بعد بدء عدد غير مسبوق من الأشخاص العمل من منازلهم خلال الأشهر الأولى من جائحة كوفيد-19، تساءلت أنا وزملائي في هارفارد بزنس ريفيو عن تبعات هذا التحول والجوانب الأساسية للمقر المكتبي التي ستحافظ على أهميتها.
تواصلنا مع الباحثة الرائدة في مجال تطور أمكنة العمل والتعاون بين الإنسان والآلة، جينيفر مانيولفي أستل، لفهم حقيقة هذه التغيرات ووضعها في إطارها الصحيح. بعد 5 سنوات، تواصلنا معها مجدداً ولكن بهدف مختلف قليلاً. بعد أن شهدنا تطور العمل عن بُعد والعمل الهجين على مدى نصف عقد، ما الذي اكتسبناه؟ وما الذي خسرناه؟ وما حاجتنا إلى المقر المكتبي؟
ساعدتني محادثتي مع مانيولفي أستل على فهم سلبيات قرارات العودة إلى العمل من المقر المكتبي في سياقها الصحيح، وتفسير أهمية التواصل الشخصي، وتحديد أنواع العمل التي من المحبّذ إنجازها وجهاً لوجه. حرّرت هذه المقابلة لزيادة وضوحها.
أجرينا أول مقابلة معك عام 2020 حول التحول إلى العمل عن بعد بسبب جائحة كوفيد-19. مرَّت 5 سنوات على ذلك؛ ما هي جوانب هذا التحول التي توافقت مع توقعاتك؟ وما هي الجوانب التي فاجأتك؟
عندما تحدثنا آخر مرة، توقعت أننا سنشهد اعتماداً سريعاً وواسع النطاق للأدوات الرقمية في مختلف القطاعات، وأن هذا سيوسع مفهومنا الجماعي لمكان العمل "المثالي".
كما نعلم الآن، أصبح اعتماد القوى العاملة السائدة للأدوات الرقمية هو الحالة الطبيعية خلال الجائحة (على سبيل المثال، نمت شركة زوم بنسبة 326% عام 2021 وحده). ومنذئذ، ولّدت أنماط التواصل -التي أصبحت متاحة بسبب هذه الأدوات بصفتها جزءاً من العمل اليومي- أثراً دائماً وطويل الأجل.
على وجه التحديد، أدى استخدام هذه الأدوات على نطاق واسع إلى تحول هيكلي في التعريف السائد لـمكان العمل؛ أي وسط العمل الخاص بالفرد والأدوات والموارد المستخدمة في إنجاز العمل. قبل عام 2020، كانت الفكرة التي تنص على أن الموظفين قادرون على إنجاز عملهم في أي مكان مرتبطة إلى حد كبير بالعاملين في مجال التكنولوجيا والعاملين الشباب؛ ولم يكن تطبيق هذه الفكرة ضرورياً تماماً، ما يعني أنها كانت نظرية إلى حد ما بالنسبة للعديد من المؤسسات. بينما حاولت المؤسسات تحديد الطرق التي تضمن نجاح العمل خلال "التجربة القسرية" التي فرضتها الجائحة، فقد تعرفت على نحو عملي مباشر إلى العوامل التي يتطلبها هذا التحول في ديناميات مكان العمل على نحو ملموس. غيّرت المعلومات الجديدة المكتسبة في هذه العملية تصوراتنا وجعلت مفاهيمنا عن طبيعة مكان العمل أغنى. بالنسبة للكثيرين، لم يكن العمل عن بعد مجرد استجابة لظرف مؤقت، بل كان تجربة غيّرت ثقافة مكان العمل بالكامل. مثّلت هذه الفترة مرحلة لا عودة منها، كما قلنا في المقابلة السابقة.
مع ذلك، فاجأتني نتيجتان.
