أصبح الذكاء الاصطناعي مساعداً خفياً؛ إذ يحدث أثراً كبيراً وخفياً في الطرق التي نتبعها في البحث وتصفح الإنترنت والتسوق والعمل. يستخدم الكثيرون اليوم هذه التكنولوجيا لصياغة الرسائل الإلكترونية وتخصيص الملخصات في مواقع الإنترنت وتوجيه القرارات في مختلف المجالات، من التعليم والرعاية الصحية إلى أمكنة العمل. يثير دمج الشركات المتزايد للذكاء الاصطناعي في المنتجات والخدمات سؤالاً مهماً يتجاهله الكثيرون: "لماذا يتبنى البعض الذكاء الاصطناعي بحماس بينما يبدي البعض الآخر تردداً أكبر؟".
اكتشفنا في ورقة بحثية جديدة نشرتها مجلة التسويق في وقت سابق من عام 2025 نمطاً مفاجئاً، وهو أن احتمال تبني الأشخاص للذكاء الاصطناعي انخفض مع ازدياد معرفتهم به وفهمهم لآليات عمله. ظهر هذا النمط عندما دمجنا مجموعتين من البيانات، تقيس أولاهما درجة المعرفة بالذكاء الاصطناعي عبر البلدان (استناداً إلى "الموهبة في استخدام الذكاء الاصطناعي" التي قيمها خبراء شركة تورتواز ميديا)، بينما تقيس الثانية معدلات الاهتمام باستخدام الذكاء الاصطناعي على مستوى البلد (من شركة إبسوس). يميل الأشخاص في البلدان التي تتمتع بمعدل معرفة وسطي أقل بالذكاء الاصطناعي إلى الانفتاح أكثر على تبنيه مقارنة بالأشخاص في البلدان ذات مستويات المعرفة الأعلى. أجرينا بعد ذلك 6 دراسات إضافية شملت آلاف المشاركين في الولايات المتحدة، بمن فيهم طلاب جامعيون وعينات عبر الإنترنت ممثلة من حيث العمر والنوع الاجتماعي والعرق والتوزيع الإقليمي، ولاحظنا نتائج متسقة تبين أن انخفاض مستوى المعرفة بالذكاء الاصطناعي يرتبط بتقبل أكبر له.
اكتشفنا في دراساتنا أن الاهتمام الأكبر بالذكاء الاصطناعي ليس ناتجاً عن اعتقاد الأشخاص الأقل معرفة أنه يتمتع بقدرات كبيرة وأخلاقيات عالية، بل على العكس تماماً؛ إذ كانوا يحطون من قدراته وعبروا عن قلق أكبر تجاهه من الناحية الأخلاقية. مع ذلك، كان احتمال أن يكون الأشخاص الأقل معرفة قد استخدموا الذكاء الاصطناعي من قبل أكبر، كما ازداد اعتقادهم بضرورة استخدام الآخرين له.
ما الذي يفسر هذه النتيجة المفاجئة؟ يتعلق التفسير بتصور الناس للذكاء الاصطناعي، إذ يظن الأشخاص الأقل معرفة أن الذكاء الاصطناعي لديه قدرة سحرية ومذهلة، ما يغذي حماسهم لاستخدامه، في حين يفقد الذكاء الاصطناعي روعته بالنسبة لمن يفهمون آليات عمله (الخوارزميات والتدريب باستخدام البيانات والنماذج الحسابية). كما هي الحال عندما تكتشف أسرار الخدع السحرية، تزيل المعرفة بآليات عمل الذكاء الاصطناعي الدهشة، ويتلاشى معها الاهتمام باستخدامه.
تتسع فجوة الاهتمام باستخدام الذكاء الاصطناعي حين ينجز المهام التي نعتقد عادة أنها حكر على البشر، مثل كتابة قصيدة أو تأليف أغنية أو إلقاء نكتة أو تقديم المشورة. في هذه المجالات الإبداعية والعاطفية، يكون الأشخاص الأقل معرفة بالذكاء الاصطناعي أكثر ميلاً لاعتباره سحرياً والاعتماد عليه. لكن هذا النمط يختفي أو ينعكس تماماً حين يؤدي الذكاء الاصطناعي المهام الشديدة الاعتماد على المنطق، مثل إجراء الحسابات أو معالجة البيانات، التي تكون قدرته فيها بديهية ولا تبدو خارقة للطبيعة.
