ماذا لو كان على الحكي جمرك؟

3 دقيقة
تأثير الهالة
freepik.com/storyset

أخبرني عدد من الزملاء المغاربة أنّ نظرية المؤامرة حول نتائج مباريات كأس العالم تنتشر الآن على نطاق واسع في هذا البلد، وترجح أن خسارة المنتخب المغربي في الدور نصف النهائي أمام فرنسا كانت نتيجة مؤامرة دولية. والنظرية تقول: إن العالم الذي تحكمه قوى خفية لم يقبل بعد بصعود بلد عربي أو إفريقي لنهائي كأس العالم. بل يعتقد بعض المؤمنين بهذه النظرية أن منتخب المغرب تسبب بالخسارة لنفسه عمداً، لأنه لن يستطيع مخالفة إرادة هذه القوى الخفية. 

القصة ليست هنا، بل إن المعلومة التي فاجأتني، هي أن من ساهم بانتشار هذه النظرية وقبولها على نطاق شعبي واسع هو طبيب تغذية شعبي مشهور في المغرب يتابعه الملايين. فجأة توقف هذا الرجل عن إعطاء نصائح التغذية التي تابعه الناس ووثقوا به بسببها، وبدأ يدلو بدلوه في التحليل السياسي لكرة القدم. وانتقلت قناته على يوتيوب من قناة كان شعارها "محاربة العشوائية والتضليل في الميدان الغذائي لكي لا يتضرر الناس عن جهل" إلى قناة تذكرنا بأن العدو سيبقى عدواً ومترصداً بهذه الأمة. 

في الوقت ذاته تقريباً، تابعتُ في دولة عربية أخرى، كيف بدأ حساب مشهور على تويتر متخصص بأخبار الطقس يدلي بدلوه حول نظرية المؤامرة، فقد رأى كيف تفاعل الناس مع المحتوى الرياضي ومحتوى كأس العالم، فقال لنفسه، ما المانع؟ فلنتحدث في الرياضة. وبدأ بين الفترة والأخرى يمرر بعض الفيديوهات التي لا علاقة لها بالطقس، بل كان معظمها فيديوهات مقتطعة من سياقها، وتم التلاعب بها لتكشف لنا أن ثمة من يتآمر على العرب أو الأفارقة أو المسلمين. كان الجديد في قصة خبير الطقس هذا، هو أن متابعيه كانوا يكشفون زيف الفيديوهات التي يشاركها أو أنها مقتطعة من سياقها عبر التعليقات، لكنهم بعد أن يئسوا من تفنيد فيديوهاته، بدأت تعليقاتهم تتوحد وكأنها مظاهرة ضده؛ "خلك في الطقس، خلك في الطقس، خلك في الطقس".

حسناً، ما الذي يجعل الناس التي تتابع شخصاً خبيراً بالتغذية أو بالطقس تقتنع وتتأثر برأيه في السياسة أو الرياضة أو علم النفس؟ الجواب، هو ذاته الذي يجعل عارضة الأزياء المشهورة تقدم نصائح في الصحة وتطوير الذات وأفضل أنواع السيارات والأجهزة الإلكترونية. لقد تحول كل مشهور إلى سلاح تأثير في أي شيء يريده. ولذلك فهم يُسمَّون مؤثرين، لدرجة أن الكثير منهم نسي السبب الرئيسي الذي جعله مشهوراً، وأصبح ينظر لنفسه كمؤثر فقط. يعتمد هؤلاء على انقياد العقل البشري لظاهرة تعرف علمياً باسم تأثير الهالة (Halo Effect)، وهي انحياز سلوكي معروف في علم النفس يجعل الناس يضفون هالة على الشخص المشهور، بحيث تُعميهم هذه الهالة وتجعلهم يتأثرون بكلامه وأفعاله حتى لو كانت خارج اختصاصه. 

هل تعلم أن المظهر الخارجي لمقدم الإعلان أو البائع أو حتى المتهم إذا كان شكله جذاباً، يضمن له تمرير ما يود قوله وفقاً لدراسات أجريت على قضاة ومستهلكين، وكانوا جميعاً يخضعون دون أن يشعروا لتأثير الهالة؟ فالرجال يشترون أكثر عندما يكون البائع رجلاً ذا مظهر رجولي "من عضلات ونحوها"، والمستهلكون يشترون السيارات والمنتجات التي ترتبط إعلاناتها بأشخاص جذابين إذ تُباع هذه المنتجات بشكل أكبر، حسب الباحث في علم النفس روبرت تشالديني في كتابه "علم نفس الإقناع" (The Psychology of Persuasion)، كما أن القضاة يحكمون لصالح ذوي المظهر الجذاب بشكل أكبر وفقاً لعديد من الدراسات التي استعرضتها الباحثة القانونية رد هولير. (تفاصيل أكثر في مقال سابق لي بعنوان: لماذا باتت المسؤولية الاجتماعية في الإعلام ضرورة).

إذا عرفت هذا التأثير النفسي، فهل ستستطيع أن تحمي نفسك من الانجرار وراء نظرية يروج لها شخص غير مختص؟ ربما تستطيع أن تقول له "خلك في التغذية أو خلك في الطقس"، ولكنك ستبقى أمام "ماسورة فتحت" كما يقول المصريون بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، وربما لن تنغلق بسهولة. ولأن الجميع يستطيع أن يتحدث على وسائل التواصل الاجتماعي، وليس على الحكي جمرك أو رسوم جمركية كما يقال في المثل الشامي، فإننا أمام مختصين وغير مختصين يتحدثون من دون جمرك، وربما زادت هذه الظاهرة خلال السنوات الأخيرة مع انتشار منصة تيك توك التي أتاحت لأي شخص أن يقدم نفسه كخبير في كل شيء، يمارس تأثيره على ملايين المراهقين والأطفال دون حساب.

يقول الفيلسوف والمفكر نيكولاس طالب في كتابه الجديد "على المحك" (Skin In The Game): تجنبوا أخذ النصائح ممن يعتبر تقديم النصائح مصدر دخله. ويمكنكم أخذها في حالة واحدة فقط، وهي أن تكون هناك غرامة تُفرض على نصائحه السيئة أو الفاشلة. 

ماذا لو كان على نتائج الحكي جمرك أو رسوم جمركية، وماذا لو كان على الحكي الذي يدلي فيه غير المختص بمعلومات زائفة مسؤولية وغرامة؟ لا أتحدث هنا عن دور للدولة، بل عن دور للناس أنفسهم، فهم من يستطيعون أن يفرضوا هذه الغرامة والمسؤولية عبر مقاطعة هؤلاء، وإمطارهم بتعليقات مثل "خلك في الطقس وخلك في التغذية وخلك في اختصاصك".

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي