يحدث الذكاء الاصطناعي التوليدي تغييراً جذرياً في مختلف القطاعات من خلال أتمتة المهام ودعم عملية صناعة القرار التي يجريها البشر. مع ذلك، يجب أن تنتبه المؤسسات التي تتبنى الذكاء الاصطناعي إلى أن هذه التكنولوجيا تؤثر في هياكل القيادة والحوكمة. بدأت الشركات بتجربة طرق مختلفة لدمج الذكاء الاصطناعي في اجتماعات مجالس الإدارة، مثل استخدامه في تدوين المحاضر وتصميم جدول الأعمال وتوثيق الاجتماعات. ظهرت أيضاً برامج إدارة مجالس الإدارة المدعومة بالذكاء الاصطناعي التي يمكن استخدامها لتقديم المشورة وتوجيه النقاشات في الاجتماعات.
نجري حالياً بحثاً حول الطرق التي يتبعها رؤساء مجالس الإدارة لممارسة سلطتهم. سلطت سلسلة من المقابلات الحديثة الضوء على العديد من الطرق التي يمكن أن يضعف بها الذكاء الاصطناعي نفوذ رؤساء مجالس الإدارة على نحو غير متعمد. ومن الضروري فهم خطورة أن يتدخل الذكاء الاصطناعي في الأدوار القيادية البشرية بطريقة تؤدي إلى تقليص دور رؤساء مجالس الإدارة من أجل الحفاظ على فعالية قيادتهم وضمان أن يدعم الذكاء الاصطناعي أهدافهم الاستراتيجية بدلاً من تقويضها.
دور المهام الرمزية في القيادة ومخاطر التعدي عليها
أجرينا مقابلات مع 27 رئيس مجلس إدارة من شركات مدرجة في بورصة تورونتو، بمتوسط أصول يبلغ 9.04 مليارات دولار ومتوسط إيرادات يبلغ 3.7 مليارات دولار. شملت القطاعات المدروسة القطاعات الصناعية (22%) وقطاع الطاقة (17%) وقطاع المواد (17%) وقطاع العقارات (13%) وقطاع تكنولوجيا المعلومات (9%) وقطاع الماليات (9%) وقطاع السلع الاستهلاكية الكمالية (9%) وقطاع الرعاية الصحية (4%). ناقشنا في هذه المقابلات شبه المنظمة التي بلغ متوسط مدة كل منها 54 دقيقة كيف يمارس رؤساء مجالس الإدارة السلطة في أدوارهم بالتفصيل. راجع العديد من المبرمجين المستقلين النصوص لتحديد المهام الرمزية التي يمارس القادة من خلالها السلطة التي تمنحهم إياها أدوارهم.
قد تبدو هذه المهام روتينية، مثل وضع جداول أعمال الاجتماعات وإنشاء لجان مجلس الإدارة، لكنها بالغة الأهمية في تمكين القادة من ممارسة نفوذهم. يصبح رؤساء مجالس الإدارة عرضة لتعدي الذكاء الاصطناعي على سلطتهم إذا ما أدى استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في أتمتة مهامهم إلى إضعاف تأثيرهم في مهام القيادة الرمزية هذه.
المهام الرمزية في قيادة رؤساء مجالس الإدارة
حددنا 3 مهام بالغة الأهمية من المهام الرمزية لقيادة رؤساء مجالس الإدارة:
إدارة جدول الأعمال
يحدد رئيس مجلس الإدارة على نحو استراتيجي الموضوعات التي يجب مناقشتها في الاجتماعات وترتيبها، ما يعني أنه يحدد أولويات اجتماعات مجلس الإدارة وسيرها.
قد تبدو إدارة جدول الأعمال بسيطة، لكن 30% تقريباً من رؤساء مجالس الإدارة قالوا إن هذه هي الطريقة الرئيسية التي تتيح لهم ممارسة نفوذهم. لا يتعلق ذلك بإدراج الموضوعات التي يجب مناقشتها فقط، بل بتحديد سير المحادثة بالكامل أيضاً؛ أي التحكم بمناقشة كل جزئية والموضوعات التي يجب التركيز عليها وتلك التي لن يناقشها الفريق على الإطلاق أو التي يناقشها فقط بناءً على طلب الرئيس. (على سبيل المثال، قد يتعمد الرئيس تأجيل الحديث عن موضوع مثير للجدل حتى يتفق الجميع أو توضع القواعد الأساسية).
قال أحد رؤساء مجلس الإدارة: "يشبه دور رئيس مجلس الإدارة دور المايسترو في الأوركسترا؛ لا يعزف على أي آلة ولا يصدر أي صوت ولكنه مسؤول عن الناتج النهائي لعمل العازفين".
