في عصر تسوده التحولات المفاجئة في السوق واضطرابات سلاسل التوريد وحالات الطوارئ الصحية العامة العالمية، تُمثل الثقة أساساً لنجاح شركات منصات الأعمال الإلكترونية التي تسهل التفاعلات أو المعاملات بين الأطراف المختلفة. يجب أن يشعر المستخدمون بالأمان عند التعامل مع الغرباء، سواء كانوا يشترون منتجاً أو يطلبون خدمة توصيل أو يسعون للحصول على المساعدة. مع ذلك، لا يزال تعزيز الثقة صعباً، خاصة في الأزمات.
أصبحت آليات تعزيز الثقة في المنصات الإلكترونية، ولا سيما في الفترات التي يسودها عدم اليقين، من أهم المسائل التي ركّزنا عليها في بحثنا عندما استأنفت الصين فجأة النشاطات الاقتصادية والاجتماعية الاعتيادية بعد تطبيق السياسة التي هدفت لخفض حالات الإصابة بمرض كوفيد-19 إلى الصفر في أواخر عام 2022. في خضم موجة هائلة من الإصابات ونقص حاد في الأدوية التي لا تتطلب الوصفات طبية، واجه الكثيرون صعوبات في الحصول على الأدوية الأساسية، مثل خافضات الحرارة. استجابة لذلك، أطلقت شركة تينسنت (Tencent)، وهي إحدى أكبر شركات منصات الإنترنت في الصين، منصة مؤقتة للمساعدة المتبادلة مخصصة لفترة الأزمات مكّنت المستخدمين من عرض الأدوية الفائضة لديهم للبيع وطلبها من الآخرين وتبادلها معهم على نحو آمن، ما مكّن أكثر من 1.5 مليون عملية تبادل ناجحة في وقت قصير. صمم خبراء الشركة هذه المنصة ضمن منظومة تطبيق وي تشات (WeChat)، وهو تطبيق فائق يدمج وظائف المراسلة الفورية ووسائل التواصل الاجتماعي والدفع من خلال الأجهزة المحمولة، بعدد مستخدمين يتجاوز 1.3 مليار مستخدم شهرياً في فترة إجراء البحث.
لاحظنا أن هذه فرصة فريدة لاستكشاف طرق بناء الثقة في الوقت الحقيقي من خلال دراسة تفاعلات المستخدمين في منصة المساعدة المتبادلة من شركة تينسنت، وهو ما فعلناه في الفترة من 20 ديسمبر/كانون الأول 2022 و31 يناير/كانون الثاني 2023 والفترات التي تلت ذلك. حللنا أنماط سلوك المستخدمين وأكثر من 60 مقابلة معهم (فحصنا فيها تجاربهم ومخاوفهم ودوافعهم)، بالإضافة إلى تحديثات ميزات المنصة المتكررة ومقابلات مع المطورين (فحصنا فيها كيف طبّقوا آليات بناء الثقة استجابة لاحتياجات المستخدمين).
مكننا هذا النهج من فهم كيف ساعدت مجموعة محددة من ميزات تصميم المنصة على اكتسابها ثقة المستخدمين وتعزيزها في فترة سادها عدم اليقين. استخدم العديد من المستخدمين المنصة مراراً وتكراراً لتقديم المساعدة للآخرين وليس للحصول عليها فقط، ما يشير إلى أن المنصة ساعدت أيضاً على بناء روابط عاطفية بين المستخدمين. بالإضافة إلى ذلك، درسنا أكثر من 2,200 نقاش في وسائل التواصل الاجتماعي والمنتديات، وأظهرت هذه النقاشات التحول الذي شهده المستخدمون من التشكيك بالمنصة إلى زيادة الثقة بها، ثم لاحقاً إلى نوع من أنواع الاستعداد الواسع النطاق للوثوق بالآخرين في الحياة اليومية. مثّلت هذه المنصة دراسة حالة فريدة من نوعها لطرق نشوء الثقة في الأوساط الرقمية خلال فترات الأزمات، كما تعلّمنا منها دروساً مهمة بالنسبة لقادة الشركات التي تدير منصات الإنترنت.
في الواقع، الثقة بالنسبة لقادة الأعمال هي أكثر من مجرد ضرورة وظيفية؛ فهي من الأصول الاستراتيجية. تستطيع المنصات التي تكتسب ثقة مستخدميها بفعالية الاحتفاظ بهم وتعزيز مشاركتهم، كما أنها تدفع عجلة النمو وتعزز الولاء للعلامة التجارية. الأهم من ذلك أن هذه المنصات تؤثر في سلوك المستخدم بطرق تتجاوز المعاملات الفردية.