الأولى هي إعادة الموظفين النظر في قيمة عملهم ووقتهم بالنسبة لهم وطرقهم في بذل جهدهم ووقتهم. النتيجة الثانية هي تفاقم تجربة كان يمر بها الشباب والمراهقون بالفعل، وهي تجربة توسعت لتشمل أجيالاً أخرى: العزلة. بيّنت الدراسات مراراً وتكراراً العلاقة الوثيقة بين الوقت المستهلك في استخدام الأجهزة ذات الشاشات أو وسائل التواصل الاجتماعي وزيادة معدلات الاكتئاب والعزلة المتصورة، التي وصفها الجراح العام الأميركي بأنها أزمة صحية عامة بحلول عام 2023.
ما مدى أهمية ذلك في فهمنا لأماكن العمل اليوم؟
يقوم مكان العمل في جوهره على العلاقات بين الموظفين؛ فهو ليس مجرد مبنى مكتبياً أو شبكة رقمية تربط بين الزملاء وبيانات العمل، بل إنه كلاهما وأكثر. بما أن مكان العمل هو سوق، فعُملتاه المهمتان هما الإنتاجية ورأس المال الاجتماعي. وبما أنه مجتمع اجتماعي، فالعنصر الحاسم فيه هو الثقة التي تحكم التواصل والتعاون والتماسك في فرق العمل والشعور بالانتماء إلى المؤسسة.
أدّت الجائحة دور عدسة مكبرة؛ إذ إنها سلّطت الضوء على الظروف القاسية التي لم يخضع لها عالم العمل السائد قبلها وأتاحت لنا اختبار أثر نموذج "العمل من أي مكان" الذي أصبح ممكناً بسبب التكنولوجيا، والتنازلات التي فرضها. أتاحت الجائحة لنا أيضاً أن نختبر مباشرة أثر التفاعل المستمر في الفضاء الرقمي بصفته الوسيلة الأساسية للتواصل مع الآخرين، والتنازلات التي فرضها.
المسألة الثانية مهمة ومعقدة جداً؛ ففي حين أن نجاح المؤسسات في المستقبل سيعتمد إلى حد كبير على قدرتها على دمج التكنولوجيا في جوانب الشركة جميعها، خاصة عمل البشر مع الآلة (خذ في الاعتبار ظهور دور الرئيس التنفيذي للذكاء الاصطناعي والتطورات الأخيرة في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي)، هناك الكثير من العمل الذي يجب أن ننجزه حتى نتمكن من بناء الروابط الاجتماعية والأنسجة الاجتماعية لمجتمعات العمل والحفاظ عليها. يكمن التحدي الذي تواجهه الشركات في تحقيق التوازن بين الفوائد الحقيقية للقوى العاملة البشرية الأكثر ترابطاً من الناحية التكنولوجية من جهة، والأثر الطويل الأجل للتكنولوجيا في البشر وعلاقتهم فيما بينهم من جهة أخرى.
يذكّرني ذلك بعامل يذكره الرؤساء التنفيذيون كثيراً حول سبب ضرورة عودة الموظفين إلى العمل من المقر المكتبي على الأقل بضعة أيام في الأسبوع، إن لم يكن بالكامل: أهمية التعاون وجهاً لوجه. (ذكرت شركة أمازون هذا العامل مؤخراً). هل هذه هي الطريقة الوحيدة للتواصل الحقيقي مع الآخرين، أم أن العمل عن بُعد أو العمل الهجين يتيحان هذا النوع من التواصل أيضاً؟
هناك جوانب معينة من العمل يحسّنها الوجود في المكان نفسه مع الآخرين، مثل التعاون والتعلم والتواصل الاجتماعي وحل المشكلات بطرق إبداعية وصناعة القرارات المعقدة. هذه التجارب لها أثر مباشر في تعزيز البنية التحتية الاجتماعية للمجموعة أو المؤسسة بمرور الوقت، وهي تعزز التضامن والتماسك في الفِرق (كلاهما عامل أساسي يؤثر في أداء المجموعة).