يؤدي الاعتماد كلياً على الذكاء الاصطناعي في وضع جدول الأعمال (على سبيل المثال، استناداً إلى المدة التي استغرقتها مناقشة كل بند في اجتماعات سابقة) إلى تحييد التفكير الاستراتيجي للرئيس بالكامل.
يؤثر رؤساء مجالس الإدارة أيضاً على نحو غير مباشر في تدفق المعلومات بطريقة لا يستطيع الذكاء الاصطناعي محاكاتها بسهولة؛ إذ إنهم يوجهون عملية تقديم المعلومات ويحددون من يتكلم ومتى، ويضمنون تفاعل الأعضاء على نحو بناء. على سبيل المثال، قد يوجه رئيس مجلس الإدارة الرئيس التنفيذي فيما يتعلق بالمواد التي يجب تقديمها وكيفيتها وموعدها، وذلك بناءً على تقديراته ومن خلال أخذ ظروف الشركة في الاعتبار وتوقع المزاج العام للاجتماع. تنظيم سير الاجتماعات هو أحد أكثر جوانب دور الرئيس التي لا تحظى بالتقدير الكافي وأقلها فهماً، ويكتسب الرئيس هذه المهارة بعد سنوات من الخبرة وتحديد الرؤى.
تلخيص المناقشات وصياغة الموضوعات
يلخص رؤساء مجالس الإدارة المناقشات ويعيدون صياغة المسائل المختلفة ويوجهون أعضاء مجلس الإدارة من أجل ضمان التوافق ونجاح صناعة القرار.
قد تبدو مهمة تلخيص الاجتماعات ملائمة للذكاء الاصطناعي، لكنها طريقة فعالة تساعد رئيس المجلس على توضيح المسائل المطروحة والاستنتاجات لأعضاء المجلس وضمان فهمهم لها. يتعلق ذلك بالإنصات بانتباه وتحديد المحاور الرئيسية في المحادثة ودمجها لصياغة رؤية موحدة تضمن الإجماع. وإذا ارتبك أعضاء مجلس الإدارة أو اختلفوا، يجب أن يتدخل الرئيس ويوضح النقاط كافة ويربط بعضها ببعض. ومن خلال تلخيص وجهات النظر المختلفة يستطيع الرئيس توجيه مسار النقاش على نحو غير مباشر.
على الرغم من أن أدوات الذكاء الاصطناعي تستطيع تلخيص المحادثات، فإنها قد تغفل التفاصيل الدقيقة مثل ما لا يقال صراحة أو تغيرات المزاج، التي يستطيع الرئيس المتمرس الانتباه لها والاستفادة منها في كتابة الملخصات. يتعلق ذلك الأمر بفهم ردود فعل الحضور وإعادة صياغة النقاط التي تناولها النقاش وربط الأمور بسياقها العام واتخاذ القرارات.
تقييم أداء أعضاء مجلس الإدارة ومراجعته وتقديم التوصيات
يؤدي رئيس مجلس الإدارة دوراً بالغ الأهمية في تقييم فعالية أعضاء المجلس والتأثير في كل من مدة العضوية وتركيبة مجلس الإدارة في المستقبل.
يجب على الرئيس ضمان أن يعمل مجلس الإدارة دون عوائق وأن يضم على المزيج المناسب من المهارات والخبرات. هذه ليست مهمة روتينية يمكن أداؤها وتحسينها عبر إحدى أدوات الذكاء الاصطناعي؛ إذ إنها قد تتطلب إجراء بعض المحادثات الحساسة وحتى عزل الأعضاء الذي لا يؤدون أدوارهم جيداً. يشارك الرئيس أيضاً في تحديد لجان مجلس الإدارة، مثل لجنة التدقيق ولجنة التعويضات. مهمة الرئيس هي تحديد الأعضاء المناسبين في مجلس الإدارة وتحقيق التوازن بين مجموعات المهارات المناسبة وضمان أن تسهم ديناميات اللجان في تحقيق مصلحة أصحاب المصلحة في الشركة.
عملية من 3 خطوات لخفض مخاطر التعدي على السلطة
يجب على رؤساء مجالس الإدارة اعتماد نهج منظم لدمج الذكاء الاصطناعي في مؤسساتهم لحمايتها من العواقب غير المتعمدة لهذه التكنولوجيا. يتألف هذا النهج من الخطوات الثلاث الآتية:
تحديد الأدوار الاستراتيجية الرئيسية
يجب تحديد المناصب القيادية الأكثر عرضة لخطر التعدي على السلطة، مثل مناصب رئيس مجلس الإدارة والمدراء التنفيذيين بالإدارة العليا، إذ يستند اختيار شاغلي هذه المناصب إلى قدرتهم على التأثير في توجه المؤسسة، وليس فقط مهارتهم في تنفيذ العمليات اليومية. يعني ذلك أن قيمة هؤلاء لا تكمن فقط في قدرتهم على إدارة المهام الداخلية، بل في توجيه الاستراتيجية الطويلة الأجل وتحديد الرؤية وتمثيل الشركة أمام أصحاب المصلحة.