هذه النتيجة متناقضة مع الافتراض الأساسي حول تبني التكنولوجيا، الذي ينص على أن تبنيها يزداد بازدياد المعرفة بها. في الواقع، من المحتمل أن ينخفض الاهتمام بالمنتجات والخدمات المدارة بالذكاء الاصطناعي مع ازدياد المعرفة به.
على الرغم من أن البحث ركز على اهتمام المستهلكين بالذكاء الاصطناعي وتبنيهم له، فإن تحديد الأشخاص الذين يتبنونه وأسباب تبنيهم له يؤثر في مجموعة واسعة من القرارات التجارية، مثل استراتيجيات التبني في المؤسسات وتصميم المنتجات والتسويق. سنتحدث فيما يلي عن سبل الاستفادة من هذا:
قيم معرفة المدراء والموظفين بالذكاء الاصطناعي
مستوى المعرفة بالذكاء الاصطناعي هو عامل مؤثر محتمل في تبني المدراء والموظفين له؛ إذ إن انخفاض المعرفة قد يجعلهم أكثر انفتاحاً على استخدام الذكاء الاصطناعي في مجالات الأعمال، مثل التوظيف والمحاسبة وتصميم المنتجات والتسويق، حتى لو لم يكن الحل الأمثل. على النقيض من ذلك، قد يتمتع الأشخاص الأكثر معرفة بالذكاء الاصطناعي بفهم أعمق لهذه التكنولوجيا ونظرة أقل عاطفية له، ما قد يدفعهم إلى توخي درجة أعلى من الحذر فيما يتعلق باستخدامه، أو حتى عدم الاهتمام به أصلاً. لا يعود ذلك إلى أنهم يعتقدون أنه سيئ، بل لأنهم يشعرون بأنه أقل حداثة أو قدرة على إحداث تغيير جذري.
يستطيع المدراء التوصل إلى طريقة أكفأ لتبني الذكاء الاصطناعي تجنبهم كلاً من الحماس المفرط تجاهه والاستخدام القاصر له، وذلك من خلال تحديد مستوى معرفتهم ومعرفة فرقهم به. لذلك، طرحنا أداة مجانية مصممة لمساعدة القادة على تقييم مدى معرفتهم بالذكاء الاصطناعي وإبراز مواطن جهلهم قبل أن تؤثر في خيارات الشركات المهمة، مثل تحديد الاستراتيجية والتوظيف وتعزيز ثقة العميل. (تستخدم الأداة البيانات التي جمعناها لأغراض البحث الأكاديمي فقط، وهذه البيانات مجهولة الهوية بالكامل).
لا تفترض أن الموظفين أصحاب المهارة العالية في التكنولوجيا هم الأكثر تقبلاً لها
إذا كنت تصمم الأدوات المدارة بالذكاء الاصطناعي أو تسوقها، فيجب أن تتمهل وتفكر بعد الاطلاع على ما توصلت إليه دراساتنا؛ وهو أن الأشخاص في السوق المستهدفة الذين يتمتعون بمهارة عالية في استخدام التكنولوجيا، مثل الحاصلين على شهادات متعلقة بمجال الذكاء الاصطناعي، ليسوا الأكثر تقبلاً لها على الأرجح، في حين أن العملاء المستهدفين الأقل معرفة بالذكاء الاصطناعي قد يكونون الأكثر حماساً لتبنيه، خاصة في المجالات الإبداعية أو مجال التدريب.
خصص آليات التسويق وفقاً لمستوى معرفة الجمهور
لتخصيص الرسائل التسويقية على نحو فعال، يجب أن تقيم الشركات أولاً مستوى معرفة جمهورها بالذكاء الاصطناعي. تستطيع الشركات فعل ذلك من خلال الدراسات الاستقصائية أو المقابلات الشخصية أو المؤشرات السلوكية غير المباشرة (مثل عدد منتديات التكنولوجيا التي حضرها الأفراد وأنماط الاستخدام السابق للمنتج). تساعد الأدوات مثل أداتنا السابقة الذكر على قياس مستوى معرفة الجمهور بالذكاء الاصطناعي بسرعة وتقديم إرشادات بشأن تجزئة السوق.