وفقاً لتجربتي الخاصة في دراسة الفرق التكنولوجية العالية الأداء (في مسابقات الروبوتات)، لاحظت أنه عندما تواجه الفرق مسألة معقدة جداً، يعمل أفرادها على تنظيم أنفسهم على نحو يكاد يكون تلقائياً بحيث يعملون معاً في مكان واحد بهدف دمج وجهات نظرهم المتنوعة بسرعة أكبر والتوصل إلى حلول مبتكرة بكفاءة أعلى، والفوز بالمسابقة. لا شك في أنه على مدار مشروع الروبوتات بأكمله، يمكن أن يكون العديد من الأنشطة غير مرتبط بمكان العمل؛ إذ ينجز الفريق العمل في أي مكان. كما أن الروابط الاجتماعية بين أعضاء الفريق تتعزز وتستمر في نقاط اتصال مختلفة. نطلق حالياً على هذا النوع من العمل اسم "العمل الهجين"، وهو يجري عبر الإنترنت وعلى نحو شخصي على حد سواء. لكن ما يحافظ على تماسك الفريق خلال عمله هو النموذج الذهني المشترك الذي يتمحور حول تحقيق هدف جماعي أسمى.
هذه هي النقطة التي نحتاج فيها إلى إعادة الصياغة؛ إذ يواجه العديد من القادة في المؤسسات صعوبات كبيرة في إقناع الموظفين بالعودة إلى العمل من المقار المكتبية، والمتغير الذي يجب التركيز عليه هو الوقت، وهو لا يتعلق بعدد الأيام المخصصة للدوام في المقر المكتبي أسبوعياً بل باستقرار المؤسسة ونموها في السنوات المقبلة بصفتها مجتمع عمل.
إذاً، هل هناك قدر أساسي من التعاون الشخصي والعمل في المقر المكتبي لحل مشكلات محددة والحفاظ على ثقافة الشركة على المدى الطويل؟
نعم، ويجب أيضاً أن نتذكر أن حل هذه المشكلة كان أسهل قبل الجائحة. على سبيل المثال، قبل 5 سنوات، كان المسؤولون في المؤسسات التكنولوجية يسألونني قائلين: "كيف نعزز كفاءة العمل في المكاتب لصالح القوى العاملة المستقبلية"؟ بيّن تاريخ القطاع أنه إذا أخذنا في الاعتبار شركتين، تتمتع الأولى بمكان عمل منخفض الجودة بينما تتمتع الثانية بمكان عمل مصمم خصوصاً لتحسين التفاعل والتعاون، فإن الشركة الثانية ستتفوق على الأولى. هناك طرق للتلاعب بتصميم المكتب لتحقيق أهداف معينة، ومن الممكن قياس أداء المكاتب. مع ذلك، لم تكن أهمية مكان العمل المادي بصفته مسرحاً للتفاعل الاجتماعي موضع تساؤل قبل الجائحة، لدرجة أن مكاتب شركات التكنولوجيا كانت جميلة وتمتع بميزات وامتيازات وحوافز مميزة لجذب أصحاب المواهب والاحتفاظ بهم، ما حدد معيار "المكتب المثالي" للأجيال الشابة في مختلف القطاعات.
يجعل التحدي الذي يواجهه العديد من الشركات اليوم، وشركات التكنولوجيا على وجه الخصوص، هذه الحقيقة التاريخية اعتباراً ثانوياً تقريباً. تسعى المؤسسات جاهدة للتوصل إلى طريقة لإعادة الموظفين إلى المقار المكتبية تتميز بأنها ليست مجرد صفقة ("أُنجز عملي وأعود إلى المنزل") ودون أن تتعطل بسبب الجدل حول نقاط خلاف حقيقية ومعقدة ("أنا من كبار القادة، ولي الحق في العمل من المنزل"، أو "أنا عامل شاب وأتقن استخدام التكنولوجيا جيداً، لذا يمكنني أن أكون منتجاً أينما عملت"، وما إلى ذلك). من الصعب صياغة عرض قيمة مشتركة للعودة إلى العمل من المقر المكتبي يكون مقنعاً أو مغرياً بما فيه الكفاية عند مقارنته بالمرونة الكبيرة التي يتيحها العمل من المنزل.
بالتالي، إذا عاد الموظفون إلى مكان العمل العالي الجودة في شركة التكنولوجيا السابقة الذكر وتغير العقد الاجتماعي لسبب ما أو لم يشعر الأفراد (خاصةً الأصغر سناً منهم) بالأثر الإيجابي لتجارب العمل الواقعية المباشرة في نموهم المهني والشخصي، أو لم يشتركوا بهدف جماعي أسمى للشركة، فلن يكون مكان العمل ناجحاً بالضرورة. قد يكون مكان العمل عالي الجودة من الناحية المادية، ولكن البيئة بحد ذاتها ستكون جامدة لا تنبض بالحياة.
