في غضون 8 أشهر فقط، قابلت 3 من قادة الموارد البشرية، جلست الأخيرة أمامي، وبدت متماسكة وهادئة، لكنها كانت منهكة من الداخل وتعاني بصمت، قالت: "لقد استنفدت طاقتي، ليس لأنني لا أستطيع إنجاز العمل، بل لعدم وجود من يصغي إلي".
لم يكن رحيلها عن المنصب الذي تشغله فقط، بل كانت تنسحب من نظام عمل كامل، ذلك النظام الذي يركز على لوحات التحكم والقياس ويتجاهل القدرات البشرية ويعطي الأولوية لتطوير الشركة دون أن يصاحب ذلك تطوير للعنصر البشري.
كانت كلماتها تعكس نمطاً أوسع لاحظته في القطاعات المختلفة، وهو أن الموظفين لا يستقيلون من وظائفهم فحسب، بل يتحررون من العقد النفسي مع المنظومة نفسها وانتمائهم إليها.
النظام والقواعد غير المرئية التي تحكم العمل في المؤسسات
في عصر يعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحسين العمليات وتحقيق الكفاءة في مجالات العمل، تتسابق المؤسسات لدمج الذكاء الاصطناعي في الأقسام والمهام المختلفة، ولكن السؤال الذي يطرحه عدد قليل من الأشخاص هو: "إذا كان الذكاء الاصطناعي يغير طريقة عملنا، فما الذي يغير تجربتنا العاطفية وشعورنا في العمل؟".
في كل مكان عمل، توجد منظومة غير مرئية تمثل مجموعة من القواعد السلوكية التي تحدد من يستحق المكافأة ومن يجب الاستماع لآرائه، بالإضافة إلى تحديد المشاعر المقبولة التي يمكن إظهارها داخل بيئة العمل وطريقة تصرف الموظفين عند التعرض للضغوط. يطلق عليها معظم القادة اسم "الثقافة"، لكنهم يفشلون في التعامل معها بوصفها منظومة يمكن تصميمها والتحكم بها وتطويرها.
أطلق على هذه القواعد غير المرئية اسم منظومة الثقافة المؤسسية الذكية أو "كالتشر جي بي تي".
هذه المنظومة مثل الخوارزميات، تعمل على تدريب السلوك وتشكيل الأنماط السلوكية بمرور الوقت، إذا تركت دون مراقبة وضبط، فقد تؤدي إلى التنافر العاطفي والاحتراق الوظيفي وضعف التزام الموظفين وانفصالهم عن العمل. أما إذا صممت بطريقة مدروسة، فإنها تعزز الانسجام والترابط والمرونة والأداء الذي يعتمد على الثقة. تشير تقارير مؤسسة غالوب إلى أن 23% فقط من الموظفين على مستوى العالم يشعرون بالانخراط والالتزام تجاه عملهم، على الرغم من زيادة الاستثمارات في برامج تحسين الرفاهة والأداء.
ضعف الثقافة المؤسسية يؤدي إلى انهيار الأنظمة
لا تفشل الأنظمة المعقدة عادة بسبب حدث مفاجئ أو قرار واحد خاطئ، غالباً ما تنهار هذه الأنظمة بسبب تجاهل التحذيرات وقمع الملاحظات والثقة المفرطة في غير محلها. في العديد من المؤسسات، نجد ما يلي:
- تردد الموظفين في التعبير عن آرائهم، حتى عندما تكون المخاطر واضحة.
- التسامح مع السلوكيات السامة والضارة عندما تصدر عن أصحاب الأداء المتميز.
- النظر إلى الاحتراق الوظيفي على أنه أمر طبيعي، وافتقار مبادرات تحسين الرفاهة إلى التكامل الاستراتيجي.
تشير أبحاث أجرتها شركة ماكنزي آند كومباني إلى أن السلوكيات السامة والضارة في مكان العمل هي أقوى مؤشر على استنزاف الموظفين وليس التعويضات أو عبء العمل أو وضوح المهام الوظيفية.