كيف تعزز المنصات الثقة؟
الثقة عامل مهم في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، لكن بناءها في المنصات الرقمية صعب بسبب إخفاء هويات المستخدمين وغياب المعرفة الشخصية السابقة والشك بنوايا الآخرين. يتردد المستخدمون غالباً فيما يتعلق بإمكانية الثقة بمصداقية تقييمات البائعين واحتمال وفاء مقدمي الخدمة بوعودهم. تتعاظم هذه المخاوف في الأزمات عندما تكون الحاجة إلى الثقة فورية ومخاطر الخداع تبدو أكبر.
تُمثّل منصة تينسنت للمساعدة المتبادلة فرصة نادرة لرصد عملية بناء الثقة في الوقت الحقيقي. كان على المستخدمين المرضى الذين يحتاجون إلى الأدوية الاعتماد على الغرباء لمنحهم الأدوية الفائضة لديهم، وكان على مطوري المنصة استخدام الآليات الرقمية لجعل بناء الثقة بينهم ممكناً وسهلاً لكي يكون النظام فعالاً. اكتشفنا عند فحص المنصة من كثب 3 آليات رئيسية أتاحت للمستخدمين التفاعل بثقة فيما بينهم، حتى في ظل المخاطر العالية، وهي إمكانية التحقق والتفاعل الموجه وإمكانية الحماية.
إمكانية التحقق من الهوية
إمكانية التحقق هي عامل ضروري بسبب حاجة المستخدمين إلى تصديق أن هوية الآخرين في المنصة حقيقية. عالجت تينسنت هذه المسألة من خلال اشتراط تسجيل المستخدمين بأسمائهم الحقيقية، ما يضمن ارتباط التفاعلات بهويات مؤكدة. ساعد تصميم منصة المساعدة المتبادلة ضمن تطبيق وي تشات على تبني هذا النهج. بالإضافة إلى ذلك، وفرت المنصة الشفافية من خلال تحديث حالة المنشورات بانتظام لإظهار الطلبات التي نُفذت بالفعل. أدى ذلك إلى الوقاية من عمليات الاحتيال وطمأنة المستخدمين بأن النظام يعمل على النحو المنشود. تماماً كما تعتمد منصات التجارة الإلكترونية على مراجعات الشراء الموثقة، ومثلما تتطلب تطبيقات مشاركة الرحلات التحقق من البيانات الشخصية للسائقين بهدف بناء الثقة بين المستخدمين، فإن أي منصة تسهّل التفاعل بين الغرباء في الأزمات والفترات التي يسودها عدم اليقين يجب أن تمنح الأولوية للآليات التي ترسخ المصداقية.
التفاعلات الموجهة
ساعدت ميزة التفاعل الموجه المستخدمين على تحسين تفاعلاتهم والتحكم بها؛ فبدلاً من التفاعل مع كمية كبيرة وعشوائية من المنشورات الفردية، يستطيع المستخدم الذي يبحث عن الأدوية الفائضة أن يفرز النتائج بناءً على الموقع الجغرافي، ما يضمن أن يحصل على المساعدة من مكان قريب. يستطيع الناشرون أيضاً وسم الطلبات بتفاصيل مثل "مسن" أو "حامل" للإشارة إلى الحاجة المُلحة أو الاحتياجات الخاصة، ما يزيد احتمالية المشاركة.
من خلال تمكين المستخدمين من تضييق نطاق تفاعلاتهم، تمكّن مطورو المنصة من تخفيف حالة عدم اليقين ووفروا الوقت الذي يمكن استثماره في التبادلات الهادفة وزادوا مشاركة المستخدمين. في سياقات أخرى، تستطيع شركات المنصات الإلكترونية تطبيق هذا النهج المتمثل في تعزيز قابلية توجيه التفاعلات لتمكين المستخدمين من بناء الثقة تدريجياً بالمنصة بحسب تفضيلاتهم. يمكن فعل ذلك من خلال البحث الموجه وميزات بناء المجتمع والتحقق المهني، ما يتيح للمستخدمين المشاركة في المجالات التي يرغبون فيها وإضفاء طابع شخصي على مشاركتهم على نحو هادف.
إمكانية الحماية
عالجت إمكانية الحماية مخاوف المستخدمين بشأن الخصوصية والأمان. إذ يستطيع مستخدمو المنصة التواصل من خلال أرقام افتراضية مجهولة الهوية، ما يضمن أمان بيانات الاتصال الشخصية. تحتوي المنصة أيضاً على إرشادات قانونية واضحة تحدد السلوكيات المقبولة وتمنع إساءة الاستخدام. دون هذه الضمانات، كان من المحتمل أن يُحجم المستخدمون عن المشاركة بسبب شعورهم بأنهم معرضون للمخاطر وغير محميين منها.