لا شك في أن بعض حالات استخدام الذكاء الاصطناعي تلائم المستهلكين الملمين به أكثر، مثل مهندسي البرمجيات الذين يستخدمون نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي، مثل غيت هب أو كوبايلوت كورسر لكتابة الرموز البرمجية الأعلى جودة أو نموذج فيرتكس أيه آي من جوجل لتصميم وكلاء الذكاء الاصطناعي. إذا كان عملاؤك المستهدفون يتمتعون بمهارة عالية في استخدام الذكاء الاصطناعي، فلا تعتمد على عامل "الإبهار" لزيادة معدل تبنيهم لمنتجاتك، بل سلط الضوء على قدرة هذه المنتجات أو أدائها أو مدى توافقها مع القيم الأخلاقية. على النقيض من ذلك، إذا كان الجمهور المستهدف يتمتع بمهارة متوسطة وكان عرض القيمة يعتمد على الإبهار، فاحرص على عدم الإفراط في تقديم التفسيرات التقنية المفصلة التي قد تزيل الغموض المحيط بالمنتجات.
صمم المنتجات مع أخذ مستويات المعرفة المختلفة في الاعتبار
قد تفترض أن مستخدمي منتجاتك المدارة بالذكاء الاصطناعي يتمتعون بفهم عميق للتكنولوجيا ويمكنهم التعامل مع تصميمات معقدة لتجربة المستخدم، أو أنهم يفضلون الاستقلالية التامة في استخدام الذكاء الاصطناعي. لكن العديد من المستخدمين يريد البساطة والوضوح والتوجيه فقط. لذا، من المهم إجراء عملية فعالة لإعداد المستخدمين الجدد وتصميم تجربة المستخدم البسيطة. على سبيل المثال، لم يتعلق نجاح تشات جي بي تي ببنيته التحتية بقدر ما تعلق بسهولة وصول المستخدمين العاديين إليه.
احرص على الشفافية والصدق
لا يعني ما توصلنا إليه أن عليك حجب المعلومات عن المستهلكين، إذ يتطلب استخدام الذكاء الاصطناعي على نحو مستدام ومسؤول إبلاغ المستهلكين بالمقايضات التي ينطوي عليها استخدامهم له من أجل دعم عملية إطلاق الأحكام التي يجريها البشر أو استبدالها، خاصة في المجالات ذات المخاطر العالية، مثل التوظيف والرعاية الصحية والتعليم. يتطلب ذلك بدوره إدراك أن أنظمة الذكاء الاصطناعي قد تبرز التحيزات القائمة أو تعززها، وأن مخرجاتها شديدة التأثر بالبيانات المستخدمة لتدريبها، وأن كلمة "مؤتمت" لا تعني أن هذه الأنظمة محايدة أو لا تخطئ. قد يؤدي الاعتماد المفرط على الانطباعات الحدسية عن الذكاء الاصطناعي إلى إساءة استخدامه ووقوع هفوات أخلاقية ووضع الثقة في غير محلها. يجب على الشركات ضمان إطلاع المستهلكين على العوامل التي يمكن أن تؤثر في رفاهتهم.
على الرغم من أن تصور أن الذكاء الاصطناعي يتمتع بقدرات سحرية قد يغذي الحماس لتبنيه في البداية، فمن المرجح أن يؤدي إلى نتائج سلبية إن لم تكن أدوات الذكاء الاصطناعي مفيدة للمستهلكين الذين تخدمهم. عندما تسوق الشركات للذكاء الاصطناعي على أنه يتمتع بقدرات سحرية في حين أنه لا يقدم فوائد حقيقية، سيشعر المستخدمون بخيبة الأمل أو بأنهم ضحية للتلاعب، ما سيؤدي إلى فقدان الثقة.
الخلاصة
يحدث الذكاء الاصطناعي تغييراً جذرياً في الطرق التي نتبعها في التعلم والعمل واتخاذ القرارات. لكن علاقتنا به لا تعتمد فقط على مقدراته، بل أيضاً على تصورنا له. بصفته أداة جديدة، قد يكون فهم تصور الأشخاص للذكاء الاصطناعي (سواء كانوا مستهلكين أو موظفين أو مدراء) وتحديد الفروق بين هذه التصورات من أهم الخطوات التي يمكننا اتخاذها.