لا تعكس هذه المظاهر كفاءة بيئة العمل وفعاليتها، بل هي مؤشرات على نظام ثقافي لا يتوافق مع وتيرة العمل في العصر الحالي والضغوط واحتياجات الموظفين. في البيئات التي تفتقر إلى الذكاء العاطفي والأمان النفسي بوصفهما جوهر العمل، تظل أقوى الاستراتيجيات، مهما بلغ تمويلها، هشة وعرضة للانهيار.
منظومة كالتشر جي بي تي: نظام تشغيل يعتمد على السلوكيات
تشير الأبحاث الأساسية التي أجرتها أستاذة علم النفس كارول دويك حول عقلية النمو والعقلية الثابتة إلى دور المعتقدات وأنماط التفكير في تشكيل سلوك الفرد وقدرته على التعلم ومرونته. تتحول هذه المعتقدات الفردية في المؤسسات إلى نماذج ذهنية جماعية تمثل القواعد الأساسية التي تعتمدها الفرق لفهم طبيعة الجهود والتعامل مع الفشل وتحديد معايير النجاح.
تجسد منظومة كالتشر جي بي تي هذه الحقيقة، فهي ليست مجرد استعارة ثقافية؛ بل هي نظام ذكاء سلوكي يرمز إلى المعتقدات التي تتبناها المؤسسة حول المخاطر والمكافآت والأمان العاطفي. يمكن تدريب الثقافة، على غرار العقلية، ولكن بشرط أن يتبنى القادة نهجاً واعياً ومدروساً في تعزيز السلوكيات والممارسات.
لا تمثل منظومة كالتشر جي بي تي مجرد شعار، بل هي منظور قيادي ينظر إلى الثقافة على أنها مجموعة من القواعد والتعليمات السلوكية التي تؤثر في الأداء بطريقة غير مرئية. على غرار نموذج تشات جي بي تي، الذي يتنبأ بالكلمات بناءً على البيانات التي تعلمها، فإن منظومة كالتشر جي بي تي تحكم السلوك بناءً على الأفعال التي يجسدها القادة أو الشخصيات المؤثرة في المؤسسة والتصرفات التي تحظى بالمكافآت والسلوكيات المتكررة. وهي توفر إجابات عن الأسئلة التالية:
- من هو الشخص الذي يستحق الحصول على الترقية؟
- ما هي السلوكيات أو الإنجازات التي تحظى بالتقدير والثناء؟
- كيف تتعامل المؤسسة مع الإخفاقات والأخطاء؟
- ما هي المشاعر المسموح إظهارها خلال الاجتماعات؟
تسهم هذه القرارات الصغيرة في صياغة الثقافة العامة للمؤسسة. وفي البيئات المتقلبة والسريعة التغير، تبرز المؤسسات ذات الثقافات المرنة من خلال تصميمها للقواعد السلوكية بطريقة مدروسة، لا من خلال تبني هذه القواعد عشوائياً أو من خلال تراكمها العفوي دون تطوير. يشير الكاتب بيتر دراكر إلى أن الثقافة تتفوق على الاستراتيجية من حيث تأثيرها في نجاح المؤسسة، وفي عصرنا، من الممكن أن تصبح أيضاً عاملاً حاسماً في نجاح التحول الرقمي أو فشله.
الفجوة البشرية في التحول الرقمي
تستطيع الأدوات الرقمية تسريع الإنجازات والنتائج، ولكن التحول العاطفي هو ما يضمن استعداد الأفراد للتحديات المستقبلية. يمكن للذكاء الاصطناعي كتابة التعليمات البرمجية وأتمتة سير العمل ومحاكاة المشاعر، لكنه لا يستطيع تنظيم الطاقة العاطفية أو إعادة بناء الثقة بعد النزاعات أو القيادة في ظل الغموض أو الخوف.
على الرغم من ذلك، فإن المؤسسات لا تزال تتجاهل الاستثمار في الوعي العاطفي، مقابل الاستثمار المفرط في الأنظمة التشغيلية. ونتيجة لذلك، تصبح متقدمة تقنياً ولكنها ضعيفة ثقافياً.