بعبارة أخرى، أصبحت امتيازات المقار المكتبية مختلفة اليوم، ولن تعالج مجرد إضافتها مجدداً أكبر التحديات التي تواجهها الشركات فيما يتعلق بأمكنة العمل.
صحيح. لا يضمن قضاء الوقت في المكان نفسه التعاون والابتكار والتفاعلات العفوية. قد يسهم العمل في المكان نفسه في الوصول إلى بعض النتائج بينما يقلل احتمال الوصول إلى غيرها، ولكنه ليس سبب هذه النتائج. قد يكون مكان العمل ملهماً بجماله، كما أنه قد يرفع مستوى تطلعات الموظفين (خذ مثلاً القيمة الرمزية لمكتب الزاوية بالنسبة لأفراد الأجيال السابقة)، ولكن من الواضح أن تؤدي أماكن عدة خارج المكتب الدور نفسه.
بيّنت أغلبية أبحاثي حول فرق التكنولوجيا كيف يمكن أن تكون بيئة العمل مركز ابتكار حقيقياً حتى إذا لم تبدُ عالية الجودة عملياً أو حتى إذا كانت مصممة لغرض العمل فقط (مثل المرآب الذي تنطلق منه الشركة الناشئة أو المختبر المشترك البدائي الذي يبدأ منه العمل على المشروع). ما يحوّل حتى البيئة المادية المتواضعة (مثل مكان العمل المنخفض الجودة في الشركة السابقة الذكر) إلى بيئة تعزز الابتكار هو الأشخاص فيها وما يجذبهم إليها ويحفزهم على البقاء فيها معاً.
بعد الجائحة، وظاهرة الوحدة والعزلة الناجمة عنها والآخذة في الانتشار، يبدو أن الوقت حان للاعتراف بضرورة بذل جهد كبير في إعادة بناء النسيج الاجتماعي والبنية التحتية الاجتماعية لمؤسساتنا أولاً، أو على الأقل بالتوازي مع التفكير في إجراءات العودة إلى المقر المكتبي. في هذا الصدد، يمكننا أن ننظر إلى مكان العمل المادي على أنه أداة فريدة من نوعها يمكن الاستفادة منها استراتيجياً في تمكين عملية إعادة البناء الطويلة هذه.
ما هي توصياتك فيما يتعلق بدور مكان العمل المادي في عملية إعادة البناء هذه؟
أولاً، بالنسبة للعمل الهجين، أشجع على استخدام المقر المكتبي بطريقة تتوافق مع مراحل تطور المشروعات التي تعمل عليها الفرق بدلاً من تحديد عدد من أيام الدوام الأسبوعية للعاملين.
قبل الجائحة، كانت أغلبية الفرق العاملة عن بُعد أو الموزعة تعتقد أن الاجتماعات السنوية خارج المكتب هي ممارسة مفيدة، فهي تجمعات شخصية تساعد الفريق على تركيز أنشطته الجماعية على هدف محدد، وهي تعزز الترابط والتعارف بين أفراده عموماً. للمؤتمرات تأثير مشابه غالباً؛ إذ إن التجربة المادية في الحدث تجعل مجموعة الحاضرين مجتمعاً واحداً، ويولّد تكرار الحدث سنوياً توقعات لنقاط التواصل والأهداف المستقبلية. على نحو مشابه، من الممكن تصور استخدام المقر المكتبي على أنه عنصر تدخله الشركة في مرحلة حاسمة من دورة حياة المشروع، وتحديداً عندما يستفيد أفراد الفريق من فترات التعاون الشخصي المركّز والمستمر.