خذ مثلاً الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت، ساتيا ناديلا، الذي لم يحصل على وظيفته ليدير العمليات الداخلية فقط، بل ليوجه الشركة في مجالات جديدة مثل الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي. كما أثرت رئيسة مجلس إدارة شركة بيبسيكو، إندرا نوي، في قيم الشركة على المدى الطويل ووجهتها نحو اعتماد خطوط الإنتاج الصحية وتحقيق أهداف الاستدامة الطويلة الأجل.
تحديد المهام الرمزية للقيادة
بمجرد تحديد الأدوار الاستراتيجية الرئيسية، اعمل مع هؤلاء القادة لتحديد المهام التي تتيح لهم ممارسة نفوذهم، ما يجعلها غير ملائمة للأتمتة باستخدام الذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال، يتطلب تحديد رسالة الشركة ورؤيتها على المدى الطويل فهماً عميقاً لاتجاهات السوق والقيم الاجتماعية ودوافع أصحاب المصلحة الرئيسيين. قد يتعين على المدير التنفيذي المسؤول عن العمليات المحلية إقناع القادة المحليين واكتساب ثقتهم والاستجابة للتغيرات الاجتماعية، وذلك يتطلب تفاعلاً شخصياً وتخصيص طرق التواصل مع قادة الشركة لبناء الثقة، بالإضافة إلى امتلاك المعرفة المؤسسية المستمدة من الخبرة. على سبيل المثال، يجب على الرئيس التنفيذي للشؤون المالية أخذ سمعة الشركة في الاعتبار في أثناء إجراء المحادثات الحساسة التي يجب اتباع طرق مخصصة فيها لتعزيز الثقة (مثل تفسير انخفاض الدخل على أنه ناجم عن تحولات أعم). يجب على الرؤساء التنفيذيين غالباً اتخاذ قرار حول التحدث علناً عن قضية عامة مثيرة للجدل من عدمه، مثل العدالة العرقية وسياسة المناخ. بينما يتطلب التفاوض مع نقابات العمال التغلب على الشكوك مع الاستفادة على نحو استراتيجي من الثقة والقدرة على المساومة وآليات توزع السلطة غير الرسمية.
تقييد استخدام الذكاء الاصطناعي والتحكم به
مع أخذ هذه المهام الرمزية للقيادة في الاعتبار، احرص على صياغة سياسات واضحة للمهام التي يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لأدائها وتلك التي تستوجب إشراف البشر، ما يضمن أن يدعم الذكاء الاصطناعي عملية صناعة القرار الاستراتيجية بدلاً من أن يحل محلها. يعني "تقييد" مهمة ما وضع حدود لدور الذكاء الاصطناعي في تنفيذها. لا يعني ذلك الامتناع عن استخدام هذه التكنولوجيا تماماً، بل تحديد الشروط الواضحة التي تجعل استخدام الذكاء الاصطناعي مفيداً مع الحفاظ على الإشراف البشري. على سبيل المثال، تستطيع أدوات الذكاء الاصطناعي اقتراح هيكليات جدول الأعمال، لكن القرار النهائي يجب أن يكون بيد رئيس مجلس الإدارة. بالمثل، تستطيع هذه الأدوات إنشاء ملخصات للمناقشات، ولكن يجب على الرئيس أن يراجعها وينقحها لضمان توافقها مع الأهداف الاستراتيجية. من خلال تقييد دور الذكاء الاصطناعي، تستطيع المؤسسات ضمان أن تعزز الأتمتة تأثير القيادة بدلاً من تقويضه.
يجب استخدام الذكاء الاصطناعي على نحو مدروس لتعزيز التأثير الاستراتيجي لرؤساء مجالس الإدارة بدلاً من تقويضه. من خلال تحديد الأدوار الاستراتيجية الرئيسية والمهام الرمزية للقيادة، بالإضافة إلى تقييد استخدام الذكاء الاصطناعي، يستطيع رؤساء مجالس الإدارة الموازنة بين التقدم التكنولوجي والحوكمة الفعالة. يجب ألا يكون الهدف هو الامتناع عن استخدام الذكاء الاصطناعي، بل دمجه بطريقة تحافظ على نفوذ القيادة وتعزز الأهداف الاستراتيجية لرؤساء مجالس الإدارة. من خلال التخطيط والرقابة الدقيقين، سيصبح الذكاء الاصطناعي حليفاً مهماً في الحوكمة لا بديلاً، إذ يدعم القادة في قيادة مؤسساتهم نحو النجاح معززاً قدراتهم الإنسانية من حدس ورؤية وقدرة على الإقناع ونفوذ.