تعديل منظومة كالتشر جي بي تي
لحماية مستقبل مؤسستك، يجب عليك إعادة ضبط نظام التشغيل السلوكي من خلال طرح 5 أسئلة تشخيصية ضمن إطار منظومة كالتشر جي بي تي:
- ما هي السلوكيات التي تحظى بتقدير أكبر: الأداء المتميز وتحقيق النتائج أم تجنب المخاطر؟
- هل تمثل مبادرات تعزيز الرفاهة استراتيجية حقيقية أم أنها مجرد إجراءات شكلية؟
- هل تتعامل المؤسسة مع المشاعر على أنها مصدر إزعاج لا قيمة له أم على أنها بيانات مهمة تسهم في توجيه مسار العمل؟
- هل يسهم تقديم الملاحظات في توفير بيئة آمنة أم يؤدي إلى صمت الموظفين لتجنب العقاب أو الإحراج؟
- هل تستطيع ثقافتنا تحمل الضغوط دون زعزعة الثقة؟
هذه الأسئلة ليست فلسفية أو نظرية، بل إنها ذات طابع عملي تشغيلي، فالثقافة هي البنية التحتية والركيزة الأساسية التي تضمن ترابط أنظمة المؤسسة وموظفيها وهدفها.
عصر الترابط والتناسق بين الأنظمة
لم تعد المؤسسات أنظمة مغلقة أو منعزلة؛ بل أصبحت جزءاً من أنظمة اقتصادية واجتماعية وعاطفية أوسع. إذا حدث خلل في جزء من هذه المنظومة بسبب عدم التوافق الثقافي أو فقدان الثقة أو الإهمال العاطفي، فالأثر ينتشر بسرعة. لم يعد التركيز في العصر الحالي محصوراً في شخص واحد فقط يتمتع بصفات قيادية استثنائية؛ بل أصبح النجاح يعتمد على الترابط والتناسق بين الأنظمة.
يعيد نموذج تشات جي بي تي صياغة كيفية وصولنا إلى المعرفة، وبالمثل، يجب أن تعيد منظومة كالتشر جي بي تي صياغة طرق تعزيز التواصل الإنساني؛ لأن التفوق الحقيقي في ظل التنافس المحتدم لتسريع التقدم التكنولوجي يكمن في عمق التواصل البشري.
خطوات تفعيل منظومة كالتشر جي بي تي في مؤسستك
لتحويل هذا النظام السلوكي التشغيلي إلى واقع عملي، يجب عليك اتباع الخطوات التالية:
- تحديد القواعد الثقافية: احرص على مراجعة العادات في مؤسستك وأساليب التقدير المتبعة واللغة المستخدمة، وحدد السلوكيات والمواقف التي تعززها وتلك التي تتجاهلها.
- إعادة تصميم هياكل الحوافز: احرص على مواءمة المكافآت مع السلوكيات التي تعزز الثقة والقدرة على التكيف وتوفر بيئة آمنة للفريق، بدلاً من حصرها في النتائج والإنجازات فقط.
- تعزيز الذكاء العاطفي في القيادة: زود المدراء بالأدوات اللازمة لتنظيم الطاقة وإدارة المواقف والحالات الغامضة والتعامل مع الآخرين بتعاطف وتفهم.
- قياس العناصر والجوانب المهمة: أضف مؤشرات ثقافية إلى مقاييس الأداء، مثل الترابط والانسجام بين أعضاء الفريق والقدرة على التعافي بعد الأزمات وسلاسة تدفق الملاحظات.
- إنشاء حلقات الأمان النفسي: صمم أنظمة تدعم حرية التعبير عن الآراء والتفكير العميق والتعلم المستمر ووفر مساحة للفشل الذي يثمر عن رؤى إيجابية تسمح بتطوير الأداء.
لا تهدف منظومة كالتشر جي بي تي إلى تقليل المعايير، بل تركز على تعزيز المؤسسات من الداخل.