على سبيل المثال، مرحلة تحديد الرؤية ووضع خطة التنفيذ في بداية مشروعات مبادرات البحث والتطوير، ومرحلة الاختبار والإطلاق في نهايتها، هي المراحل المناسبة لاستخدام المقر المكتبي. قد يتطلب ذلك تنظيم عمل الفريق على النحو التالي: العمل ضمن المقر المكتبي ضمن هذه المراحل بدوام 5 أيام أسبوعياً على مدار 4-6 أسابيع متواصلة، ثم الانتقال إلى العمل عن بُعد أو العمل الهجين عند اكتمال مراحل معينة. على سبيل المثال، يمنح تصور طريقة استخدام مكان العمل على مدار 12 شهراً للمدراء فترات زمنية أطول لهيكلة مبادرات الفريق التعاونية ويمنح الموظفين المزيد من الصلاحيات في تخطيط وقت عملهم داخل المقر المكتبي وخارجه. يؤدي تطبيق هذه الطريقة على الفرق جميعها إلى تحديد آلية لاستخدام مكان العمل على أنه أداة تدعم الفريق في المراحل الحرجة من المشروعات، مع زيادة استخدام المقر المكتبي على أنه أصل عقاري في مختلف أنحاء المؤسسة.
ثانيًا، أود أن أشجع المؤسسات على منح الأولوية لاستخدام العمل ضمن المقر المكتبي في الوظائف التي من المرجّح أن تعزز التواصل الاجتماعي ورأس المال الاجتماعي عبر المؤسسة. وفقاً لخبرتي، تشمل هذه الوظائف تمكين حل المشكلات المعقدة والتعلم المتبادل بين الأجيال وصقل المهارات.
بما أن التفاعلات على أرض الواقع تتطلب حضورنا الجسدي، فهي تتيح لنا أيضاً أن نتبادل المعرفة على نحو أكثر ثراءً (لأنها تتضمن عدداً أكبر بكثير من القنوات، مثل الإشارات والتواصل البصري وغير اللفظي ولغة الجسد والقرب الجسدي ومستويات الصوت وتفاصيل تعابير الوجه وما إلى ذلك). كما نعلم، تزيد قدرة الموظفين على حل المشكلات المعقدة وصناعة القرار في المؤسسات من خلال دمج وجهات النظر المختلفة (الممثلة بالآراء المختلفة وتدفقات البيانات المختلفة) عند معالجة النواحي المختلفة للمشكلة. أدّت أمكنة العمل المادية دوراً تمكينياً كبيراً عبر التاريخ في هذه الحالات، على الأقل في قطاع التكنولوجيا. سواء كان اسمها "التجمعات" غير الرسمية في فرق المنافسة الشابة أو "غرف الحرب" في الشركات الناشئة أو "غرف العمليات" في مكاتب التكنولوجيا الأكثر رسمية، فإن هذه الأوساط التعاونية تمهد الطريق لأصحاب المصلحة لجمع البيانات التخصصية والمتعددة التخصصات ومشاركتها، ما يعزز كفاءة حل المشكلات وصناعة القرار على نحو جماعي.
التعلّم المتبادل بين الأجيال هو أحد أشكال هذا النوع المهم من نقل المعرفة في المؤسسات الكبيرة على وجه الخصوص، وتزداد أهميته عندما يوفّر الموظفون الأصغر سناً مجموعة جديدة من المهارات الفنية ووجهات النظر الجديدة، بينما يوفّر الموظفون الأكثر رسوخاً المعرفة العملية وخبرة الحياة، وهي جميعها جوانب قيمة في الابتكار. بالمثل، في سياق صقل المهارات وتحسينها والتعلم المستمر، تزيد الاختلافات في تفضيلات التواصل والتعلم بين الأجيال الأصغر سناً والأكبر سناً احتمال نقل المعرفة والتوصل إلى المعارف الجديدة عندما تُجري الفرق هذه الأنشطة في مساحة تعاونية مادية.
عند إعادة بناء البنية التحتية الاجتماعية للمؤسسات، تعزز وظيفتا حل المشكلات المعقدة والتعلم المتبادل بين الأجيال ترابط الفريق عندما تمثلان تجارب مشتركة وواقعية، ما يجعل إعادة النظر فيهما من منظور استراتيجي ضرورة بعد الجائحة. تشير الأبحاث إلى أن بناء كل من العلاقات مع أشخاص من خارج المجموعة والروابط بين الأشخاص من مختلف مستويات السلطة في المجتمع المحلي يرتبط بتحسين صحة المجتمع. يمكن تطبيق الأمر نفسه على صحة مجتمع العمل وتماسكه. تتيح العودة إلى المقر المكتبي بعد الجائحة، بأشكالها المختلفة، للقادة فرصة التفكير بعمق في ثقافة العمل ومجتمعه على المدى الطويل، وهذا ضروري لتحقيق أهداف المؤسسات.