الدرس الأعم الذي يمكن أن يتعلمه مدراء المنصات هو أنه بغض النظر عن جودة تصميم السوق أو المجتمع عبر الإنترنت، فالمستخدمون سيترددون في المشاركة إذا لم يشعروا بأن المنصة توفر الحماية الكافية لبياناتهم الخاصة وتحميهم من سوء السلوك. ضمانات الخصوصية الفعالة والعمليات الفعالة لتسوية النزاعات والتدابير الشاملة لمنع الاحتيال كلها ضرورية للحفاظ على ثقة المستخدمين في شركات منصات الأعمال الرقمية، خاصة في ظل عدم اليقين الشديد.
الجدير بالذكر أنه عندما أطلق المطورون المنصة أول مرة، لم تكن بعض الميزات متاحة أو مطورة بالكامل، ومنها شرط التسجيل بالاسم الحقيقي وصندوق الدردشة للاستشارات القانونية. عمل المطورون على تحسين المنصة وتحديثها باستمرار من خلال الاستفادة من تقييمات المستخدمين، وعززت جهودهم عملية بناء الثقة بين المستخدمين، ما شجعهم على استخدام المنصة باستمرار لمشاركة الأدوية. وكذلك الأمر بالنسبة لشركات منصات الأعمال التي تسعى إلى بناء الثقة مع العملاء أو تعزيزها، من الضروري تحديث المنتجات والخدمات باستمرار بناءً على تقييمات أصحاب المصلحة، خاصة في عصرنا الرقمي الذي تنخفض فيه تكلفة التنقل بين المنصات المتعددة بالنسبة للمستخدمين.
من الثقة بالمنصة إلى الثقة العاطفية
على الرغم من أن إمكانية التحقق والتفاعل الموجه وإمكانية الحماية ساعدت على بناء الثقة الأولية في منصة المساعدة المتبادلة، فالعامل الأبرز كان سرعة بناء المستخدمين نوعاً أعمق من الثقة، وهو الثقة العاطفية. على عكس الثقة القائمة على المنطق والإثبات، التي يبنيها الناس أو يفقدونها من خلال الحكم على جدارة الآخرين بالثقة أو خبرتهم، تنبع الثقة العاطفية من الإحساس باللطف والرعاية. لم يستخدم المستخدمون الذين نجحوا في الحصول على الدواء هذه المنصة مرة واحدة فقط؛ بل كرروا استخدامهم لها غالباً رغبة منهم في مساعدة الآخرين المحتاجين.
هذا التحول إلى الثقة العاطفية في المجتمع له تبعات عميقة على مدراء المنصات. عندما ينظر المستخدمون إلى المنصة ليس فقط على أنها أداة، بل على أنها مجتمع جدير بالثقة، فإن مشاركتهم ستزداد. يدرك مدراء المنصات الناجحة أن الثقة لا تعتمد فقط على الحد من المخاطر، بل تعتمد على ترسيخ التجارب الإيجابية التي تولد الولاء وتشجع على المشاركة. تساعد الميزات التي تسلط الضوء على شهادات المستخدمين على إبراز الأعمال الطيبة التي تولد الشعور بالانتماء للمجتمع، وتمكّن المستخدمين من التعبير عن مشاعرهم تجاه هذا التحول.
التأثير الأوسع نطاقاً لبناء الثقة
إن أبرز ما توصلت إليه دراستنا هو أن الثقة المبنية على منصة رقمية لا تبقى محصورة في المنصة نفسها. أفاد المستخدمون الذين شاركوا في تفاعلات ناجحة على منصة شركة تينسنت للمساعدة المتبادلة بأن استعدادهم للثقة بالآخرين في الحياة اليومية ازداد. على سبيل المثال، قال أحد الأشخاص الذين قابلناهم: "بعد أن لاحظت أن العديدين تلقوا المساعدة بالفعل، شعرت بتعاضد المجتمع، وبأن الناس في المجتمع الذي نعيش فيه يهتمون بالآخرين ويحبونهم. كل ما يتطلبه دفع الناس لفعل الخير هو الفرصة الملائمة، مثل هذه المنصة". يشير ذلك إلى أنه عندما تبني المنصات الثقة على النحو السليم، فإن تأثير هذه الثقة لا يقتصر على الحفاظ على بيئتها الخاصة، بل يشمل الإسهام في تعزيز ثقافة ثقة أوسع في التفاعلات الرقمية عموماً.
الثقة ليست فكرة مثالية مجردة، بل هي عنصر ملموس يمكن التحكم به في تصميم المنصات. مع تعاظم دور التفاعلات الرقمية في حياتنا، تمثّل القدرة على تعزيز الثقة عامل نجاح المنصات أو فشلها. تبيّن حالة منصة المساعدة المتبادلة من شركة تينسنت أن إمكانية التحقق والتفاعل الموجه والحماية هي عناصر أساسية لبناء الثقة. عندما يشعر المستخدمون بالثقة في التعامل مع الغرباء، يتحول عدم اليقين الرقمي إلى فرصة رقمية.