقضاء على الأمراض المحلية مع حماية القطيع من التهديدات الناشئة. ويمثل هذا الاستثمار التزاماً طويل الأمد ببناء القدرات البحثية البيطرية المحلية مع تقليل الاعتماد على اللقاحات والخدمات التشخيصية المستوردة.
تمكين المجتمعات الريفية
تبنت المملكة نموذجاً ميدانياً لخدمات المزارع في المناطق النائية مثل جازان والحدود الشمالية، بهدف دعم صغار المزارعين والرعاة عبر فرق من الفنيين المدربين لتقديم خدمات إدارة الصحة الإنجابية، والتطعيمات الوقائية، وتحسين مساكن الحيوانات، وتوفير أدوات حديثة للإشراف على الصحة الحيوانية.
أدى هذا النموذج إلى تحسين مؤشرات الإنتاج، مثل رفع معدل الولادات إلى 0.9 حمل سنوياً لكل نعجة، ما ساهم في تحسين إنتاجية الثروة الحيوانية وزيادة دخل المزارعين.
تساعد مثل هذه النماذج على تعزيز استدامة سبل عيش المربين، ويمكن تكرارها لتوسيع المجتمعات الريفية والنهوض بها، وخلق فرص عمل للشباب المحليين كمقدمي خدمات.
أنظمة المراقبة الوبائية الشاملة
تتطلب الإدارة الفعالة للصحة الحيوانية بنية تحتية حاسمة لحوكمة الأمراض الحيوانية مع ضمان قدرات الاستجابة السريعة للتهديدات الصحية الناشئة. وعليه أطلقت المملكة نماذج للتنبؤ بتفشي الأمراض الحيوانية قبل وقوعها بستة أشهر، تستخدم لتوجيه حملات التلقيح والتنظيم الاستباقي لتحركات الحيوانات، ما يقلل من تأثير الأوبئة على قطاع الثروة الحيوانية.
وتم إنشاء وتطوير 13 مركزاً لمكافحة الأمراض الحيوانية في جميع مناطق المملكة، حيث تقوم هذه المراكز بمراقبة الأوبئة، وتفعيل الإنذارات المبكرة، وتطبيق خطط الاستجابة السريعة، ما يعزز من قدرة المملكة على احتواء الأمراض الحيوانية.
ترصد المنظومة على نحو خاص الأمراض حيوانية المنشأ مثل الحمى القلاعية، والبروسيلا، وحمى غرب النيل، وداء الكلب، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية، وإنفلونزا الطيور، وحمى الوادي المتصدع، كما تتكامل هذه المنظومة مع نظام الإبلاغ الأسبوعي لمنظمة الصحة العالمية، ما يضمن الشفافية والتوافق مع المعايير الدولية.
الروبوتات وأجهزة الاستشعار الذكية في تربية الحيوانات
يعد الاعتماد على الأدوات الذكية ثورة في الزراعة، ويحولها إلى بيئة رقمية تدار بالمعلومات لا بالخبرات المتوارثة فقط. لذا تستخدم المملكة أنظمة روبوتية متقدمة مزودة بأجهزة استشعار لمراقبة المؤشرات الحيوية مثل درجة الحرارة والنشاط الحركي ومعدلات التغذية، ما يساعد في الكشف المبكر عن الأمراض وتحسين كفاءة التغذية.
تعزيز الأمن الحيوي
يسهم دمج تدابير الأمن الحيوي الزراعي مع ممارسات الاستدامة البيئية في تعزيز سلامة الأغذية، ويؤدي التكامل بين التقنيات المتطورة، والمشاركة الفعالة لأصحاب المصلحة، واستراتيجيات التكيف مع تغير المناخ، دوراً محورياً في تطوير نظم زراعية مرنة.
وأحرزت المملكة تقدماً في مجال الأمن الحيوي الزراعي باستخدام التقنيات المبتكرة، من أدوات الزراعة الدقيقة إلى أنظمة الكشف عن الآفات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وكذلك بالتوعية والتدريب، حيث أطلقت "دليل الأمن الحيوي في منشآت الثروة الحيوانية" الذي يقدم إرشادات تساعد على الحد من الأمراض المشتركة وتحسين معايير الإنتاج والحفاظ على صحة الإنسان والحيوان على حدٍ سواء. بالإضافة إلى تنظيم دورات تدريبية للأطباء البيطريين حول الاستخدام الرشيد للمضادات الحيوية.
يمثل النهج الشامل لإدارة صحة الحيوان في السعودية نموذجاً للتحول الزراعي في المناطق الجافة عالمياً، إذ يشكل تكامل التطبيقات الجوالة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، وأنظمة مراقبة إنترنت الأشياء، والبنى التحتية المخبرية المتقدمة، والمراقبة الوبائية المنظمة طبقات دفاع متعددة ضد تحديات الصحة الحيوانية.
مع تطور الممارسات الزراعية التقليدية عبر التحول الرقمي، يعكس التبني الاستراتيجي للتكنولوجيا في الحفاظ على صحة الحيوان إمكانية خلق أنظمة زراعية مرنة ومستدامة قادرة على مواجهة التحديات المستقبلية لضمان الأمن الغذائي مع الحفاظ على الجدوى الاقتصادية والرعاية البيئية، وتحقيق رؤية 2030.