في الختام، كان أحد الأسئلة المهمة التي طرحناها عام 2020 هو: "ما هي فائدة المقر المكتبي؟" كيف تجيبين عن هذا السؤال اليوم؟
لم يتغير موقفي العام من دور المقر المكتبي، فالوسط المادي له دور فريد من نوعه في تمكين عمل البشر ومساعيهم. مع ذلك، أعلم أن إجابتي ستختلف قليلاً اليوم عن الإجابة التي قدمتها منذ 5 سنوات.
يتبادر إلى ذهني الآن نص كتبته معلمة بريطانية من أواخر القرن التاسع عشر قرأته خلال الجائحة، تشير فيه إلى أهمية أن يستكشف الأطفال الطبيعة ويلعبوا في الهواء الطلق للتعلّم، ووصفت طفلاً صغيراً يلتقط حصاة من جدول ماء ويراقبها مطولاً وهو يمسكها بين يديه المبللتين ويفرك سطحها الأملس بأصابعه. فعل الطفل ذلك كله وهو يربط، دون أن يدرك، بين الشيء الذي يركز عليه والماء البارد والتيار حول كاحليه وصوت الجدول المتدفق وما إلى ذلك. قالت المؤلفة إنه عندما يصبح الطفل كبيراً بما يكفي ليتعلّم مفهوم "التآكل" المجرد، فإنه سيتذكّر التجربة التي خاضها بجانب الجدول ويكوّن علاقة مختلفة نوعياً بفكرة "التآكل" أكثر ثراءً مما لو تعلّم المفهوم الشكلي وحده.
بما أنني أم لطفل صغير، مسّني هذا المثال البسيط على المستوى الشخصي آنذاك. بصفتي باحثة، أكدت أبحاثي التي أجريتها على مر السنين مراراً وتكراراً أن هذه الفكرة كانت ولا تزال صحيحة. أعتقد أنه من الإنصاف القول إننا جميعاً مررنا بتجارب مشابهة في العمل، ربما خلال فترة التدريب الصيفي أو في وظائفنا الأولى، عندما أصبحت المفاهيم التي تعلمناها في مرحلة الدراسة واقعاً مباشراً فجأة عندما اختبرناها مع الآخرين "في العالم الحقيقي"، كما نقول عادة.
سيستمر المقر المكتبي، وأي مكان عمل فعلي، في أداء دور مهم في تشكيل مستقبل المؤسسات، ولا سيما تلك التي تستفيد من الدمج بين عمل البشر والآلات. بالطبع، لدينا أدلة تبين أنه من الممكن تحقيق أهداف الإنتاجية وتجاوزها من خلال العمل عن بعد حصرياً. بالمثل، توصلنا الآن إلى فهم أعمق للمقايضات التي يضطر كل من الأفراد والفرق إلى إجرائها بمرور الوقت من أجل العمل عن بعد. لدينا الآن معارف جديدة وصورة أوضح تساعدنا على اتخاذ قرارات مستنيرة أكثر.
لكن في نهاية المطاف، البشر كائنات تعتمد على العلاقات؛ فنحن نكتشف جوانب من أنفسنا في علاقاتنا مع الآخرين، ونتعلم فهم المفاهيم المجردة في التجارب التي نخوضها عند التفاعل مع الآخرين في العالم. عندما أفكر في أفكار مجردة مثل الإدارة الرشيدة والتعاطف والنزاهة والقيادة، كلها خصائص المؤسسات العظيمة، لا يسعني إلا أن أتساءل عن المقايضات التي سيضطر قادة المستقبل وستضطر المؤسسات المستقبلية إلى إجرائها دون خوض تجارب مثل تجربة "حصاة الجدول" مع الآخرين.